لم يعد سؤال الهوية يطرح بحدة. فقد حسمت المجتمعات المتقدمة أمرها وضبطت النمط المجتمعي الذي يطمئن له الجميع وأضحى القانون سيد أمره وحدّدت أدوار مختلف المؤسسات رغم مشاغبات أقصى اليمين هنا أو أقصى اليسار هناك. ولكن مجتمعنا العربي الذي لا يكاد ينهض من نومته العميقة ما زال يطرح سؤالها بحدة. وله أن يسأل. فلا شيء في الأفق بيّنٌ غير السحب المتلبدة وأدخنة كثيفة لحروب عقائدية أو معركة مذهبية أو عرقية.
وينظر الجميع إلى المدرسة باعتبارها رأس الحربة في هذه المعارك، وهذا بديهي. فما أن يبني مجتمع ما مدرسة حتى أخذ في إعادة تشكيله بدورها. وتمثل لغة التدريس إحدى معارك الهوية التي تعاطت معها الدول العربية بأشكال مختلفة. فقد اعتمد بعضها العربية كما هو الحال بالنسبة إلى سوريا ومصر واحتفظ بعض آخر بلغة المستعمر التي أورثها إلى الدولة الوطنية كما الأمر في تونس والمغرب، رغم بعض الخطوات التي شملت المدارس الابتدائية والإعدادية خاصة.
وإجمالا كانت مصدرا لموقفين متباينين. فعدت حينا أمارة على أن استقلال الدولة الوطنية كان استقلالا منقوصا أو صوريا فيما اعتبرت حينا آخر غنيمة حرب خلفها العدوّ يجب الإفادة منها لمواكبة العصر.
وآخر حلقات هذا التباين بين الأقطار العربية عمل مصر هذه الأيام على تعريب مناهجها الدراسية والتخلي عن اللغة الإنجليزية بالتزامن مع قرار السلطات الجزائرية التدريس، على مستوى التعليم العالي، باللغة الإنجليزية والتواصل بها باعتبارها لغة عالمية. وليس هذا التزامن بين الإجراءين المتضاربين غير دليل جديد على ارتباك القرار العربي وعلى عدم الوعي بأهمية التنسيق العلمي والثقافي وعدم الوعي بوحدة التحديات والمصير.
ولنفهم دواعي الاختيارين وآفاقهما يطرح سؤالان متقابلان تقابل الوجه والقفا مدار الأول حول مدى إسهام تدريس المواد العلمية باللغة العربية في تأمين استيعاب الطلبة لها وجعلها في متناولهم أولا وفي جعلهم أكثر التصاقا بثقافتهم وهويتهم ثانيا. ويكون الثاني على صلة بدور اللغات الأجنبية في ضمان انخراط الطلبة الفاعل في الإنتاج العلمي وفي مواكبة العصر.
1 ـ التعريب للحدّ من غربة المتعلمين اللسانية ومن اغترابهم الهووي أيضا
بعيدا عن الخطاب المتشنج الذي يتبناه أنصار التعريب تجاه خصومهم الفكريين كالاتهام بالاجتثاث الحضاري والعمالة والارتهان للأجنبي، كشفت البحوث الميدانية الهادئة الرصينة التي أنجزتها منظمة اليونسكو أن الطالب الحدث يواجه صعوبات جمة في استيعاب العلوم وتمثل منطلقاتها حين يدرسها بغير لغته الأمّ.
ونصدر هنا عن تقرير 2007 بعنوان "في أهمية اللغة الأم، اللغة المحلية مفتاح التعلم الناجع". (La langue maternelle,ça compte !La langue locale,clé d’un apprentissage efficace) وعن تقرير 2011 بعنوان "تجويد تعليم الأطفال متعددي الخلفيات اللغوية: تعليم ثنائي اللغة أو متعدد اللغات في السنوات الأولى". (ENHANCING LEARNING OF CHILDREN FROM DIVERSE LANGUAGE BACKGROUNDS:MOTHER TONGUE-BASED BILINGUAL OR MULTILINGUAL EDUCATION IN THE EARLY YEARS). فقد أنجزهما مختصون في علوم التربية ضمن أفضية ثقافية مغايرة، في أفريقيا السمراء وأمريكا اللاتينية. وهي أفضية بعيدة عن التجاذب الإيديولوجي الذي يسم المعالجة العربية.
