نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تقريرا تحدثت فيه عن حيثيات حصول الكاتب الحائز على جائزة بوليتزر ومراسل نيويورك تايمز الشهير خلال حرب فيتنام، نيل شيهان، على أوراق البنتاغون السرية للغاية، التي سبق أن كشف عنها في مقابلة أجراها سنة 2015 دامت أربع ساعات.
وقالت الصحيفة، في هذا التقرير
الذي ترجمته "عربي21"، إن أوراق البنتاغون السرية التي كانت بحوزة الكاتب
نيل شيهان مثلت السبق الصحفي الذي أدى إلى اندلاع مواجهة حاسمة بين إدارة نيكسون والصحافة
في سنة 1971، وإلى إصدار حكم من قبل المحكمة العليا لا يزال يُنظر إليه على أنه علامة
بارزة في العلاقات بين الحكومة والصحافة.
وذكرت الصحيفة أن شيهان منذ
اللحظة التي حصل فيها على سبعة آلاف صفحة من الوثائق الحكومية السرية المتعلّقة بحرب
فيتنام التي قدّمها لصحيفة "نيويورك تايمز"، وحتى وفاته يوم الخميس 7 كانون
الثاني/ يناير، رفض جلّ الدعوات التي تلقاها لإجراء مقابلة يوضح فيها كيفية حصوله على
تلك الوثائق. وكان الاستثناء الوحيد في سنة 2015.
بناء على طلب أحد المراسلين،
وافق شيهان على سرد قصته شريطة عدم نشر المقابلة وهو على قيد الحياة. ورغم معاناته
من انحراف العمود الفقري ومرض باركنسون، أجرى شيهان المقابلة التي دامت أربع ساعات
في منزله بواشنطن وسرد مختلف أطوار قصته المشوقة.
كشفت أوراق البنتاغون، التي
يمكن اعتبارها أعظم تسريب صحفي، عن التاريخ السري لتورّط الولايات المتحدة في حرب فيتنام
بتكليف من وزير الدفاع في سنة 1967. كما برهنت هذه الوثائق التي كُشفت لأول مرة عن
مدى مضاعفة الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض جهودها لضمان التدخل الأمريكي في الحرب
بينما أخفت شكوكها بشأن فرص النجاح.
اقرأ أيضا: بيلوسي تبحث مع البنتاغون منع ترامب من شن ضربات نووية
أشارت الصحيفة إلى أن شيهان
تحدّث عن الأسماء المستعارة المدوّنة في سجلات الضيوف في فنادق ماساتشوستس، وتعطّل
آلات النسخ تحت عبء تحميل المستندات طوال الليل، وإخفائه المستندات المنسوخة في خزانة
في محطة الحافلات، ثم إخفاء حزمة الأوراق في مقعد على متن رحلة قادمة من بوسطن.
أقرّ شيهان بأنه تحدى التعليمات
الصريحة التي تلقاها من مصدره السري، الذي تبيّن لاحقا أنه المحلل السابق بوزارة الدفاع
دانيال إلسبيرغ، الذي كان بدوره مساهما في نسج هذا التاريخ السري أثناء عمله لصالح
مؤسسة "راند". ففي سنة 1969، قام إلسبيرغ بنسخ التقرير بالكامل بشكل غير
قانوني أملا في أن يؤدي نشره إلى التعجيل بإنهاء الحرب التي كان معارضا لها بشدة.
كما أكّد شيهان أن إلسبيرغ لم
"يسلم" هذه المستندات إلى صحيفة "نيويورك تايمز" أبدًا، حيث أخبر
شيهان بأن بمقدوره الإطلاع عليها ولكن لا يمكنه نسخها. ومن جهته، عمل شيهان على تهريب
الأوراق من شقة في كامبريدج بماساتشوستس، حيث كان إلسبيرغ يخبئها، ثم نسخها بطريقة
غير مشروعة - مثلما فعل إلسبيرغ - ومن ثم أخذها إلى صحيفة "نيويورك تايمز".
على امتداد الشهرين التاليين،
أمضى شيهان معظم الوقت مع إلسبيرغ وأخبره بأن محرريه يدرسون أفضل السبل لتقديم المادة،
لكنه في الواقع كان مختبئا في غرفة فندق وسط مدينة مانهاتن مع الوثائق وفريق من محرري
ومراسلي صحيفة "نيويورك تايمز" الذين يعملون بجهد لنشر المستندات.
