أخبار ثقافية

استعادةُ نجيب محفوظ كاتبًا مسرحيّا

تخلّصَ (محفوظ) في مسرحِه من تلك التفاصيلِ وجَرَّدَ عالَمَه من كُلّ الزوائدِ ما وَسِعَه التَّجريدُ- نشطاء تويتر

تعدّدَت آيات الكُتُب المقدسة التي تسرد حكاياتٍ ترتبطُ بحِكَمٍ مقصودةٍ، والتي أغفلَت ذِكرَ أسماءِ أبطالِها ليَبقَى رُوحُ الحكايةِ عالَميًّا صالحًا لكل زمانٍ ومكان.

 

وهكذا يبدو أنّ كاتبَنا الكبيرَ كان رائده النّصّ المُقدَّس وهو يخُطُّ نصوصَه المسرحية السِّتَّة، حيث إنّ أوضحَ السِّمات المشترَكة بين هذه النُّصوص هي أنّه لم يذكر اسمَ بطلٍ واحدٍ من أبطالها.

 

ففي (يُحيي ويُميت) هناك (الفتى – الفتاة – الطبيب- العملاق – الشحاذ)، وفي (التَرِكَة) لدينا (الفتى – الفتاة – الغلام – المُخبر – الضابط – السكرتير – المهندس)، وهكذا يَطَّرِد الأمر.

وهو تصرُّفٌ يبدو غريبًا بالقياس إلى رواياتِه الملتحِمة بطِين الحياة ودمائها، المُغرِقة في التفاصيلِ الدقيقةِ التي طالما مثَّلَت في التّلّقّي النقديِّ لـ(محفوظ) جانبًا مهمًّا من عبقريتِه، كما عُرِفَ باختيارِه أسماءَ أبطالِه معجونةً بسياقِها الرّوائيِّ وأحداثِه، نابعةً من خصائص شخصيّاتِهم.

 

هكذا تخلّصَ (محفوظ) في مسرحِه من تلك التفاصيلِ وجَرَّدَ عالَمَه من كُلّ الزوائدِ ما وَسِعَه التَّجريدُ، حتى وصلَ بأشخاصِ نصوصِه المسرحيةِ إلى ما يُشبِهُ الرُّموزَ النّقيّة الخالصة. 

وفي تقديري أنّ هذا التجريدَ يُشير إلى تعامُل كاتبِنا مع المسرح باعتبارِه كيانًا مُفارِقًا، أعلى من عالَم الواقعِ عِدَّةَ درَجاتٍ، يكادُ في صفائه وعالَميّتِه يَصِلُ إلى مفهوم (المُثُل) عند أفلاطون أو (الموضوعات الأزَليّة) في فلسفة (وايتهِد).

 

يعضِّد هذا التصوُّرَ التزامُه الفُصحى وسيطًا لحِوار شخصيّاته، كأنّه يريدُ لجمهورِه أن يتطلّع إلى ما يَدور على خشبة المسرح باعتبارِه فنًّا خالصًا يُقطِّرُ الواقعَ إلى عناصِرِه الأساسيّة ويقدِّمُها عارية.

 

وهو رغمَ إدراجِه بعض الكلمات الشائعة في العامّيّة المصريّة في مَتن الحِوار بين حِينٍ وآخر، لا يكتفي بمعياريّة اللغة، وإنما يَختارُ مِن التراكيبِ أحيانًا ما لا يبدو شائعًا حتى في الاستخدام الأدبيّ السرديّ، فمَثَلاً، نَجِد الرجُل غريبَ الأطوار يقول للشابّ في نَصّ (المهمَّة): "ولكنَكَ شابٌّ مهذَّبٌ بريء الساحة." 

وثمّ سِمةٌ أخرى مشتركة بين النصوص الستة، هي أنها جميعًا لا تتعدى الفصل الواحد، بل إنّ معظمَها لَيَدُور في فلَك المَشهَد الواحد.

