(1)
لست في حالة تسمح بالكتابة الجيدة عن المشهد الأمريكي الذي شغل العالم، لكنني في كل الأحوال أستطيع أن أفكر وأتأمل وأطرح الأسئلة، وهو ما أفعله في هذا المقال، حتى لا يصيبنا الكسل الفكري بالهزال وهشاشة المعرفة والتسطيح الناتج عن استهلاك "فيشار الإعلام" كبديل للتغذية العقلية السليمة.
أبدأ بتوضيح أسس نظرتي الشخصية للمشهد:
أ- أنا ضد النظام العالمي في مجمله وفي انعكاساته القُطرية، لكنني في الوقت نفسه مضطر للتعامل معه في حدود أنه "نظام فاشل يجب تغييره"، بمعنى عدم الانسياق وراء رغبة هدم النظام من أجل الفراغ القيادي في العالم وفي الأقطار.
ب- أنا مع الشعوب في مجملها وفي تشكيلاتها المختلفة، لكن هذه المعية ليست مناصرة عمياء تتغاضى عن منجزات العلم والفكر وتجارب الإدارة الناجحة والمشتركات الأخلاقية ذات الطابع الإنساني.
ج- أنا ضد التصنيفات القديمة بكل تنوعاتها، ومنها تصنيف يمين/ يسار، وإن كنت أميل لليسار إذا فهمناه باعتباره دعوة للتقدم مقابل الجمود والنزوع الماضوي، وباعتباره نصيرا للناس وحياتهم، وقريبا من العدالة الاجتماعية، في مقابل أخلاق السوق والمنافسة غير المشروطة من أجل الربح والمنفعة الشخصية.
(2)
من هذا الفهم، فأنا لا أتمادى في تحقير مشهد اقتحام الكونجرس والاستخفاف بمظاهر المحتجين والسخرية منهم، سواء يرتدون الفراء والقرون أو ينهبون محتويات المؤسسة الديمقراطية العريقة، وبرغم عدائي النفسي والثقافي والسياسي مع نموذج مثل دونالد ترامب، إلا أنه "عداء نظامي"، عداء مع نموذج احتكاري ميكافيللي سلعي جشع، لكن هذا العداء لا يمتد إلى العمق الشعبي حتى المنحاز منهم بتطرف لترامب، فأنا لا أنظر للشعوب بالنظرة نفسها التي أتعامل بها مع السلطة؛ لأن السلطات زائلة ومتغيرة ويمكن استبدالها بطرق كثيرة طبيعية كانت أو سياسية، بينما الشعوب هي الخامة الأساسية للحياة، ولا يمكن تصور وجود حياة صحيحة مع وجود فكرة تتحدث عن إزاحة الشعوب أو تحقيرها، مهما مرضت أو فسدت أو تجهلت.
فالسياسي أو المهتم بالشأن العام، لا يختار الشعب ولا ينتقي منه ما يلائم ذوقه ومصالحه، لكنه ملزم بالشعب كله: العالم يقدمه والجاهل يعلمه، الصالح يكافئه والمخطئ يصححه، السليم يوظفه والمريض يعالجه. فالشعوب الجيدة هي بالضرورة نتاج أنظمة جيدة، والشعوب المريضة هي بالضرورة نتاج أنظمة خبيثة وخاطئة، ومن ثم فإن المشهد الأمريكي لم يكن في حقيقته مشهدا للغوغاء ضد النظام المقدر، ولا جريمة يرتكبها فاشيون بغضاء ضد النموذج الديمقراطي الرائع، لكنه كان مشهدا مستحقا للاحتجاج ضد نظام خاطئ وفاشل، حتى وإن كانت طريقة الاحتجاج مستهجنة، حتى وإن كانت دوافع المحتجين انحرفت عن طريقها ولم تستطع أن تعبر بشكل صحيح عن أسباب الوجع وعدم الانتماء للنظام، كما تعبر عن القلق من الحاضر والخوف من المستقبل، في ظل تشوش عالمي يزيف وعي الناس ويوجه حركتهم بعيدا عن مصالحهم وأخلاقهم.