وذكرت الصحيفة أن نشر الدفعة
الأولى من أوراق البنتاغون في 13 حزيران/ يونيو من سنة 1971 صدم إلسبيرغ، الذي كان
يعلم أن الأوراق ستُنشر لا محالة من قبل موظف آخر في الصحيفة، وهو أنتوني أوستن، والذي
كان قد أطلعه سرا على مقتطفات من الأوراق قبل أشهر. ومن جهته، اختار أوستن عدم إخبار
أي شخص يعمل في الصحيفة عن موضوع المستندات، وفضّل الاحتفاظ بها في كتاب كان يؤلفه
عن الحرب.
وعندما اكتشف أوستن أن الصحيفة
على وشك أن تنشر هذا السبق الصحفي، اتصل بإلسبيرغ مذعورًا. ويُذكر أن إلسبيرغ حاول
التواصل مع شيهان، الذي كان منهمكا في كتابة الإصدارات اللاحقة. ولكن شيهان تجاهل رسائل
إلسبيرغ إلى أن علم أن الأوان قد فات للتدخل. كما طلب من أحد المحررين إعلامه عند الانتهاء
من طباعة 10 آلاف نسخة.
ونقلت الصحيفة ما جاء على لسان
شيهان في المقابلة التي أجراها سنة 2015، حيث قال إن "أي شخص كان ليفعل ما فعلته"،
مبررا خداعه لإلسبيرغ بأنه كان محتارا بين رغبته في نشر الأوراق والخوف من دخوله السجن.
وقال شيهان إن إلسبيرغ كان يتصرف بتهور في مساعيه لحماية نفسه. لذلك، خشي من أن يُطلع
إلسبيرغ شخصا آخر على الوثائق عن غير قصد.
الخوف من السجن
لطالما كان إلسبيرغ منبعا للمعلومات
بالنسبة لشيهان. ففي زيارة قام بها إلى واشنطن في شهر آذار/ مارس 1971، اتصل إلسبيرغ
بشيهان وطلب منه قضاء الليلة في منزله. وبعد حديث مطوّل، عقد الرجلان صفقة، حيث يسلمه
المستندات وإذا وافقت الصحيفة على نشرها فإنها ستفعل ما في وسعها لحماية هوية المصدر.
ولكن عندما وصل شيهان إلى كامبريدج بهدف استلام الوثائق، كان إلسبيرغ قد غير رأيه،
وأخبر شيهان بأنه يستطيع قراءتها فقط دون نسخها - لأن شيهان قال له إنه "بمجرد
أن يسلّم الأوراق، ستتولى الصحيفة ملكيتها، وسوف تفعل بها ما تريد".
ذكر إلسبيرغ في مذكراته، التي
نُشرت سنة 2002 بعنوان "الأسرار: مذكرات فيتنام وأوراق البنتاغون"، أنه كان
يشك في أن صحيفة "نيويورك تايمز" ستنشر كامل الوثائق، كما كان يريد أن يفعل.
وأضاف أنه كان يخشى أيضا من أنه في حال قام بتسليم الأوراق قبل أن تلتزم الصحيفة بالنشر،
فإن شخصا ما سيُبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي، "أو سيحصل المكتب بطريقة أو بأخرى
على معلومات حولها ويبحث عن النسخ الأخرى".
وأضاف شيهان أن إلسبيرغ كان
يجازف بشدة، فقد قام بنسخ الأوراق عدة مرات ودفع تكاليف النسخ بشيكات بنكية شخصية بلا
مبالاة. كما اتصل بأعضاء الكونغرس بشأن عقد جلسات استماع. لهذا السبب، أوضح شيهان أنه
"لا توجد طريقة تستطيع من خلالها الصحيفة حماية هذا الرجل".
وبناء على ذلك، أدرك شيهان أنه
يتعين عليه التحرك بسرعة لأنه بمجرد تسريب الأوراق، ستتوجه الحكومة إلى المحكمة لمنع
النشر. وسينتهي الأمر بمحامي صحيفة "نيويورك تايمز" إلى الدخول في دوامة
نقاشات مع وزارة العدل بشأن المستندات السرية.
وأشار شيهان إلى أنه كان يعارض
الحرب مثل إلسبيرغ، وكان ينوي أن يفعل ما بوسعه لوقفها، موضحا أنه شعر بالاستياء عندما
أخبره إلسبيرغ بأنه "يستطيع أن يقرأ الأوراق ويدون الملاحظات، ولكن لا يمكنه نسخها".
لهذا السبب، قرر "أن هذه المستندات لن تعود مرة أخرى إلى الخزنة الحكومية".
عند عودته إلى واشنطن، أخبر
زوجته سوزان شيهان، وهي كاتبة في صحيفة "نيويوركر"، بحقيقة الأوراق السرية.
