مع الاقتراب من "سوق القيسارية" التاريخي وسط مدينة غزة فإن عبق التاريخ يشدك إليه ليعود بك الزمن إلى حوالي 500 سنة إلى الوراء إبان العهد المملوكي، حيث تم بناء هذا السوق ليكون ملاصقا للمسجد العمري "الكبير" من الناحية الجنوبية.
هذا السوق هو معلم تاريخي هام ما زالت ملامحه ظاهرة في مدينة غزة حتى الآن، ولا يزال صامدا رغم كل العوامل الطبيعية مجسدا لروح الماضي وأصالة الحضارات القديمة لترى فيه الأصول الحقيقية لفن العمارة والبناء.
يُعرف هذا السوق حاليا باسم "سوق الذهب"، ولكن اسم "سوق القيسارية" لا يزال يستخدم بين الناس الذين يرتادونه بشكل دائم ليصبح حاليا مركز التداول الأول في قطاع غزة لشراء وبيع الذهب.
وقال الدكتور عبد القادر حمّاد الأستاذ في جامعة الأقصى والباحث والخبير في السياحة الفلسطينية لـ "عربي21": "إن سوق القيسارية يقع في حي الدرج بالبلدة القديمة من مدينة غزة، وهو من أهم الأسواق الأثرية التي ما زالت باقية في مدينة غزة، ويعود تاريخ إنشائه إلى العصر المملوكي (1260- 1517م)"، مشيرا إلى أنه لا يوجد تاريخ محدد لإنشاء هذا السوق لعدم احتوائه على لوحة تأسيسية تؤرخ له، مرجحا أن يكون آخر الأسواق التاريخية الباقية من العهد المملوكي.
وأضاف: "إن قاضي غزة الشيخ شمس الدين زنكي الحمصي أمر بناء سوق الذهب في عام 1476م، أبان حكم المماليك لغزة، حيث أن السوق كان جزأ من السوق الكبير، ولكن معظم المنطقة دمرت جراء قصف الجيش البريطاني أبان الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في 15 نيسان/ أبريل 1915م".
وأوضح حمّاد أن المدخل الشرقي للسوق يعلوه عقد مدبب كبير يعد من أهم العناصر المعمارية المميزة له، والمحلات التي يحتضنها السوق صغيرة متلاصقة على امتداد سور المسجد الجنوبي والمبنية على الطراز الإسلامي على شكل أقواس.
وأشار إلى أن اسم "سوق القيسارية" اشتق من القيساريات التي كانت تعد أحد أشكال المنشآت التجارية الحرفية والصناعية القديمة وهي جمع كلمة قيسارية، والتي عُرفت في العصر الروماني خلال عهد القيصر ـ أغسطس قيصر ـ في عام (63 ق. م وحتى عام 14م)، وكانت تلك المنشآت تخدم التجارة وتعمل على تنمية الاقتصاد في ذلك الوقت.
ومن جهتها قالت ناريمان خِلة المرشدة السياحية في وزارة السياحة والآثارالفلسطينية لـ "عربي21": "إن سوق القيسارية يمثل نمطاً معمارياً وهندسياً يلاءم الأجواء وظروف المناخ, ويقع ملاصقاً للجدار الجنوبي للمسجد العمري، وهو عبارة عن ممر ضيق طوله 60 مترا، مغطى بالقباب المدببة، ولا يزيد عرضه عن 3 أمتار على جانبيه قرابة 38 حانوتا ومتجرا لبيع الذهب حاليا؛ يبلغ عرض الحانوت على الشارع حوالي 2 متر".
وأضافت: "يتكون السوق من الداخل من مجموعة من الحوانيت الصغيرة المتراصة إلى جانب بعضها البعض على كلا الجانبين، ويصل عددها إلى 18 حانوتاً أو دكاناً، ويقابلها على الناحية الأخرى حوالي 16 حانوتاً أخرى، وجميعها ذات سقف معقود بعقود متقاطعة، ويصل عمق الحانوت الواحد إلى نحو 2.7 متر".
وأشارت إلى أن مبنى السوق يعاني من الرطوبة المختزنة في داخل جدرانه والتي بدورها تشكل أضراراً سلبية عليه تهدد بانهياره، وذلك بسبب قيام أصحاب المحلات التجارية بطمس الجدران الأصلية بمواد الاسمنت الأسود والرخام والجرانيت، أدت إلى تشويه وإخفاء المعالم الأثرية, مؤكدة على أن هذه المواد جميعها تمنع خروج الرطوبة من داخل الحجر مما يسبب في ضعف الحجارة التي بُنيت منها القيسارية ويعرضها للانهيار.
