صار الفريق أول عبد الفتاح البرهان إسم علم في نيسان (أبريل) من عام 2019، بعد سقوط حكم المشير عمر البشير في السودان، في أعقاب ثورة شعبية كاسحة، ونصب البرهان نفسه رئيسا لمجلس عسكري يتألف من جنرالات جميعهم من ربائب عصر البشير، وهو يحسب أنه سيكون البديل المقبول للبشير، ولما ووجه بغضب شعبي يفوق الغضب الذي واجهه البشير، قبل على مضض بأن تكون الحكومة التنفيذية مدنية، وأن يكون له وللجنرالات الموالين له سهم في مجلس السيادة، وهو الكيان الجماعي لرئاسة الدولة، وقبلت القوى المدنية بتلك القسمة الضيزى خوفا من مواصلة العسكر البطش بالجماهير الثائرة.
ويشغل البرهان اليوم منصب رئيس مجلس السيادة، وبالتالي فهو بروتوكوليا "أكبر رأس" في البلد، ولكن من الواضح أنه ليس راضيا عن انفراد المدنيين بالسلطات التنفيذية، بدليل أنه تغول مرارا على مجالات ليست ضمن اختصاصه، ثم لا يفوت هو ورهطه فرصة دون النيل من "الحكومة"، وفي أواخر تموز (يوليو) المنصرم قال رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك إن المؤسستين العسكرية والأمنية تحتكران قسما كبيرا من الموارد الاقتصادية للبلاد دون خضوع لرقابة أو محاسبة، فما كان من البرهان إلا أن وقف أمام حشد من العسكريين باعتبار أنهم أبناء قبيلته بمناسبة الذكرى الـ 66 لتأسيس القوات المسلحة، وكال الاتهامات للحكومة بالفشل، وطالب الشعب بتفويضه لـ "يصلح الحال" وهو ما اعتبرته القوى المدنية توطئة لانقلاب عسكري.
وفي تلك المناسبة زعم البرهان أن الحكومة تقاعست عن استلام المؤسسات الاقتصادية المملوكة للجيش وجهاز الأمن، وأضاف دون أدنى إحساس بالخجل بأنهم عرضوا على الحكومة مائة مليون دولار من عائد مشاركة جنود سودانيين في حرب اليمن.
وقبل أيام قليلة قال حمدوك في مؤتمر صحفي بمناسبة شطب واشنطن اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إن دخول المؤسسة العسكرية في مجالات اقتصادية غير ذات طابع عسكري وينبغي أن تكون متروكة للقطاع الخاص أمر غير مقبول، فما كان من البرهان إلا أن وقف أمام مجموعة عسكرية أخرى ووصم الحكومة بالفشل، وكان أمر كيل تلك الوصمة للحكومة من قبل متروكا لنائبه في تراتبية مجلس السيادة، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي تحول إلى خبير اقتصادي واستراتيجي ومحلل سياسي في غضون أشهر معدودة، ويفوت على كليهما أنهما جزء أصيل من الحكومة ولا يجوز لهما أن يتكلما وكأنهما مراقبان أو مندوبا وسائل إعلام.
ولا شك في أن إعلان واشنطن لمفارقة السودان للقائمة الدولية للإرهاب جاء بغير ما يشتهي البرهان وحاشيته، فقد حرص الأمريكان على نسب الجهد الذي بذل لتلك الغاية للمدنيين في الحكومة، واتصل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بحمدوك وليس بالبرهان في تلك المناسبة، وقبلها بيومين أجاز الكونغرس الأمريكي قانونا يؤكد على مدنية الحكم في السودان، ويشترط وضع المؤسسات الاقتصادية والمالية العسكرية تحت ولاية مدنية، ويحدث هذا وترامب الذي خطبوا وده بقبول التطبيع مع إسرائيل يغادر البيت الأبيض، مما جعلهم يحسون بأن عصرهم إلى أفول.