ويقدر التقريران أن الصعوبات في فهم المواد العلمية لا تعود إلى محدودية في القدرات الذهنية للمتعلمين، وإنما إلى عراقيل لسانية يكفل تجاوزها انخراطا أفضل في العملية التربوية. فقد أشارت النتائج بوضوح إلى أنّ تلقي الطفل للمواد العلمية التجريبية كعلوم الحياة والأرض والكيمياء علوم الطبيعية والمواد المنطقية، كالرياضيات والفيزياء والفلسفة والمنطق بغير اللغة الأم، يجعلها عسيرة على الاستيعاب والتحصيل لنزعتها إلى التجريد ولاقتضائها تملكا أقصى للغة الدرس وتمثل أنساقها التصورية. وخلصت كذلك إلى أن تدريس اللغات الأجنبية يكون أسلم وأجدى حينما تدرس باعتبارها لغات في حدّ ذاتها لا باعتبارها وسيطا يبلّغ مواد دراسية أخرى.
2 ـ اعتماد اللغات الأجنبية لمواكبة العصر وللحد من الاغتراب الحضاري
لا مراء في أنّ في بعض الدعوات لاعتماد اللغات الأجنبية تخفي ضربا من التعالي على اللغة العربية التي كثيرا ما ينظر إليها باعتبارها لغة غير علمية أو تنعت بكونها لغة الشعر والخيال.. ولا يراد من "الشعر" هنا معنى الإبداع بقدر ما يقصد منه التهجين والافتقار للواقعية. وكثيرا ما استعملت اللغات الأجنبية في التواصل اليومي لإبراز الوجاهة الاجتماعية بعد أن اقترنت في الأذهان بالنجاح والرقي الاجتماعي. وليست هذه النزعة مدار نقاشنا. فما يعنينا هو الرأي الرصين لبعض آخر من دعاة الحفاظ على اللغات الأجنبية في التدريس. فمنهم من ألاّ علاقة للأمر بموضوع الهوية أو الوجاهة الاجتماعية.
تسهم المدرسة، بمناهجها ومقرراتها الدراسية من خلال مواد التربية المدنية والفلسفة والتاريخ في تكوين الفرد سياسيا وجعله قادرا على الفهم لما يدور حوله من مسائل سياسية وتنمية انتمائه الواعي والعميق للوطن والثقافة في إطار احترام الدساتير والتزام بقوانينها وأنظمتها.
فقد أكّد تقصينا للنقاشات حول هذه المسألة على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى مواقع الانترنت عامة التوجّس من تبعات التعريب على تملك الطالب للغات الأجنبية والتواصل بها. وكثيرا ما أشار أنصار هذا الرأي إلى أنّ تجارب كل من المغرب وتونس والجزائر لم تفلح في تعزيز الانتماء الوطني وفي الآن نفسه لم تمنع تراجع مستوى التحصيل العلمي بشكل كبير، والآية على ذلك، على سبيل المثال، التراجع الكبير لتلاميذ هذه البلدان في المناظرات الأولمبياد في الرياضيات. وهي المادة التي يتلقاها الأطفال في المدارس الابتدائية والإعدادية باللغة العربية. فالتعريب وفق هذا الاتجاه فرّط في اللغات الأجنبية ولم يضف شيئا لموضوع الهوية. ويعودون إلى الماضي القريب.
فمع دولة الاستقلال ظلت المقررات تدّرس باللغات الأجنبية ولم يمثل ذلك خطرا على الهوية العربية أو الإسلامية ولم يشكل عائقا أمام اكتساب اللغة العربية. فكانت الأجيال السابقة قادرة على التواصل السلس بلغتين أو أكثر بالكفاءة نفسها. أما شباب اليوم يعيش حالة من الاغتراب الحضاري تجعله غير قادر على فرض نفسه في سوق الشغل ولا على الانسجام مع محيطه الثقافي وقد أضحى العالم قرية كونية. ويخلص أصحاب هذا الرأي إلى أنّ اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية، لغات المستقبل، ولغات الدراسة في الكليات الراقية، ولغات الأعمال وسوق العمل.
