تشهد الساحة اللبنانية
محاولات جادّة لتفجير الخلافات بين الدولة والمقاومة. هل المقاومة والدولة نقيضان
أم يمكن أن يتكاملا؟ ما هي طبيعة العلاقة بين المقاومة/ الثورة والدولة؟ بشكل عام،
تواجه المقاومة المحتل الخارجي، لكن غالبا ما تصادم قوى داخلية متعاملة معه فتصبح
مقاومة وثورة معا. كذلك، الثورة بشكل عام، تواجه سلطة مستبدّة داخلية، لكن غالبا
ما تصادم قوى خارجية معادية لها داعمة للاستبداد، فتتحوّل إلى ثورة مقاومة.
لذلك، أفرزت التجارب صيَغا متعدّدة للعلاقة
بين المقاومة/ الثورة والدولة، منها الخمس التالية:
- الصيغة الأولى، «مقاومة بلا دولة»: وتمثّلها
التجارب الثورية قبل انتصار حركة التحرّر الوطني، مثل: الثورة الجزائرية، والثورة
الفلسطينية، قبل ظهور السلطة الفلسطينية، وجميع ثورات العالم حيث تنطلق الثورة في
ظلّ غياب دولة فاعلة، لأنّ السلطة موزّعة بين المحتل الأجنبي والتابع المحلّي
المتعامل معه. وبعد النصر تتحوّل المقاومة/ الثورة إلى دولة.
- الصيغة الثانية، «دولة بلا مقاومة»: تنشأ بعد
انتصار الثورة وهيمنة نهج تفرضه واقعية سياسية بلا روح ثورية، ممّا يؤدي إلى سلسلة
تنازلات سياسية من الدولة الناشئة بحجّة التعايش مع النظام الدولي في الخارج
والاستقرار السياسي في الداخل، ما يؤدّي إلى قمع المعارضة السياسية التي تمثّل روح
الثورة، وينتهي الأمر إلى الوقوع في حرب تصفيات بين رفقاء الأمس وبين الدولة
والثورة.
- الصيغة الثالثة، «لا مقاومة ولا دولة»: حين
تضيع مكتسبات النضال والثورة بعد احتكار المقاومة من الدولة. ولم يتبقَّ من الثورة
إلّا أحزابٌ معارضة تقليدية ضعيفة أمام الدولة الأمنية والحزب الحاكم، وتتحوّل
المقاومة إلى ثورة على الثورة أو دولة داخل الدولة. وتتحوّل الدولة إلى دولة قاهرة
لخصومها السياسيين في الداخل، وتجد تعويضا عنها في أحلافها الجديدة مع الخارج.
تتفكّك الدولة وتتحوّل إلى جماعات ضغط وشلل سياسية، ومجموعات مصالح متضاربة وتسود
الفوضى... فالوطن فقَد روحه باستئصال الثورة، وفقَد جسده بتفكّك الدولة.
- الصيغة الرابعة، «مقاومة ودولة»: تنشأ مع
الدولة الوطنية المستقلّة. هكذا، استقلّت فيتنام بعد حروب تحرير طويلة ضدّ
الاحتلال، ثورة تقاوِم، ودولة تفاوِض. وهناك تجارب أخرى عديدة للثورة والدولة، في
الصين والهند وكوبا وغيرها، وقد أفرزت عدّة صيَغ تتأرجح بين الازدواجية والتنافس
والتصادم، وحالة انتقالية بين إلغاء أحدهما للآخر أو الاندماج الطوعي أو القسري.
- الصيغة الخامسة، هي التكامل بين الثورة
والدولة: فلا تعارُض بين الوظيفتين حيث يتمّ الجمع بين مكتسبات التحرير وعملية
النهضة والتغيير والتنمية، على قاعدة الحرص على مبدأ سابق على الثورة والدولة وهو
الوطن، وهدف تال للثورة والدولة وهو الوحدة الوطنية ووحدة المجتمع.
مأزق الدولة والمقاومة
العالم العربي ممزّق بين خيارين، من جهة ضرورة
بناء دولة القانون والعدالة والمساواة، والحذر من ارتهانها لإرادة من خارجها
(مافيا الفساد والاستبداد الداخلي والأجنبي)، ومن جهة أخرى خيار المقاومة الذي
يعكس انهيار الثقة بالنظام والسلطة القائمة ويطمح إلى تأسيس دولة متحرّرة من
الهيمنة الأجنبية، وقادرة على تلبية مطالب الناس الحياتية، بالإضافة إلى ضمان السيادة
الوطنية والمسائل المتعلّقة بالاستقلال والهوية والنهضة.