لا شك في أن إعلان واشنطن لمفارقة السودان للقائمة الدولية للإرهاب جاء بغير ما يشتهي البرهان وحاشيته، فقد حرص الأمريكان على نسب الجهد الذي بذل لتلك الغاية للمدنيين في الحكومة، واتصل وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بحمدوك وليس بالبرهان في تلك المناسبة،
ويبدو أن للعميد الطاهر أبو هاجة الذي لا يشغل أي منصب رسمي في جهاز الدولة، ويحمل مسمى المستشار الإعلامي للقائد العام للقوات المسلحة وهو البرهان ـ أي ليس مستشارا للبرهان بحكم أنه يشغل منصبا مدنيا دستوريا رفيعا ـ يبدو أن للرجل من اسمه نصيب، فقد "هاج" وماج ليذكر الناس في مقال صحفي بأنه كان للعسكريين سهم وافر في الجهد الذي بذل لشطب السودان من قائمة الإرهاب، وحذرهم من مغبة الاضطرار إلى لعق حذاء العدو (ولم يحدد ما إذا كان ذلك العدو هو إثيوبيا أم مصر وكلاهما يحتل شطرا من ارض السودان).
وخمر السلطة مسكرة جدا، وأقواها مفعولا "الأضواء"، فأبو هاجة هذا الذي عاش بعيدا عن دائرة الضوء سنين عددا كما تقتضي الضوابط العسكرية، اعتبر أن "الحالة واحدة" فطالما هو مستشار إعلامي للبرهان بوصفه القائد العام، فلماذا لا يحشر نفسه في الشأن السياسي العام طالما أن البرهان يشغل منصبا مدنيا آخر، ولأنه يدرك أنه لا يملك صلاحية الحديث عن رئيسه من زاوية منصبه السيادي، فإنه لا يبدي رأيه ـ والذي هو بالقطع رأي البرهان ـ في صيغة بيانات رسمية بل كمقالات صحفية يرغي فيها ويزبد مذكرا الناس بأفضال الجيش عليهم، وهي أفضال لا ينكر بعضها الشعب، الذي يستنكر فقط حشر الجنرالات فوهات بنادقهم في الشأن السياسي، ثم يتباكون لما يتعرض له الجيش مما أسموه بالاستفزاز، ولا عليهم أنهم من استفز العسكرية بقبولهم بوجود جيش مواز للجيش الرسمي تحت إمرة شخص حمل رتبة فريق أول دون تأهيل عسكري حسب الضوابط المتعارف عليها في الجيوش الاحترافية، بل يسعون للاستقواء بمليشيات من وقعوا معهم اتفاق سلام مثقوب مؤخرا.
ولأن جنرالات الجيش السوداني هم المريب الذي يكاد يقول: خذوني، فإنهم يتبارون للتحذير من "الافتراء" على الجيش، فحتى كبار القادة العسكريين الذين لا يشغلون مناصب دستورية او تنفيذية كرئيس هيئة الأركان يخوضون في الشأن السياسي تلميحا وتصريحا، متباكين على ما يسمونه بالافتراءات على العسكر، وبهذا ومن حيث لا يدرون فإنهم يجعلون أنفسهم في خندق آخر غير خندق المدنيين (الشعب) مع أنهم لا يفتأون يتكلمون عن الجيش بوصفه مؤسسة وطنية.
ولأن العسكريين الذين ولجوا حقل السياسة، وبحكم تربيتهم، لا يتحملون النقد أو الرأي الآخر، فقد وجدوا أنفسهم كشركاء في حكومة ينبغي أن توفر أقصى درجات حرية التعبير، موضع نقد فلم يجدوا سبيلا غير الترويع والترهيب بأن أعلنوا أنهم شكلوا كتيبة إلكترونية مسنودة برجال القانون، لرصد أي هجوم عليهم لملاحقة ومقاضاة "الجناة".
عن البرهان وصحبه من جنرالات السياسة يقول المثل الإنجليزي "إنهم يريدون أكل الكعكة والاحتفاظ بها في نفس الوقت"، فهم يريدون أن يكونوا ضمن هياكل الحكم بل في قمة تلك الهياكل، ولكن مع التبرؤ من أي عثرة في الحكم، ونسبتها للمدنيين الذين هم أكثر تأهيلا من العسكر في شؤون الدولة والحياة "المدنية".
البرهان يقامر مجددا ويخسر مجددا
العار في باريس.. فرنسا تمر بأزمة في كل بقاع العالم اليوم!
هل تنهي مبادرة السراج نزاع المركزي ومؤسسة النفط؟