(3)
قد يتعجب من يتابعني لهذا الرأي الذي يوحي بمناصرة الحركات الفاشية اليمينية في المجتمع الأمريكي ومجتمعات كثيرة أخرى في العالم، لكن الأمر ليس بهذا التبسيط الذي يحتمل النظر بلونين فقط (أبيض واسود)، صحيح أنني على المستوى الثقافي والسياسي والجمالي ضد الفاشية والمنطلقات العنصرية والتطرف الفكري أو العرقي، لكنني أعتبر أن هذه التصرفات المرفوضة مجرد مرض تصاب به المجتمعات، وليست خلقة ينشأ الناس عليها، ومن ثم فإن التفكير السليم يبدأ من علاج المرض ودراسة أعراضه (التي نرفضها ولا نحبها بطبيعة الحال)، والاحتراز من انتشار المرض بين قطاعات أخرى من الأصحاء في المجتمع.
وهكذا يبدأ التعاطف مع المخطئين الاجتماعيين، وتوجيه النظر والمساءلة على المؤسسات الرسمية التي أهملت حياة الناس، ما أدى إلى إصابتهم بهذه الأمراض التي يعود النظام ليشكو منها، بينما هو في الأصل الذي صنعها وسعى للاستفادة منها وتوظيفها في صراعه على السلطة، داخل ما يسميه بالنظام الذي يكفل له استخدام كل شيء لصالحه هو وفقط، حتى أمراض الناس وفقرهم وجهلهم وحياتهم وموتهم أيضا.
(4)
قد يبدو كلامي للبعض رغبة انسحابية تستهدف الغفران البشري الأعمى، أو ميلا غامضا نحو تشجيع الفوضى ضد نظام شمولي يتستر بالديمقراطية المصطنعة، لكن هذا غير صحيح؛ لأنني مهتم بدراسة النموذج الأمريكي بوعي علمي رصين، ولا أتسرع في الاستنتاجات أو التقديرات السياسية والاجتماعية للظواهر والقرارات التي ينتجها هذا النموذج المهيمن على عصرنا وعلى عقولنا، كما كان نموذج الإمبراطورية الرومانية في العصور القديمة، لذلك لم أتعامل مع اقتحام الكونجرس كخطيئة ديمقراطية كما رأت بيلوسي والإعلام الكوني الحالي، لكنني تعاملت مع "ثورة جراس روتس" (Grassroots) هي بكل تأكيد بنت "النظام الديمقراطي" وصنيعته، حتى لو تنكر لها وقدمها للعالم كطفلة بلا نسب نتيجة علاقة سرية مع الخادمة!
(5)
الـ"جراس روتس" كفكرة لم تبدأ مع حكم ترامب، فهي ترجع إلى بدايات القرن الماضي كبذرة لولادة عصر الجماهير وإعدادها للمشاركة السياسية والمجتمعية، لكن ترامب وكهانه انتبهوا إلى الثمار التي أينعت طوال فترات الاحتجاج المدني وجولات الحصول على الحقوق المدنية، وحصدوها بانتهازية ميكافيلية لاستخدامها في ضمان صعوده وبقائه في السلطة كرمز لحالة شعبوية.
وهذا ما فكر فيه دهاقنة جمال مبارك من خلال جمعية المستقبل وفروعها، ودعم وتمويل تكتلات الألتراس الكروي في مصر، حتى صار رقما مؤثرا في معادلة السياسة في أثناء وبعد اندلاع ثورة يناير، قبل أن يستشعر النظام الأمني في مصر خطورة يقظة القواعد الشعبية، وإحساسها بوجودها وإمكانية قيامها بدور تتحدث وتتحرك من خلاله.
وبالطبع، ساعدت الوسائط الحديثة وميزانيات دعم المنظمات الأهلية والعمل المجتمعي في دفعة هائلة لقدرة الجماهير وتأثيرهم في العمل العام، بصرف النظر عن العبوة الفكرية التي يتم شحنها في رؤس أبناء القواعد الشعبية؛ إذ يكفي استغلال الأوجاع المعيشية في دس الأفكار التي يرغب أصحاب المصالح الكبرى في الاستفادة منها، وبعدها يتم تحريك كل شيء عن بعد. ومعظمكم يعرف غرام النظام العالمي الحالي بأسلوب التحريك عن بعد.
لذلك؛ أقول إن مشهد اقتحام الكونجرس لم يكن في نظري مشهدا بعيدا عن الديمقراطية، لكنه كان أحد تجليات الديمقراطية الغربية، أو بتعبير جيل فريدبرج "هذه ديمقراطيتكم" أو "هكذا تظهر لنا ديمقراطيتكم"، وهو العنوان الذي اختاره فريدبرج وريك رؤال لفيلمهما الوثائقي عن احتجاجات سياتل الشهيرة التي سميت بالسجع الإنجليزي "باتل إن سياتل" (Battle in Seattle). وبينما كان المحتشدون في نهاية الألفية ينددون بالسياسة الاحتكارية للنظام العالمي لإفساد قمة منظمة التجارة العالمية كتحالف رأسمالي جشع ضد البيئة والتنمية البشرية ومصالح شعوب العالم، كان مكنمارا، رمز النظام الجشع (عسكريا وماليا)، يهاجم المحتجين ويصفهم بأنهم "مخربون فوضويون"، برغم أن الرئيس كلينتون حينها صرح بذكاء مدروس "إنهم على حق"، وإن كان يفضل التزامهم بالتعبير السلمي بعيدا عن العنف.