 

ويبدو لي أنّ كاتبَنا الذي أسلَم الروايةَ الشطرَ الأكبرَ من عُمرِ قَلَمِه وجعلَ منها مُعادلاً أدبيًّا للعَقل في معمارِه الكاملِ وهو يتفاعَلُ مع الواقع، تعاملَ مع المسرحِ تعامُلاً (مجنونًا) إن جازَ التعبير! أعني أنّه كما يبترُ فنُّ القِصّة لحظاتٍ من سَيّالِ الحياةِ ويقدّمُها للقارئ جاعلاً منها عالَمًا صغيرًا بديلاً مُحكَمَ الإغلاقِ – كما يفعلُ الفُصاميُّ المحبوسُ في نَسَقٍ مِن الهلاوس والضّلالاتِ يمثِّلُ عالَمَه الخاصَّ – تعاملَ (محفوظ) مع المسرحيّة باعتبارِها أقربَ إلى قِصّةٍ مبتورةٍ من الحياة، لا إلى روايةٍ تجسّدُ معمارَ العَقل في كُلّيّتِه. وبالتالي فقد مال مسرحُه إلى الطرَف الأكثر جنونًا من إبداعِه، فجاءَ أَعلَى من العَقل التقليديّ اليوميّ. 

تدور أحداثُ (يُميتُ ويُحيي) على خلفيّةٍ متعاليةٍ صراحةً على الجغرافيا والتاريخ، حيث قال (محفوظ) في توجيهاته المسرحية الافتتاحية: "الطابَع تجريدي." وفي هذه المسرحية فتىً يدخل إلى خشبة المسرح مهزومًا في اشتباكٍ بالأيدي.

 

اقرأ أيضا: إطلالةٌ على "ملحمة الحرافيش" من منظور ثنائيّة البناء والهدم

 

والمهمُّ أنّ خلفيّة المسرح مصطبةٌ تمثّل مقابر لأجداد الفتى الأموات، وهو لا يفتأُ يُهيبُ بهم ويُناديهم ليجيبوا عن أسئلةٍ له من قبيل "هل تسمعون ما يُقال؟ ماذا فعلتم بالموت وماذا فعلَ بكم؟ من هو البطل؟ هل هو المحارب؟ هل هو المسالم؟"، لكنه لا يتلقى منهم إلا صدى صوتِه، كأنّ دروس التاريخِ المزعومةَ ليست إلا مجرّد أحداثٍ محايدةٍ متروكةٍ لتأويلِ الخَلَف، فالبطل هو البطل والمحارب هو المحارب والمسالم هو المسالِم، لكن لا إجابة! ولا يهُبُّ الموتى من رُقادِهم مُناصِرين لحفيدِهم إلا في النهايةِ حين يقرر المُضِيَّ للذود عن كرامته دافعًا العملاق بعيدًا عن طريقِه.

 

والخلاصةُ أنّ صِفَتَي الإحياء والإماتة في عنوان النّصّ، كما تجوز نسبتُهما إلى الرّبّ على الإطلاق بالطبع، فإنّه تجوز نسبتُهما إلى الإنسان خليفة الرّبّ، وذلك أنّ الفتى يقولُ بعد حُلم يقظةٍ يصفُ فيه هُبوب الأموات من رقدتهم وخوضَهم معارك فاصلةً: "إذا ماتَ الأمواتُ أدركَ الفَناءُ كُلَّ شيء"، فالأمواتُ بالتالي ظلُّوا أمواتًا طالما تخبَّط حفيدُهم في موقِفِه واكتنفَه التردُّد، لكنّه أحياهم بمجرَّد عَقدِه العَزمَ على الجهاد في سبيل كرامتِه وحرّيّة أرضِه.

 

هكذا يُسرِّبُ (محفوظ) رسالةً عبرَ نَصِّه، فحواها أنّ الإنسان (يُميتُ) أمواتَه إن استُغرِقَ في لحظتِه الحاضرةِ فقط كالسَّوائم، وهو ما أرادت الفتاةُ صاحبَها أن يفعلَه، حيثُ تقول له في البداية: "إذا أردتَ الحياةَ حَقًّا فلا تَنظُر إلى الوراء"، فيرُدّ "ولكن الوراء هو الأمام" فتقول "ولا تنظر إلى الأمام.

 

فَلتَغرق في عَينَيَّ تُوهَب خُلودًا بين الظُّلمَتَين!" أمّا إذا نظر الإنسانُ أمامه ووراءه لتتحقق إنسانيَّتُه فهو يُحيي مَوتاهُ ويستحضِر التاريخُ ويستنطقُه، وتتحقق خلافتُه لله عبر هذين النقيضَين، حيثُ يُميتُ ويُحيي!
     
في (الترِكة) نَجِد طيفًا من (أولاد حارتنا) رواية (محفوظ) الأشهر، فالمهندس ممثّل العِلم يأتي في النهاية ليُزيحَ الوَلِيَّ من بؤرة الضوء ويحتلّ مكانَه، تمامًا كما جاء (عَرَفَة) ممثل العِلم في نهاية (أولاد حارتنا) ليقوم بدَورٍ مماثل.