سياسات السيطرة الخارجية قوّضت مشروع الدولة
ووضعته على طريق مسدود، وشجّع تعثُّر خطط الإصلاح والبناء والتنمية على مأزق
الدولة. كما أنّ المقاومات التي نشأت في سياق الصراع ضد الاحتلال، وفي ظلّ الدولة
القاصرة، برزت على أنقاض الوطنيات العاجزة والمتراجعة، وهي محمولة على عصبيات
أهلية قد تقود إلى طريق الصدامات المذهبية والطائفية، في حال كانت غير قادرة على
إعادة بناء الوطنية التي تشكّل روح الدولة القانونية التي تساوي بين المواطنين
وتجمع بينهم وتوحّدهم في إطار واحد يتجاوز الولاءات الجزئية العقائدية والإثنية.
في العراق مثلا، دخل مشروع الدولة في الطريق
المسدود، كما أنّ طريق الفوضى يهدّد مشروع الحركات المذهبية التي تسير في اتجاه
بناء كيانات تحكمها ميليشيات خاصّة، تلغي مشروع الدولة القانونية، وتقود حتما إلى
تعميق الانقسامات والنزاعات الداخلية. من جهة أخرى، فجّر انهيار حلم الدولة
الفلسطينية الموعودة، الصراع على السلطة الوطنية الوهمية بين القوى القومية
والإسلامية في فلسطين، وأدى إلى المأزق الذي وصل إليه مشروع الدولة المرتهنة
للأجنبي المحتل والمفرغة من الاستقلال والسيادة.
تكامل السلطة والحرية
في هذه الحالة، ما هو البديل لسياسات إصلاح
الدولة بمعزل عن توسيع نطاق المقاومة؟ وهل يمكن الفصل بين الدولة والمقاومة أصلا؟
فالدولة الحديثة، والتي هي دولة المواطنين والتجسيد لإرادتهم، تفترض من داخلها
مبدأ المقاومة، أي التصدّي لكلّ محاولات مصادرة هذه الإرادة من قبل قوّة داخلية أو
خارجية، ولا تستقيم من دون ضمان حق المقاومة، بل الثورة، لتأكيد قيم الحرية
والمواطنية والسيادة الشعبية ضدّ مغتصبيها. وبالمثل ليس لأيّ مقاومة قيمة وشرعية،
إذا لم تقدم على بناء هذه الدولة القانونية المواطنية التي تضمن الحريات والحقوق
المتساوية.
والفرق بين التمرّد والمقاومة، يكمن بالضبط في
أنّ التمرّد هو سمة الحركات التي تقف ضد الدولة رفضا للقانون والشرعية، بينما تقوم
المقاومة لتأكيد تطبيق القانون والحفاظ على شرعيّته. فأيّ دولة من دون ضمان حقّ
مقاومة الشعب مهدّدة بالتحوّل إلى مملكة خاصة، وأيّ مقاومة لا تنطلق من مبدأ تحقيق
الحرية والسيادة الشعبية والقانون، تتحوّل إلى تمرّد يعطّل إمكانية نشوء دولة
جديدة مؤسّسة على مبادئ العدل والمساواة.
من هنا الارتباط بين المقاومة التي تجسّد
المصدر الشعبي للسلطة، وتعبّر عن إرادة المجتمع في الاستقلال والتحرير والهوية،
والدولة التي تشكّل التجسيد المؤسّساتي لحكم الحرية والسيادة والقانون، هي أساس
تنظيم الإرادة الشعبية على أسس قانونية وعقلانية سليمة. ولا يحصل التناقض بينهما
إلّا عندما تخرج الدولة عن إرادة المجتمع أو تتجاوز المقاومة أهداف التحرير.
