متابعة لرصد البذور والجذور في النهضة الأدبية الفلسطينية، من أجل تشكيل ملامح وصورة الإبداع الأدبي في تلك المرحلة، من خلال الشخصيات التي كانت بفلسطين (قبل تقسيمات سايكس بيكو)، نثبتها هنا كجزء من الهوية الفلسطينية اللاحقة. ونتناول في هذه الحلقة قامة من قامات الثقافة الفلسطينية، وفرداً أسّس عائلة ثقافية تركت بصمة في تاريخ فلسطين الأدبي، بل شعّت إلى خارج فلسطين. وهو الشيخ الشاعر الأديب السياسي سعيد بن علي بن منصور الكرمي (1852- 1935).
ولد الشيخ سعيد الكرمي في مدينة طولكرم سنة 1852، ونسبة عائلة الكرمي تعود لاسم المدينة التي ولد ومات فيها. ويعود نسب عائلته إلى عرب اليمن -بحسب الزركلي في ترجمة ابن الشاعر (أحمد شاكر) في الأعلام- الذين جاؤوا مع حملة عمرو بن العاص إلى مصر، ولما فتحت مصر وقسمت أرضها على الفاتحين بأمر من عمر بن الخطاب خرج سهمهم في إقليم الشرقية.. ثم لجأ جد والده إلى فلسطين بسبب التكاليف التي فرضها عليهم محمد علي باشا.
أتمّ الشيخ سعيد دراسته الابتدائية في مدارس طولكرم، ثم أرسله والده إلى الأزهر الشريف لإكمال تحصيله العلمي، وهناك حضر دروس الشيخ جمال الدين الأفغاني، واتصل بالشيخ محمد عبده، وبقيت الصلة بينهما وثيقة بعد ذلك.
وبعد حصوله على شهادة (العالمية) من الأزهر عاد إلى بلده، وعمل مفتشاً للمعارف فيها، ثم أصبح مفتياً لطولكرم. وكان حٌجّةً في العلوم الشرعية والفقهية. ولما أُلِّفَت الجمعيات الوطنية، انتمى الشيخ سعيد إلى حزب "اللامركزية العثمانية"، وأصبح معتمداً للحزب في قضاء بني صعب (طولكرم).
وعندما أُعلنت الحرب العالمية الأولى، وُزعت في دمشق منشورات تدعو إلى الثورة على الأتراك، موقعة باسم "حزب الثورة العربية". فكان من بين الذين أُلقي القبض عليهم في فلسطين. وبعد محاكمة قصيرة في عاليه (لبنان)، نُفّذ في 21 آب (أغسطس) 1915 حكمُ الإعدام في أحد عشر شخصاً، وحُكم على الشيخ سعيد مع آخرين بالمؤبد. ثم خرج بعد سنوات في شباط (فبراير) 1918 من السجن بفضل مساعي الخير من بعض الجهات.
وعندما سُجن الشيخ سعيد الكرمي في عاليه بلبنان، لقي في سجنه ظلماً وجوراً وهواناً، فأنشد شعراً حاراً، وندّد بالمجلس العُرفي بموشّحٍ طويلٍ بليغٍ بعنوان "أيها السابح في بحر الكرى"، نختار منه مقطعين:
إنما حيّر فكري عجباً... كونهم قد جرّموا مثلي بَرِي
والذي لفَّق عني الكذبا... صلبوه مذ رأوه مفتري
ويلهم لِم لَمْ يخافوا العطبا... من سهام الليل وقت السحر
لستُ أنسى حين أولادي الصغارْ... مذ أحسّوا العيد منهم في اقترابْ
سألوا أمَّهمُ بالانكسارْ ... لِمَ مِن والدنا طال الغياب
فأجابتهم بأنفاس حِرار ... راح يأتيكم بحلوى وثياب
وفي سنة 1918، عاد الشيخ سعيد إلى طولكرم بعد الإفراج عنه من سجن "القلعة"، ولما أُلّفت الحكومة العربية في دمشق، في تشرين الأول (أكتوبر) 1918، دُعي إلى العاصمة السورية وشارك في تأسيس المجمع العلمي العربي عام 1919، وعُيِّن نائباً لرئيس المجمع، ثم أصبح رئيساً للمجمع عام 1920.
أصبح قاضي القضاة في عمّان (1922 ـ 1926)، قام بتأسيس مجمع اللغة العربية الأردني سنة 1923، وقد ذكرت بعض المصادر أنه تولى وزارة المعارف في شرق الأردن أكثر من مرة (اختلفت المصادر بسبب اختلاف التسمية بين وزارة المعارف ومجلس المعارف). وبقي هناك حتى عام 1926.
بعد ذلك اعتزل العمل السياسي، وعاد إلى بلده، واشتغل في سنواته الأخيرة مدرساً في مسجد طولكرم حتى وافته المنية سنة 1935.
تميز شعره من حيث المضمون بالثورية والقوة، أما الشكل فكان كلاسيكياً منظوماً على مختلف الأوزان والقوافي.. وهو ما يعكس شخصيته الثورية في داخله، والشيخ الأزهري في شكله.
أصدر الكرمي عدة كتب اختلفت المصادر فيها (لا تعتمدوا الويكيبيديا، ففيها مبالغات واضحة)، ذكر بعضها صاحب "الأعلام" خير الدين الزركلي، مثل: "واضح البرهان في الردّ على أهل البهتان" و"رسالة في التصوف" و"الإعلام بمعاني الأعلام"، ومجلدان يضمان مقالاته المتسلسلة في مجلة المجمع العلمي، وغيرها من الكتب.
غير أن أبرز إنجاز حققه الكرمي لم يكن في كتبه الورقية، بل في كتبه البشرية، حيث كان أولاده أعلاماً في الثقافة الفلسطينية من بعده، ومنهم أحمد شاكر الكرمي الذي تولى تحرير مجلة "الفيحاء" بدمشق سنة 1922 وأنشأ مجلة "الميزان" سنة 1925، ولم يكن قد تجاوز الثلاثين من العمر. ومنهم الشاعران محمود الكرمي وعبد الكريم الكرمي المعروف بأبي سلمى (الركن الثالث في مجموعة إبراهيم طوقان)؛ والأديبان عبد الغني الكرمي وحسن الكرمي (صاحب موسوعة "قول على قول" التي كانت برنامجاً على إذاعة لندن لعشرات السنين).
البذور المعممة للأدب والشعر الفلسطينيين
جامعات فلسطين.. معاناة بالتأسيس ودور أكاديمي ووطني في الصمود
مقدمة في إحياء الشعر العربي في فلسطين