لم تكن "معركة سياتل" ملوثة بأغراض انتخابية أو سلطوية، لكنها كانت ضد النظام الرأسمالي الجشع، كما مضت بعد ذلك حركة "احتلوا وول ستريت". ومع وضوح التخطيط الذكي الذي ساهم فيه النشطاء الجدد بوعيهم الإنساني الكوكبي وعدد من النقابات والمنظمات الأهلية المدافعة عن حقوق المستهلكين والدول النامية، ظهرت جماعات عنف مثل "الكتلة السوداء"، بما يحمله الاسم من موروث يرتبط بالفاشية.
ونظرا لعدم استجابة النظام المعولم لأصوات "الاحتجاج الواعي"، انكمش دور النقابات وانكمش التخطيط الهادف وانكمشت السلمية، وبدا الطريق الوحيد المفتوح للغاضبين والمحتجين هو العنف والعنصرية واختلاط فائض الغضب بالتلوث العنصري والفكري، وهي صلات ينتج عنها تشظي العداء مع النظام، ليسري في مسارات فئوية وقضايا فرعية داخل المجتمع، بحيث يجد ذئاب الانتخابات والقوى المتصارعة داخل النظام فرصة ميسرة لإعادة تدوير الغضب لصالح مخططاتهم، وهو ما فعله ترامب، وما فعله أيضا بايدن والديمقراطيون (بوعي أفضل وممارسة أشيك) في تبني تشكيلات قاعدية أخرى تخدم صندوق الانتخابات الذي احتزل الديمقراطية في مجرد إجراءات روتينية، بعيدة عن سعادة الناس ومعيشتهم.
(6)
كيف تتحول الأحلام إلى كوابيس؟
من يفسد أحلامنا ويعكسها علينا؟
من يفسدنا ويفسد حياتنا ويستخدمنا ضد أنفسنا؟
الإجابة بالنسبة لي معلقة دائما في رقبة الحكام، فالراعي عندي وعند كل عاقل وعند الله جل علاه هو المسؤول الأول والأخطر. ولعل "وباء كورونا" يصلح كعنوان سهل لتقرير تفصيلي عن فشل إدارة العالم، من خلال نظام ينفق التريليونات في التسليح والصراعات والإنترتينمت (الترفيه) المسلي، بينما يعاني ملايين البشر من سوء المعيشة.
ويكفي أن اقتطف أمثلة قليلة من الأرقام الرسمية التي تنشرها مؤسسات النظام العالمي الفاشل نفسها، إذ تكشف الأمم المتحدة عن وجود مليار جائع و795 مليون إنسان لا يجدون مصدرا آمنا لمياه الشرب حسب أحدث تقرير لمنظمة الصحة العالمية، وفي تقرير آخر يتحدثون بطريقة المتسولين المستعطفين من أجل التبرعات؛ عن 450 مليون طفل (حوالي سدس أطفال العالم) يعيشون في مناطق صراعات مسلحة وحروب، و140 مليون طفل يتيم بلا كفالة خلال العام الماضي وحده، ولا تخجل يونيسف وهي تعترف بأن الأمم المتحدة تكفل 100 ألف طفل فقط من الـ140 مليون الذين تعرفهم! هذا إذا وصلت المعونات بدون سرقتها من المسؤولين الذين يكتفون بالقلق على السلم العالمي.