وقد أخبرته بدورها أنها "لو كانت مكانه، لكانت ستسيطر على هذا الموقف". وشجعته
على مجاراة إلسبيرغ، وبذل قصارى جهده لحمايته، والتأكد من أخذ الأوراق إلى صحيفة
"نيويورك تايمز".
اقرأ أيضا: إندبندنت: رفض قضاء بريطانيا ترحيل أسانج انتصار مهم للصحافة
عاد شيهان إلى كامبريدج لمواصلة
القراءة وتدوين الملاحظات. وعندما أعلن السيد إلسبيرغ أنه سيغادر في إجازة قصيرة، طلب
شيهان مواصلة العمل في الشقة التي وقع الاحتفاظ فيها بالوثائق. وافق إلسبيرغ وأعطاه
المفتاح ولكنه ذكّر شيهان بألا ينسخ الوثائق.
قال شيهان: "لقد عرفت إلسبيرغ
لفترة طويلة، وكان يعتقد أنني أعمل وفقا لنفس القواعد التي يستخدمها المرء عادة: يتحكم
المصدر في المادة. لم يدرك أنني كنت أعتبره غير عقلاني. لا يمكنك ترك هذه الوثائق بين
يديه. إنها مهمة للغاية وخطيرة للغاية".
ليلة طويلة في محل النسخ
ذكرت الصحيفة أنه عندما اتضح
أن إلسبيرغ سيغادر، اتصل شيهان بالمنزل وقال لزوجته: "تعالي. أنا بحاجة إلى مساعدتك".
وطلب منها إحضار حقائب السفر والمظاريف الكبيرة وكل النقود في المنزل. سافرت زوجته
إلى بوسطن وحجزت غرفة في فندق تحت اسم مستعار.
حصل شيهان على اسم محل نسخ يمكنه
التعامل مع آلاف الصفحات من مدير مكتب صحيفة نيويورك تايمز في بوسطن. وطلب من رئيس
المكتب أن يحصل له على عدة مئات من الدولارات كنفقات لمشروع سري رفض شرحه، غير أن رؤساء
التحرير المناوبين في تلك الليلة رفضوا الطلب. لذلك، اتصل بالمحرر الوطني، الذي أمر
بإعطائه المال دون جدال.
قام شيهان بنسخ مفتاح الشقة
في حال فقد المفتاح الأصلي ثم بدأ بنسخ السبعة آلاف صفحة. كان ينقل أكواما من الصفحات
بسيارة أجرة بين الشقة ومحل النسخ، ثم إلى خزانة في محطة حافلات بوسطن ثم إلى خزانة
في مطار لوجان لاحقا.
عندما تعطلت الآلات في متجر
النسخ بسبب الضغط، انتقلت عائلة شيهان إلى متجر نسخ في بوسطن يديره أحد قدامى المحاربين
في البحرية. عندما لاحظ الرجل أن الوثائق سرية وأصبح متوترا، اتصلت السيدة شيهان، التي
كانت في المحل، بزوجها في الشقة وقالت له: "تعال إلى هنا".
عاد شيهان مسرعا إلى المحل وأخبر
المدير أنه استعار المادة من بعض أساتذة جامعة هارفارد. وقال إنهم كانوا يستخدمونها
في دراسة ووضعوا حدا زمنيا لإقراضها. وأكد للمدير أنه وقع رفع السرية عن الوثائق.
في المطار، اشترى السيد شيهان
وزوجته مقعدا إضافيا على متن رحلة العودة إلى المنزل ووضعا حقائبهما عليها وربطاها
بالداخل بدلا من تركها بعيدا عن أنظارهما. وفي واشنطن، انطلق محرر شيهان، ومعه نماذج
من المستندات ومذكرة من السيد شيهان، إلى نيويورك للحصول على الموافقة حتى يتمكن شيهان
من المضي قدما.
عزل شيهان والمحرر نفسيهما في
غرفة بفندق جيفرسون بواشنطن وأمضيا عدة أسابيع هناك يقرءان الوثائق ويلخصان ما لديهما.
ثم وقع استدعاؤهما إلى نيويورك لإطلاع كبار محرري الصحيفة على الوثائق. وخلال اجتماع
في مقر صحيفة نيويورك تايمز، وجد شيهان أن محامي الشركة يبدو قلقا.
