-1-
في زمن مضى، كنا ننتفض احتجاجاً، عندما يردد أحدهم تعبير "
رجال الدين المسلمين"، على اعتبار أن الإسلام ليس فيه رجال دين ورجال دنيا، ولا وجود لطبقة الإكليروس المختصين بالتوسط بين العباد وربهم، والقيام بالطقوس الدينية اللازمة لأهل الدنيا.. أقول "كنا" لأكتشف، أنا وغيري فيما بعد، أن مجتمعنا الإسلامي الحديث أفرز طبقة أسوأ بكثير من كهنوت العصور الوسيطة في أوروبا، طبقة تأكل بدينها، وتضعه في خدمة دنياها، وتعين رجال الدنيا على البطش والظلم، وتغلف أفعالهم بقالب "شرعي"، مسوغ دنيوياً وأخرويا. هؤلاء ليسوا رجال دين بالمفهوم السائد فحسب، بل هم جلادون وقتلة ومتآمرون على الدين والدنيا، وذنبهم مضاعف، فهم أسوأ من المستبد نفسه الذي يعينونه!
-2-
يخصص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع
الاستبداد" باباً عن العلاقة الجدلية بين الدين والاستبداد، ويكتب: "تضافرت آراء أكثر العلماء، النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان، على أنَّ الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني". ويدرس الكواكبي هذه العلاقة بين الاستبدادين، الديني والسياسي، على صورة تكامل، إذ يقول: "ما من مستبدٍّ سياسيّ، إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة، يشارك بها الله، أو تعطيه مقاما ذي علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين، يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد".
3-
في المشهد الختامي من حياة الشهيد سيد قطب ما يبرز الفرق بين رجل الدين وعالم الدين، فيوم تنفيذ الإعدام، وبعد أن وُضع على كرسي المشنقة، عرضوا عليه أن يعتذر عن دعوته لتطبيق الشريعة، ويتم إصدار عفو عنه، فقال: "لن أعتذر عن العمل مع الله". ثم قال: "إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفاً واحداً يقر به حكم طاغية". فقالوا له إن لم تعتذر فاطلب الرحمة من الرئيس، فقال: "لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوماً بحق، فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوماً بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل". ويروى أن "الشيخ!"، أو بالأحرى "رجل الدين" الذي قام بعملية تلقينه الشهادتين، قبل الإعدام، قال له: "تشهد"، فقال له سيد: "حتى أنت، جئت تكمل المسرحية! نحن يا أخي نُعدم بسبب لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله".
-4-
وقد رأينا أقواماً يتنادون لـ"الجهاد"، كلما فتح "الآخرون" جبهة هنا أو هناك، وهؤلاء الآخرون تحديداً هم من يفتحون الحدود للمجاهدين المفترضين، وييسرون لهم سبل الحصول على السلاح، وربما يمولونهم به عبر وسطاء وأطراف أخرى، بعلمهم أم بغيره لا يهم، وعبر "
مشايخ" جاهزون لصناعة الفتوى على المقاس المطلوب(!)، و"الإخوة المجاهدون!" مأخوذون ومتلهفون للقاء السبعين من الحور العين، وهم لا يعلمون أنهم ينفذون أجندات اللاعب الكبير، الذي يرقبهم ويمولهم، ويسيّرهم كيفما يشاء، وفي الأثناء، يعمل "دعاة الجهاد!" إياه، من حيث يدرون أو لا يدرون، على تغذية ما يسمونه التطرف والإرهاب، حين يعطون صورة مشوهة عن علماء الإسلام الحقيقيين، فيبحث الشباب المتحمس عن نموذج آخر، بعد أن تم هدم النموذج الصحيح وتشويهه، وهنا الطامة الكبرى التي لم أرَ أحدا تنبه إليها بعد، وهي في الحقيقة أحد أهم أسباب صناعة التطرف!
-5-
مرة أخرى، بعد مرات عديدة، يزداد حنقي على تلك القبيلة من المشايخ الذين سيطروا على قلوب الشباب والشابات، بحسن بيانهم وبلاغتهم، وتقواهم المدّعاة، ورقّة و"عذوبة" كلماتهم في الوعظ والإرشاد، ورواية قصص الصالحين، وتأليفها أيضا، وهم في ذلك لا يزيدون عن أي تاجر يسعى للتربح والإثراء، بضاعتهم في ذلك الكلام المنمق، والموعظة الحسنة، حتى إذا وضعوا على المحك، وجاء وقت الصدام بين "الحق" الذي يدعون إليه ليل نهار ويمجدونه في خطبهم، وبين "الظلم" الظاهر البيّن الذي لا يحتاج إلى تأويل، انحازوا لقوة ومنعة الظلم، وانتصروا له ضد الحق، حفاظا على ثرواتهم ومكاناتهم ومنصات التعبير التي تدر ذهبا وفضة، وباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم!
فاذهبوا عنا بعيدا يا تجار المواعظ، وشيوخ السلاطين، فقد انكشف عواركم، ولم تعد أردية وجلابيب التقوى والورع تخفي حقيقتكم البشعة، بعد أن أصبحتم سيوفا في أيدي الدكتاتور لقطع أرزاق وأعناق معارضيه!