3 ـ المسألة من خارج الاستقطاب الإيديولوجي
لا يخلو هذا الجدل بين الفريقين من أثر الاستقطاب الإيديولوجي. وبعيدا عنه تعمل ورقتنا هذه على دفع النقاش في المسألة من منطلق براغماتي واقعي أملا في تشكيل تصور يعي بمقتضيات المرحلة ويستشرف الحول الناجعة. فلا جدال على المستوى التربوي في فاعلية تدريس الأحداث باللغات المحلية، كما تؤكد وثيقتا اليونسكو اللتين أدرجنا في مستهل هذه الورقة. ولكن الإشكال يطرح في مستويات متقدمة من الدراسة، في المرحلة الثانوية والجامعية وعلى مستوى البحث الجامعي لاحقا.
فالدارس معرّض حتما لصدمة الالتقاء بنسق لغوي غريب عليه، مهما كان تملكه للغة الأجنبية متينا. فللعلوم مصطلحاتها الخاصة ولغتها المميزة. ولا يعود هذا الحتم لقصور في اللغة العربية على استيعاب العلوم، كما يدّعي بعض من داعمي اعتماد اللغات الأجنبية، وإنما إلى كوننا ننتمي إلى حضارة لا تنتج المعارف للأسف وتكتفي بدور المستهلك الذي يعيش عالة على الغرب أساسا من جهة وإلى كون المعارف اليوم تتطور بنسق سريع في منشئها.
ولا بدّ لها من حيّز زمني حتى تستقر هناك. ثم لا تصل إلى المشرق إلاّ عبر جسر المغرب إن كانت باللغة الفرنسية ولا تصل إلى المغرب إلاّ عبر جسر المشرق إن أخذت عن الحوض الإنغلوساكسوني. وفي ذلك هدر للوقت، في عصر غدا فيه الوقت ثروة. إلى ذلك فإن نشر البحوث العلمية الأكاديمية في الدوريات العالمية المحكمة يقتضي تملك اللغة الإنجليزية أساسا. والفرنسيون والألمان والإيطاليون أنفسهم قد أذعنوا إلى هذه الحقيقة وأضحوا ينشرون بحوثهم العلمية باللغة الإنجليزية دون أن يعدّ هذا الإجراء إساءة لهوياتهم أو أن يطرح إشكالا حول مدى تقديرهم لذواتهم أو ولائهم لأوطانهم.
فالاطلاع على المعارف الحديثة في مضانها الغربية وبلغتها بعدّ ضرورة إن رمنا التدرّج في سلم العلم. وخير دليل على ذلك أننا لم نكتشف جواهر تراثنا الأدبي واللغوي والحضاري، على نحو معاصر، إلا بمساعدة اللسانيات والمناهج الحديثة الوافدة من الغرب. وكيف يتسنى لنا ذلك إن كانت اللغة تقف حاجزا؟ وكيف لتعميق المعارف أن تضير بالهوية؟
4 ـ الحلول المآزق
يعتقد البعض أن الواحد يمكن أن ينوب على الكل في الاطلاع على المعارف في مضانها. فيعربها ويكفي البقية شر القتال. ولكن من يكون هذا الواحد؟ وما معايير اختياره؟
تفضي محاولات التعريب الفردية مهما بلغت كفاءة أصحابها إلى فوضى في الاصطلاح معطلة للتمثل ولجدوى البحث العلمي. ولعلّنا أن نستند إلى اختصاصنا الدقيق لنطرح مثالا لهذا التعطيل. فقد عانت المباحث السّيميائية العربيّة من فوضى اصطلاحيّة مربكة عابرة لمختلف اتجاهاتها فكانت تحول دون الدّارس وبناء المعرفة الدّقيقة بقدر ما تحول دون انفتاح هذه المباحث نفسها على بعضها البعض جدلا وتفاعلا وتحقيقا للتّراكم المعرفي.
ولعلّ الكمّ الفظيع من المقترحات التي دفعت بها هذه المباحث تعريبا للزّوج الاصطلاحي (sémiologie - sémiotique) أن يكفينا عناء الاستدلال عن وجاهة ما نقدّر. فقد رصدنا طيها ما لا يقلّ عن خمسة عشر اقتراحا هيّ السّيميائية والسّيمياء والسّيميائيات والسّيميولوجيا والسّيميوطيقا والسّيميوتيكا وعلم الدّلائل وعلم العلامات والدّلائليّة والعلاميّة والسّيميّة والرّموزية والعلاماتيّة والسّيمياءوية والأعراضيّة.