ودعت خِلة إلى تضافر كافة الجهود للحفاظ على هذا السوق الذي تشرف عليه وعلى متابعته بشكل مباشر بلدية غزة، مشيرة إلى أن وزارة السياحة والآثار تقوم بدور توعوي لأصحاب المحلات في كيفية الحفاظ عليها، ونشر البروشورات التعريفية بتاريخ هذا السوق العريق والوحيد المتبقي في البلدة القديمة بغزة.
وبدأت الكلية الجامعية في غزة مشروع ترميم وتطوير سوق القيسارية والذي يهدف إلى الحفاظ على المكان الأثري المهدد بالاندثار.
وأوضح المهندس منير الباز مدير المشروع في حديثه لـ "عربي21" أن تحركهم لترميم هذا السوق جاء بسبب ما يعاني منه السواق كل سنة من غمر مياه الأمطار له كونه يقع في منطقة منخفضة مقارنة مع المباني المحيطة به.
وقال: "تحركنا لإنقاذ هذا السوق الأثري الذي يعود للعهد المملوكي وعملنا بالتنسيق مع وزارة السياحة والآثار الفلسطينية وبلدية غزة ضمن المرحلة الأولى والتي وضعنا فيها مخططا لترميم اللبنية التحتية للسوق من اجل تصريف مياه الأمطار والاستفادة بها في تغذية الخزان الجوفي".
وأضاف: "من المقرر أن يبدأ العمل الفعلي في هذه المرحلة في شباط/ فبراير المقبل ويستمر لمدة 3 شهور على أن يتم تسليمها في الأول من حزيران/ يونيو القادم".
وأوضح الباز أنه تم تخصيص مبلغ 99 ألف يورو كمرحلة أولى، بدعم من مؤسستي "بركات" في بريطانيا، و"جيردا هنكل" الألمانية، بهدف الحفاظ على المكان كمعلم أثري هام كي يبقى شاهدا على الحقبة الزمنية التي انشأ فيها.
وأكد ياسر حبوب والذي يعتبر من أقدم تجار الذهب في سوق القيسارية والذي بدأ العمل في السوق منذ عام 1964م حينما قدم أول مرة إليه برفقة والده كي يساعده في البيع؛ أن عدد حوانيت بيع الذهب في ستينيات القرن الماضي في هذا السوق لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وان هذا السوق كان لبيع وصناعة الأحذية قبل أن يتطور ويتحول إلى سوق لبيع الذهب بشكل كامل ويختفي باعة الأحذية منه.
وأشار حبوب في حديثه لـ "عربي21" إلى أن هذا السوق هو تاريخي ولا يرتاده إلا العرائس ومن رافقهم كي يختاروا مصاغهم وحليهم.
وأكد على أن العمل في السوق تطور بشكل كبير، مشيرا إلى أنهم في الماضي كانوا يكيلون بالميزان اليدوي الذي كان يعرف باسم "الخروبة"، ثم الميزان العادي ذوي الكفين إلى أن وصلوا إلى الميزان الالكتروني الدقيق.
وأوضح أن الاحتلال الإسرائيلي كان يمنع وجود بترينات خارج الحوانيت لعرض الحلي فيها، وانه لم تكن الأشكال الموجودة للذهب بخلاف حلي ما كان يعرف باسم "الثور" و"الحية"، وبعض العقود والخواتم قبل أن يتطور التصنيع الآن.
وأكد أن عملة البيع والشراء في سوق الذهب بغزة تحددها نوع عملة مهر العروس والتي هي الآن بالدينار الأردني منذ عام 1980م، مشيرا إلى انه قبل ذلك كانت بالليرة الإسرائيلية.
وأوضح حبوب أن الناس كان يلجئون لشراء الذهب لأنه الضامن بسبب التذبذب في أسعار العملات ولان الاحتلال لم يكن يسمح بفتح أي حسابات بنكية لهم.
وشدد حبوب على أن حركة هذا السوق تعتبر معيار الوضع الاقتصادي في غزة قائلا: "في حال كان هناك إقبال على شراء الذهب تعرف أن الوضع الاقتصادي للناس جيد فهم يشترون الذهب لتخزينه أو التزين به أما إذا كان هناك بيع فاعلم أو وضع الناس الاقتصادي سيء وهم يبيعون مصاغهم من اجل يؤمنون لقمة العيش بأموالها كما يحدث الآن بسبب اشتداد الحصار وجائحة "كورونا".
"السُمْاقِيّة" أكلة تُراثية فلسطينية لا يطبُخُها إلا الغزيون
المسجد العُمري في غزة.. أضخم وأعرق مساجد القطاع
كم عدد الانبياء الذين دفنوا في فلسطين؟