 

ولعلّ شذراتٍ من الحِوار تُفصِح عن محورية هذا الخَيط في نسيج النّصّ، فالفتاة صاحبة الوريث الفاسد صاحِب الخّمّارة تسأل المهندس "ألم تحاول الاتفاق مع صاحب البيت قبل وفاتِه؟" فيُجيب: "حاولتُ وعرضتُ عليه بيتًا جديدًا في مَطلَع الحيّ، ولكن كان لكلٍّ منّا لُغةٌ يستعصي على الآخَر فهمُها!"، وفي لحظةٍ أخرى يقول المهندس ضاحكًا عن الوليّ "كان يقول لي "الطمأنينة هي هدفُ النفس البشرية" فأقول له "بل التقدُّم يا مولانا ولو بالجهد والقلَق"".

 

هكذا ألمحَ كاتبُنا إلى انكماش الدِّين وقُرب انقضاء عهدِه، ممثَّلاً في الوليِّ الذي لا يَظهر في المسرحية أصلاً ويُكتفَى بالإشارةِ إلى أنه "كان موجودًا هنا"، وحلول العِلم في الموقع الذي طالما شغلَه الدِّينُ مِن قبل، وهو فيما يبدو كان هاجسًا مُلِحًّا على أستاذِنا (محفوظ) ومؤرِّقًا له.   
  
في (النّجاة) يفاجأ رجُلٌ مشغولٌ بالقراءة في دفء بيتِه بامرأةٍ هاربةٍ من حادثٍ ما، ترجوه أن يُؤؤيَها دون أن يُلِحّ بسؤالِها عمّا وراءَها.

 

ورغمَ أنّ مَسًّا واضحًا من تيّار العبث موجودٌ في النصوص الستة إلاّ أنه هنا يبدو أوضَح، فنحنُ إزاءَ امرأةٍ هاربةٍ من شيءٍ نجهلُه، وهي تمارسُ الجنس مع صاحب البيت فيما يُشبه الصُّدفة، وتنتحِر في النهاية مُشفِقةً من الوقوع في قبضة مُطارِديها الذين لا نعرف عنهم شيئًا، لتنتهي المسرحية باقتحام الشُّرطة البيتَ وعدمِ إلقائها بالاً بالمَرَّةِ للمرأة النائمة/ الميّتة.

 

وهنا تتّضِح مفارقةُ العنوان المُراوِغ (النّجاة)، فالمرأة تبغي النّجاةَ وتنجو مؤقّتًا، لكنّها لا تَنجو النجاةَ النهائيّة إلاّ بعد أن تنتحِر إشفاقًا من المصير، فهي وضعها الإنسانيّ المتأزِّم مُقامِرةٌ متورطةٌ في لعبةٍ خطيرةٍ، ومثلُها صاحب البيت، وهكذا اختزلَ النّصّ الحياة العريضة لأبطالِه إلى لحظاتٍ قصيرةٍ يسرقون فيها بعض النَّشوة ويسكَرون هارِبين من اقتراب المصير، لكنّهم مُوقِنون بأنّ النهاية مهما ابتعدَت قريبةٌ منهم. 
  
في (مشروع للمناقشة) تجري الأحداث داخل مكتب مؤلِّفٍ مسرحيٍّ لفرقةٍ ناجحة، حيث يجتمع لديه المُخرج والناقد والممثل والممثلة.

 

يعرض المؤلّف عليهم فكرة مسرحية جديدة تدور أحداثُها بين رجل وامرأة في الغابة، تُحدِق بهما الأخطار، ويتغلّبان عليها، ثم يتعانقان في نهاية المسرحية، ويَسقُطان مَيِّتَين.

 

ومن تطوُّر العلاقة بين الأبطال نرَى نَصًّا قادرًا على الإشارة إلى العلاقة الملتبسة بين الخَلق والإله، فالممثّل حِين يشتطُّ يقدّم مُعادِلاً للزَّعم بأنّ الإنسانَ هو الذي صَنعَ الإله بتكرار الإشارة إليه "الحَقُّ أننا نحن الذين خَلقناك"، بينما المؤلّف حين يحتَدّ يقدّم مُعادلاً لتأكيد الكُتب المقدسة على أسبقية الإله على الخَلق وإحاطته بالوجود "لقد خلقتُ منكم نجومًا وكواكب ولن يُعجِزَني أن أخلُقَ غيرَكم".