ومن الطّبيعي أن يتوسّع الاختلاف بتفرّع علومها سواء تعلّق الأمر بالاصطلاح أو بما يحيل عليه المصطلح من مفاهيم. لذلك فالتعويل على إنابة الأفراد بدل المؤسسات أو بدل الاطلاع المباشر على المصنفات العلمية، على أهميته، لا يحلّ المشكلة. بل إنه يعمّقها أحيانا ويفقد البحث العلمي انسجامه وهويته أيضا، من حيث كان يسعى إلى الحفاظ عليها.
5 ـ مسالك تدعيم الهوية التي لا نريد الاعتراف بها
يتضح لنا أن المسألة لا يمكن أن تعالج وفق وصفة جاهزة صالحة لكل الأزمنة والسياقات. فتعريب تدريس المواد العلمية يمكن أن يساعد الناشئة على فهم أفضل للمقررات الدراسية. ولابد في هذه الحالة من التنسيق الجاد بين مختلف الهيئات العلمية في الأقطار العربية بحيث لا تكون الحلول قطرية للاستئناس بالتجارب والإفادة من جهود التأليف في مختلف الأقطار.
لا بد من عودة الباحث إلى هذه الآثار بلغتها الأصلية وتحصيل المعارف من منابتها. ولا يتسنى ذلك إلا بتملّك اللغات الأجنبية، فهما وتواصلا وكتابة. ونقصد الانجليزية أساسا.
أما في مستوى الدراسات العليا فلا مناص من الانخراط الفاعل لوزارات التربية والثقافة والتعليم العالي في هذا الجهد. ولا نرى غير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) مؤهلة لهذا الدور. للتنسيق بين الخبراء في مختلف الاختصاصات وإصدار المعاجم المختصة في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والمنطق والفلسفة واللسانيات والسرديات باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية على أن تتضمن عرضا للمفاهيم التي تراجع باستمرار وتحيّن دائما. ولا مناص للهيئات العلمية من تصور تطبيقات آنية تكفل للباحث العربي الوصول إلى المصطلح المعرب الموحّد والمفهوم الدقيق بأقصى السرعة أو التفاعل الفوري مع غيره ممن يشاركه الهمّ المعرفيّ .
ولا يحلّ التعريب وحده الإشكال ولا يجنّب الدارس ضرورة مواجهة هذه العلوم في منابتها وإنما يؤجلها فحسب. ومن ثمة فلا بد من عودة الباحث إلى هذه الآثار بلغتها الأصلية وتحصيل المعارف من منابتها. ولا يتسنى ذلك إلا بتملّك اللغات الأجنبية، فهما وتواصلا وكتابة. ونقصد الانجليزية أساسا. فلا معنى لأن نهجر لغتنا الوطنية لندرس العلوم بلغة بدأ أهل العلم في وطنها يهجرونها ونعني الفرنسية كما هو الحال في تونس والمغرب.
إن تجذير الهوية والاعتزاز بالذات وتعميق الولاء للوطن السبيل الأمثل لخلق مواطن متوازن مسؤول. أما سبله فكثيرة منها تعريب الإدارة والقوانين وفرض التواصل في المنتديات السياسية خاصة باللغة العربية. ومنها التعويل على التنشئة السياسية، ذلك الموضوع الأساسي من موضوعات علم الاجتماع السياسي الذي تعتمده المجتمعات الإنسانية لإكساب الأفراد المفاهيم أساسية وفق فهمها المشترك للقيم والعادات والتقاليد التي تؤمن بها. فتطبع سلوك أعضاء المجتمع الواحد بطابع معين يميزه.
وتسهم المدرسة، بمناهجها ومقرراتها الدراسية من خلال مواد التربية المدنية والفلسفة والتاريخ في تكوين الفرد سياسيا وجعله قادرا على الفهم لما يدور حوله من مسائل سياسية وتنمية انتمائه الواعي والعميق للوطن والثقافة في إطار احترام الدساتير والتزام بقوانينها وأنظمتها. ولكن أهمّ سبلها تدعيم حقوق الإنسان والقيم الكونية وتدعيم اعتناق الفرد لقيم التعاون، والإحساس المشترك بالمسؤولية ونكران الذات. وغير خاف عن القارئ أنّ أفضل تمرين يشعر المرء بالهوية والاعتزاز بالانتماء هو شعوره بأنه جزء من وطن يحترم كرامته البشرية ويسهر على مصلحته في مجتمع عادل وديمقراطي.