فالأرقام الأممية رصدت جريمة وجود 300 ألف طفل يشاركون في تهديد السلم الدولي، من خلال تجنيدهم أو تطوعهم للقتال في أكثر من 30 دولة عضو في المنظمة "القلقانة"، كما رصدت مثلهم يعملون خارج القوانين، و73 مليون طفل منهم يعملون في مجالات خطيرة. وعللت المنظمة الفاشلة ذلك بسبب مشاكل الحروب، والصراعات، والكوارث الطبيعية، والأوبئة، والفقر، وحركات الهجرة (الأرقام الأممية تتحدث عن 80 مليون لاجئ ونازح خلال العام الماضي)، وهذا كله لا يعني بالنسبة لي أن القبح الإنساني يتلخص في صور الضحايا الذين وضعوا القرون وارتدوا الفرو وتجرعوا الأفكار العنصرية والمخدرات والأفكار المسمومة؛ لأن القبح الأكثر بشاعة موجود طوال الوقت تحت قبة الكابيتول، وداخل المكتب البيضاوي، وعلى الشاشات الكاذبة التي تصبغ الحياة بألوانها، وتسمي القضايا حسب رغبتها.
(7)
أتذكر حالة فيلم "جوكر"، وأتذكر أنني كنت ضد رسالة الفيلم من الناحية السياسية، لكنني كنت معها من الناحية الإنسانية. فالمهرج المنبوذ في نظري ليس بطلا ينبغي تقليده وترميزه كقائد ثورة، لكنه ضحية نظام سياسي واجتماعي ظالم، والضحايا يجب احترام أوجاعهم والتعاطف معهم لا تقليدهم وتقديمهم كأبطال. لكنني فوجئت بأصدقاء طيبين من جمهور اللحظة الذي كان يصفق للجوكر ويعلق صورته على حائط بيته في فيسبوك؛ ينحازون لديمقراطية "الريدنجوت" ضد احتجاجات الرعاع، فوجئت بهم يهللون لمشاهد الحرق والتخريب كفعل سينمائي ويدافعون عن النظام المنمق كما هو بدون تحفظات، أو طرح أسئلة عن الدوافع العميقة للاحتجاجات، وأهمية الاستجابة للجانب الصحيح من الغضب الذي دفع "القواعد" للتحرك ضد النظام، حتى لو لم يكن فهمهم سليما لأسباب الغضب ولا طريقة التعبير عنه، ولهذا أعجبني تعبير باراك أوباما (وأنا أحترمه كمثقف سياسي وناشط مدني، وليس كرئيس) فقد قال؛ "إن المشهد مخجل، لكنه متوقع وغير مفاجئ".
هذا "التوقع" هو الدليل الحي على وجود أسباب وجيهة لما حدث، لكن هذه الأسباب تضيع عادة في "مراحل نسيان التاريخ"، المراحل التي نعيش فيها اللحظة واللقطة، ثم نعبرها وننسى كل شيء ونحن ننغمس في لحظة أخرى ونستغرق في لقطة جديدة. وللأسف، فإن التاريخ يتعاطف أكثر مع المقتحمين، ويعيد تذكيرنا بالأحقية الخفية التي تكمن في المشهد منذ ما حدث في تشرين الثاني/ نوفمير آخر قبل قرون، عندما حاول جي فوكس ورفاقه تفجير البرلمان الإنجليزي بمن فيه، وتمكن التاريخ من تحويل الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر إلى احتفال بالاحتجاج بدلا من الاحتفال بنجاة الملك، وهو ما استدعاه فيلم "في فور فنديتا" استدعاء يوحي بالثورة ولا يوحي بالتخريب.
وبالمناسبة، أذكر أن تعبير "في فور فنديتا" يستحضر للأذهان تعبير "في فور فيكتوري" أو حرف "v" من أجل النصر الذي تحول في الفيلم إلى "من أجل الانتقام من النظام القمعي الشمولي". وهذه قصة طويلة أخرى تشتبك فيها أطراف وتشابهات كثيرة تصل اللحظة التي نعيشها بلحظات أقدم ترتبط بالكلام نفسه المثار الآن عن الفاشية والعنصرية والمؤامرات الشيطانية.
ولعل اسم "ليستر كراولي"، أسطورة السحر الأسود والتلاعب بالأديان والأخلاق، يبدو شبيها بما يثيره أعضاء جماعات الـ"جراس روتس" الأمريكين الحاليين، بتنوعهم الكبير الذي يضم عشرات الجماعات ذات الأفكار الغريبة والطقوس الاحتجاجية التي يجب اعتبارها "قيحا" ناجما عن أمراض لا يجب احتقار أصحابها ولا تجاهلهم، بل الاهتمام بعلاجهم وتصحيح حياتهم، خاصة أن خريطة الأفكار والأهداف التي تشهرها هذه الجماعات (أشهرها: بلاك لايفز ماتر، ثري بيرسنترز، ضد الفاشية، أوث كيبرز، براود بويز، بوجالوس بوا، باتريوت براير، وفروع ذات وظائف انتخابية مباشرة مثل "لاتينيون من أجل ترامب")؛ من العدل عدم وضعها في مستوى فكري واحد، لكنها في كل الأحوال "جماعات غضب" وتشكيلات نابعة من قواعد المجتمع وتعكس إحباطاته وتطلعاته، وهو ما يجب على أي نظام حاكم دراستها وفهم دوافعها، لكي ينجح في إعادة دمجها في نسيج سلمي آمن وشامل، يتخطى مشكلات التشظي والتيه والتناقضات والعنصرية، وهو الدمج الحميد الذي تنشغل به أوروبا في محاولات ترشيدها للمد اليميني الذي عكس نفسه على المجتمعات ومقار الحكم، والذي وصل إلى محاولة اقتحام البرلمان الألماني قبل شهور بطريقة اقتحام الكابيتول نفسها في واشنطن.