لكنّ نشوء «شبه الدولة» في بعض بلداننا تحت
الوصاية الاستعمارية أو التبعية للخارج، دفعنا إلى الكفر بها كإطار شرعي وعقلاني
لتنظيم الحياة الاجتماعية. كما أنّ تصدّي المقاومة للقوى الأجنبية يجب أن لا
يمنعنا من تجنّب مخاطر الانقسامات العصبوية، المذهبية والطائفية، التي تهدّد وحدة
المجتمع. المطلوب هو استعادة مشروع الدولة وانتزاعه من استراتيجيات السيطرة
الدولية، وتحصين المقاومة الأهلية بتعميق الوحدة الوطنية والمجتمعية التي لا قيام
لدولة ولا ضمان لحرية وسيادة من دونها. وهو ما يتطلّب العمل على إعادة الانسجام
بين المقاومة والدولة، بوصفهما مبدأين ناظِمَين للحياة السياسية في عصرنا: مبدأ
السيادة (للدولة) والحرية (للمجتمع). فبالحرية نضمن عدم استلاب الدولة للقوى
الخارجة عنها، محلية أو أجنبية، وبالسيادة نَقِي المقاومة من التحوّل إلى تمرّد
وخروج على القانون والشرعية. أي نؤكّد تحرير الدولة من ارتهانها لغير الإرادة
الاجتماعية، وتحرير المجتمع من الارتهان لإرادة قوى معادية للدولة، ومانعة من
إعادة بنائها كدولة لمواطنيها، بصرف النظر عن انتماءاتهم وأصولهم الإثنية
والمذهبية والعقائدية.
المواطنية قاعدة تلاقي الدولة والمقاومة
الانسجام بين المبدأين (السيادة والحرية)،
يستدعي تصويب عمل الدولة والمقاومة على قاعدة بناء وعي لفكرة الوطنية الجامعة. لقد
اقتصرت الوطنية، أحيانا، على مواجهة السيطرة الغربية وتأكيد الذات ضدّ الآخر،
بينما في العمق هي مفهوم جامع للهوية الوطنية والانتماء إلى مجتمع موحّد، وهي
بالتالي مقاومة وطنية ضدّ الاحتلال الخارجي، كما هي مقاومة اجتماعية ضدّ الاستبداد
الداخلي المتمثّل بسلطات الفساد والاستغلال والتبعية. إنّ المواطنية هي شرط إعادة
بناء الدولة المدنية الديموقراطية وشرط يعيد تحصين المقاومة وتوسيع نطاقها وفعاليّتها.
مع وعي المواطنية وتعميم ثقافتها والالتزام
بمدرجاتها، تتطوّر حركة مقاومة وطنية تجمع بين مهام التصدّي للاستبداد الداخلي،
وما يمثّله من اغتصاب الدولة ومصادرة السلطة والإرادة العامّة، وتغليب الولاءات
الخاصّة من جهة، ومهام التصدّي للاستعباد الخارجي وللهيمنة الأجنبية التي تمنع
الدولة من الانصياع لإرادة مجتمعها ومواطنيها من جهة ثانية. في هذه الحالة، لن
تكون المقاومة لا نقيضا للدولة وسيطرة حكم القانون، ولا وسيلة للتغطية على الحرب
الأهلية واغتصاب الإرادة العامة، ولكن عملية إعادة بناء أخلاقية وقانونية وسياسية
للحقيقة الوطنية، على مستوى المجتمع المدني ومستوى الدولة معا.
وفي هذه الحالة، سيحلّ محلّ التعارض المصطنع
بين الدولة كرمز للسيادة، والمقاومة كرمز لتأكيد الهوية الاجتماعية والشعبية، وحدة
عميقة بين الدولة كقاعدة للحياة القانونية والمؤسّسية التي تضمن حقوق الأفراد
وحرياتهم، والمقاومة التي تشكّل روح الوطنية السارية في الدولة والجاهزة في كلّ
مرة تتعرّض فيها للتهديد، من الداخل والخارج، للانطلاق لتثبيت مبادئ السيادة
والاستقلال تجاه العدوان الخارجي الداهم، وتثبيت حقوق الأفراد وحرياتهم تجاه
العدوان الداخلي الناجم عن جنوح بعض جماعاتها إلى مصادرتها لجعل الدولة آلة في
خدمة مصالحهم الخاصة.
الجمع بين الدفاع عن الوطن ضد الضغوط
الخارجية، والعمل على تحريره من شياطينه الاستبدادية والطائفية والمذهبية
الداخلية، وتعميم رؤية وطنية على قاعدة مواطنية ديموقراطية تؤكّد على حقوق الأفراد
وحرياتهم وعلى المساواة التامّة في ما بينهم؛ هذا ما ينبغي أن يكون جوهر برنامج
الدولة الموعودة والمقاومة المنشودة، وأساس بناء الوطنية على قاعدة المواطنة
لتجاوز النزاعات والانقسامات الداخلية، فضلا عن مواجهة الاحتلال والاستعباد
الخارجي. المواطنة هي قاعدة حرية المواطن وتحرير الوطن، إنّها ملتقى الدولة
والمقاومة من أجل تجسيد كامل أبعاد السيادة والحرية معا.