وأفادت الصحيفة بأن شيهان والمحرر
أُعطيا غرفة في فندق هيلتون في وسط مانهاتن لمواصلة العمل. وسرعان ما التحق بهما محرر
آخر وثلاثة كتاب آخرين وحراس أمن وخزائن ملفات بأقفال مركبة. في النهاية، كان هناك
عشرات الأشخاص يعملون على مدار الساعة في ثلاث غرف متجاورة.
لقد اعتاد شيهان على الاتصال
بإلسبيرغ كل بضعة أيام "لمحاولة إبقائه على اطلاع بالمستجدات"، كما قال في
سنة 2015. كان السيد شيهان قلقا من أن شخصا ما تحدث إليه إلسبيرغ قد يكشف العملية قبل
أن تتمكن الصحيفة من نشر القصة. لذلك، قدم الأعذار لإلسبيرغ لعدم إحرازه تقدما واضحا
على ما يبدو. حتى أنه قال إن كبار المحررين ما زالوا يناقشون أفضل السبل للمضي قدما.
إشارة ثم انطلاق
قبل أسابيع قليلة من النشر،
قرر شيهان إرسال إشارة إلى إلسبيرغ. لم يكن على استعداد لإخباره مباشرة بأن صحيفة نيويورك
تايمز ستمضي قدما في النشر لأنه كان يخشى أن يعطي رد فعله دليلا للحكومة عن غير قصد.
لكنه يتذكر أنه أراد نوعا من "الموافقة الضمنية" من إلسبيرغ.
لذلك، أخبر إلسبيرغ أنه الآن
بحاجة إلى المستندات وليس فقط ملاحظاته. في المقابل، قال إلسبيرغ إنه لن يسلمها إلا
عندما يكون جاهزا. وهذه المرة، عندما طلب شيهان المستندات، وافق إلسبيرغ.
اختار شيهان الاعتقاد بأن الموافقة
تعني أن إلسبيرغ فهم أن صحيفة نيويورك تايمز يمكنها الآن نشر الوثائق في أي يوم. ويتذكر
شيهان: "كان هذا تمرينا في توجيه تحذير إلى إلسبيرغ - إذا تذكر ما قاله لي - وطريقة
لإراحة ضميري قليلا. ربما يكون الأمر نفاقا، لكننا كنا سنذهب إلى الصحافة وأردت أن
أحاول تحذيره بطريقة ما"؛ إلا أنه اتضح أن إلسبيرغ لم يفهم الإشارة.
في غضون ذلك، تأكد إلسبيرغ من
حصول شيهان على نسخة كاملة من الدراسة التاريخية المخزنة في شقة عائلة إلسبيرغ في مانهاتن.
وتذكر شيهان أنه دفع للبواب مقابل صمته في حال بدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي في تجميع
المعلومات.
وأشارت الصحيفة إلى أن شيهان
اتخذ خطوات أخرى في اللحظة الأخيرة لتغطية آثاره. وُضعت نسخة مخزنة في منزل عائلة شيهان
في ثلاجة أحد الزملاء ووقع تقطيع صفحات من النسخ الأخرى التي تحمل الأحرف الأولى من
اسم إلسبيرغ في نيوجيرسي أو حرقها.
في النهاية، فاجأ توقيت نشر
أوراق البنتاغون إلسبيرغ. وعندما رد شيهان أخيرا على مكالمات إلسبيرغ، لم يتحصل إلا
إلى زوجته التي أخبرته أن إلسبيرغ كان سعيدا بتقديم المواد ولكن "غير سعيد بسبب
الازدواجية الهائلة"، حسب قول شيهان.
في مقابلة أجريت سنة 2015، قال
شيهان إنه لم يكشف أبدا عن هوية إلسبيرغ أثناء تنفيذ المشروع. لقد كان صحفيا آخر، من
خارج الصحيفة، هو الذي كشف الستار عن إلسبيرغ بعد فترة قصيرة من انتشار قصة أوراق البنتاغون.
وأوضحت الصحيفة أنه لم يكن هناك
اتصال بين الرجلين لمدة ستة أشهر. وقال شيهان إنه قبل عيد الميلاد سنة 1971 بوقت قصير،
التقى كل منهما بالآخر في مانهاتن. وفي محادثة قصيرة، قال إنه أخبر إلسبيرغ بما فعله.
ويتذكر شيهان قول إلسبيرغ: "لقد سرقتها، كما فعلت أنا". غير أن شيهان أكّد:
"لا يا دان، أنا لم أسرقها. وأنت لم تسرقها كذلك. هذه الأوراق ملك لشعب الولايات
المتحدة. لقد دفعوا مقابلها ثرواتهم الوطنية ودماء أبنائهم، ولهم الحق في معرفتها".