لكن، يبدو لي أن النظام الأمريكي الذي يخشى محاولة الخروج عليه ويدينها، لم يتجاوز حدود مصلحته الضيقة كطبقة مالية وسياسية حاكمة في مواجهة حشود من المهمشين، يجب أن تظل مجرد كائنات خدمة وأرقام توظيف حسب حاجة السيستم، من دون أحلام أبعد. لذلك؛ فإن الهدف الأوضح في ردود الفعل الرسمية انحصرت في جهود الحفاظ على قواعد تبادل السلطة في حدود الكبار المسموح لهم بذلك، حرصا على سياسات جعلت من طالبة جامعية وكاتبة مثل "ستيفاني لاند" مجرد خادمة في المنازل تسعى للنجاح كأم صالحة، بينما فرد واحد مثل "إيلون ماسك" يمكن أن يحقق المليارات في ليلة واحدة!
هذا هو الخلل البشع الذي يتجاهله النظام الأمريكي، مفضلا تركيز اهتمامه على تنظيف نفسه من أحمق خرج بالمنافسة من حدودها المرسومة، كما اتفق عليها المتنافسان جورج بوش وبيل كلينتون، وكما اتفق عليها إعلام يمارس دوره كلاعب مقدر في نظام رأسمالي يوزع الحرية بطريقة فئوية وعنصرية يستنكرها إعلام الناس، كما كشفت عنه الميديا الاجتماعية، وكما اتفق عليها عشرة وزراء دفاع، بينهم الرجل الذي ساهم في تأسيس "إدارة التضليل الإعلامي" في البنتاغون، مبررا ذلك بعد انكشاف الفضيحة بممارسة التضليل والتشويش خارج الحدود ضد أعداء أمريكا وليس في الداخل، فإذا به يصطدم بما صنعته إدراته من تضليل وتشويش كبير في الداخل، فأصبح يشكل خطرا على النظام نفسه.
(8)
بطبيعة الحال، لا يمكن الوفاء بتقديم صورة كاملة ومقنعة للمشهد الأمريكي في مقال واحد من شخص واحد، لكن القصد هو فتح النقاش الأعمق بعد مرحلة من القصف الإعلامي الذي اتخذ منحى واحدا ومحددا، هو الدفاع المطلق عن نظام أعارضه وأراه فاسدا وفاشلا، أو بحسب تعبير أوباما وحراس النظام نفسه: نظام انكشفت به عيوب وثغرات خطيرة يجب إصلاحها.
ويبقى السؤال: هل يتمكن ذلك النظام من إصلاح نفسه ليهيمن أكثر على "الجراس روتس" ويديرهم لصالحه باعتبارهم كائنات مستلبة؛ ضد مصالحهم، أم يتمكن الضائعون المهمشون من استثمار لحظة شيخوخة النظام؛ لتصحيح مكانتهم وتعظيم مكاسبهم بعدالة إنسانية عاقلة؟
ستظل الإجابة معلقة، مع الفارق أن النظام العالمي يعرف أكثر ويسعى لتصحيح نفسه أسرع، بينما ضحاياه مشوشون ضائعون تتقاطع مساراتهم وإراداتهم في تعارضات عبثية مصنوعة بإحكام. ولعل مصير فيلم "جوكر" في حفل أوسكار يوضح لنا مدى وعي النظام بأعدائه (الذين هم نحن جميعا)؛ لأن الشعار الذي تطرحه جماعات الجراس روتس قادر على إخافة كل الأنظمة، وهو شعار "الكل في واحد" كما صاغه عندنا توفيق الحكيم، أو بطريقة الهاشتاج الأمريكاني #WWG1WGA، وهو اختصار لعبارة "where we go one, we go all".. أينما اتجه واحد يتجه الكل. لذلك كان مشهد النهاية في فيلم "جوكر" رسالة واضحة التقطها النظام المهيمن فامتنع عن تمجيد الفيلم، إذ تقلصت جوائزه من 11 ترشيحا، بينها السيناريو والإخراج وأحسن فيلم، إلى جائزة في الموسيقى وأخرى للممثل القدير الذي رأينا شبحه جالسا على مكتب بيلوسي يوجه الإهانات إلى ما تمثله في النظام، متوعدا بالعودة في احتجاجات قادمة.