 

ليس ذلك فحسب، وإنما نلمحُ إشاراتٍ إلى مسألة الجَبر والاختيار بين المؤلّف والمُخرج، وإلى مشكلة الشّرّ الفلسفيّة في تحسُّر الممثّل على أيام ازدهاره في أدوار البطولة: "وعلى المسرح كانت تتواجَه قوى الخير والشّرّ، والخير لم يكن ينهزم وإن حاقَت به هزيمة، والشر لا ينتصر وإن أحرز نصرًا، ذلك أنّ خشبة المسرح لم تكن تخلو من إلهٍ عادل." ويُوحي الخروج النهائي الصامت للمؤلّف بالحال الإنسانيّة الحائرة إزاءَ مشكلة وجود الإله والعلاقةِ به، فكأننا في (ساحة قِتالٍ حول الإله)!
   
أمّا نَصّ (المهمّة) فيقدّم لنا شابًّا يكتشف تتبُّع كهلٍ في الخمسين لخطواته من بداية اليوم إلى أن يصعد إلى بقعةٍ خَلَويّةٍ فوق هضبة صحراوية.

 

يواجهُ الكهلَ فيُنكر أوّلاً، وتظهر حبيبةُ الشابّ وقد وافَت في موعدِهما الغراميّ. يتلصصان على الكهل وقد أخذَته سِنةٌ من النَّوم، فيُفيق، ويتلصّص بدورِه عليهما وهما في عِناقِهما الحارّ، فيرميانه بالوقاحة، ويدافع عن نفسه بأنّه فقط يُحبُّ الناس.

 

يعرضُ صداقتَه على الشابّ ويرفضُها الأخير، وحين يشعُر الشابّ بألمٍ شنيعٍ في ركبته التي وقعَ عليها يستنجدُ بالكهل الذي يرفضُ مساعدتَه ساعةَ العُسر، لأنه رُفِضَ في ساعةِ اليُسر، ويتركُه لآلامِه. 

هنا يبدو أننا إزاء غنوصيّة إنسانيّة إن جاز التعبير، فالشائع مجتمعيًّا أنّ الصديقَ الحَقّ يَظهر وقت الشّدّة، وأنّ التطفُّل على حياة الآخَرين مرذول، بينما الكهل يمثّل دعوةً مفتوحةً لصداقةٍ غير مشروطة، ويعتبرُ اللحظة المثالية لها هي ساعة اليُسر حيث يستطيع التعبير عن محبّته الصافية للناس.

 

هو كهلٌ درويشٌ مُريدٌ، لكن ليس لله، وإنما للإنسان، وهو درويشٌ بطريقةٍ تجري على غير السَّنَن المُتصالَح عليه مجتمعيّا!

أخيرًا في (الأحمر والأبيَض)، يُشير اللونان إلى أزياء البَطَلَين اللذَين نشهَدُهما منذ طفولتِهما يلعبان معًا، هارِبَين من تلصُّص رجُلٍ لا يعرفان عنه إلاّ أنه كان يترددُ على والدِهما المتوفَّى، لكنه لا يلبث أن يلحقَ بهما، ويقفُ مراقبًا لهما في صمتٍ بعد أن يدور في المكان بسرعةٍ، ثم ينتهي المشهدُ الأولُ بأن يضربَ بسَوطِه الهواءَ فيفرّا مَذعُورَين.

 

يتكرر الأمر وهما يكبُران زيادةً في كل مشهد، فنشاهدهما موظَّفَين عموميَّين، ثم مُقبِلَين على الزواج (من عروسٍ واحدة!)، ثم كهلَين منشغلَين مع زوجتِهما المشترَكة بتدبير أمور المعيشة، ثمّ عجوزَين فانِيَين يُجريان جراحاتٍ لتجديد شبابهما ويتزوّجان عروسًا مشتركةً جديدة، ويختتم كلُّ مشهدٍ بظهور الرجُل ودورانه في المكان بسرعةٍ تزدادُ مع كلّ مَشهَدٍ ثم ضربِه الهواءَ بالسَّوط. وفي المشهد الأخير يَخرُجان زحفًا، ويبقى الرجُل مع العروس الجديدة الشابّة.

 

واللافت أنّ شخصيّة الأحمر مندفعةٌ من البداية إلى النهاية، فهو الأجرأ المقتحِم المندفع وراء غرائزِه ورغباتِه الأوّليّة، بينما الأبيَض هو الأوفَر عقلاً، المُحتاط دائمًا، الأقربُ إلى محاولة النّقاش مع الرجُل الغريب الصامت. وهما يشيران إلى الرجُل باعتبارِه دافعًا محتمَلاً وراءَ تطوُّرِهما وما حقّقاه من إنجازات، كما أنه يَظهَر للآخَرين، فكأنه يزورُ الناس جميعا!

هنا يبدو (محفوظ) متأثّرًا بنظريّة (فرويد) في النفس، وقِسمتِها إلى الهُوَ Id والأنا Ego والأنا الأعلى Super-ego، فهي على الترتيب تبدو ملهِمةً للأحمر والأبَيض والرجُل الصامت الذي يجسّد الضميرَ الحَيّ الذي لا يشيخ ولا يَهرَم.

 

وهو تأويلٌ أراه يفسّر بنجاحٍ فكرةَ العروس المشترَكة، فكأنّ الأحمر والأبيض إزاءَها زَوجٌ مقسومٌ على اثنَين. ونَجِد البطلَين مؤرَّقَين بهذا الضمير الغائب الكثيف الحُضور في ذات الوقت، فيقول الأحمر في أحد المَشاهِد "سيَسقط يومًا من الإعياء جُثّةً هامدة".

 

لكنّنا نلاحظ أن أديبَنا لا ينسى وهو في ذِروة تجريديّتِه المسرحيّة المنذورةِ لتأمُّل المُطلَقِ، لا يَنسى هاجسَ المتغيِّر والتاريخِيّ، فنجدُه هنا يُقيم تبايُنًا صارخًا بين العروس الأولى والثانية.

 

فالأولى ترُدّ التحيّةَ بحَياءٍ على زوجَيها، وحين يقبّلانها كُلٌّ على خَدٍّ، تقول في حيرةٍ "توقَّعتُ قُبلةً واحدة!". أمّا الثانيةُ فتضحك دون ارتباكٍ حين يحييها الزوجان، وتُدهشُهما بأن تطلُب ويسكي، وحين يقولان لها "الحقيقة أنّ لكِ زوجَين لا زوجًا واحدا" ترُدّ "أرجو أن أجِد في ذلك الكفاية"، وحين يقولان: "أسلوبك بديع ولكنه جريء، أجرأ من أساليب العذارَى"، ترُدّ: "لم يعرف التاريخُ إلا عذراءَ واحدة!".

 

وهنا يُطِلُّ الهاجسُ الأخلاقيّ الأصيلُ لدى (محفوظ)، فهو يدعونا لتأمُّل تغيُّر القِيَم من وجهةِ نظرٍ مُحايِدَةٍ، ويترُكُ لنا الحُكم.
     
في النهاية نُلاحِظُ أنّ مسرحَ (محفوظ) ينتهي دائمًا نهاياتٍ مفتوحةً، لا تَعِد بشيء، وتترُك للقارئ مساحةً كبيرةً للتأويل.

 

ومن المنظور الأرِسطيّ للدراما، يبدو هذا السُّلوك التأليفيُّ مُحاكاةً للواقع الغامض الملتبِس، لكنها مُحاكاةٌ أصيلةٌ عبقريّةٌ يُقطِّرُ فيها (محفوظ) العالَم إلى عناصِره الأوّليّة، ويقدّمها لنا وقد نَفَضَت عنها كُلّ ما مِن شأنه أن يُلهِيَنا عن تأمُّل حقيقتها.

 

لكنّ مَلمَحًا أخيرًا في هذه النصوص يُشيرُ إلى مكر (محفوظ)، فاقتصادُه في التفاصيلِ واكتنازُ النّصّ بالرُّموز يُعَدّان عامِلَين يَحُدّان كثيرًا مِن حُرّيّة المُخرج في التعامُل مع هذه النُّصوص.

 

ويبدو أنّ أستاذَنا أقربُ ما يكونُ إلى (المؤلّف) بطل (مشروع للمناقشة)، فالنصوص ليسَت للمناقشة إطلاقًا مع مَن سيمثّلونَها، وما هو إلا عنوانٌ خادع، ويبدو أخيرًا أنّ الكتابةَ كانت بمثابة الغَار الذي يتحنّث فيه (محفوظ) ويتألَّه كالمؤلِّف بطل مسرحيّتِه، وأنها كانت طريقَه إلى الله.