نجاح النظام السائد في تهميش رسائل التعبير والاحتجاج الفني كفيلم "جوكر" ليس حاسما في كسب المعارك، لأن السيطرة على الواقع لا تنحصر في قاعة حفل الأوسكار، لذلك لا يجب أن ننساق وراء النظام القوي الذي تعجبنا براعته وقوة أدائه، فننسى معارضته وننسى أوجاعنا كبشر وننسى فشل "السيستم" في إدارة حياتنا وعلاقاتنا معا، لأنه مشغول بنجاحه في إدارة حياته وعلاقاته المافياوية، والأهم أننا لا يجب أن نتمادى في نسيان الحاجز الزجاجي بين الواقع والتمثيل، فدراما "الجوكر" على الشاشة، ودراما مشهد اقتحام الكابيتول منقولة بواقعية احترافية من صميم حياتنا ونظرتنا العميقة للنظام الظالم.
باختصار: المشهد الصاخب لم يكن مجرد مشهد عفوي عبثي فوضوي بلا سيناريو مسبق ورسالة لاحقة، لكنه جزء من كل، حدث في تاريخ ممتد.. مشهد في فيلم طويل، فإما نشارك في كتابة السيناريو وإما ننتظر بقية الفرجة، وفي كل الأحوال فإن الفصول القادمة ليست رومانسية، بل دراما مروعة ومتقلبة وشيقة.
للحديث تفاصيل كثيرة قد نعود إليها كلما تيسر المجال والمقال.
tamahi@hotmail.com
لست في حالة تسمح بالكتابة الجيدة عن المشهد الأمريكي الذي شغل العالم، لكنني في كل الأحوال أستطيع أن أفكر وأتأمل وأطرح الأسئلة، وهو ما أفعله في هذا المقال، حتى لا يصيبنا الكسل الفكري بالهزال وهشاشة المعرفة والتسطيح الناتج عن استهلاك "فيشار الإعلام" كبديل للتغذية العقلية السليمة.
أبدأ بتوضيح أسس نظرتي الشخصية للمشهد:
أ- أنا ضد النظام العالمي في مجمله وفي انعكاساته القُطرية، لكنني في الوقت نفسه مضطر للتعامل معه في حدود أنه "نظام فاشل يجب تغييره"، بمعنى عدم الانسياق وراء رغبة هدم النظام من أجل الفراغ القيادي في العالم وفي الأقطار.
ب- أنا مع الشعوب في مجملها وفي تشكيلاتها المختلفة، لكن هذه المعية ليست مناصرة عمياء تتغاضى عن منجزات العلم والفكر وتجارب الإدارة الناجحة والمشتركات الأخلاقية ذات الطابع الإنساني.
ج- أنا ضد التصنيفات القديمة بكل تنوعاتها، ومنها تصنيف يمين/ يسار، وإن كنت أميل لليسار إذا فهمناه باعتباره دعوة للتقدم مقابل الجمود والنزوع الماضوي، وباعتباره نصيرا للناس وحياتهم، وقريبا من العدالة الاجتماعية، في مقابل أخلاق السوق والمنافسة غير المشروطة من أجل الربح والمنفعة الشخصية.
(2)
من هذا الفهم، فأنا لا أتمادى في تحقير مشهد اقتحام الكونجرس والاستخفاف بمظاهر المحتجين والسخرية منهم، سواء يرتدون الفراء والقرون أو ينهبون محتويات المؤسسة الديمقراطية العريقة، وبرغم عدائي النفسي والثقافي والسياسي مع نموذج مثل دونالد ترامب، إلا أنه "عداء نظامي"، عداء مع نموذج احتكاري ميكافيللي سلعي جشع، لكن هذا العداء لا يمتد إلى العمق الشعبي حتى المنحاز منهم بتطرف لترامب، فأنا لا أنظر للشعوب بالنظرة نفسها التي أتعامل بها مع السلطة؛ لأن السلطات زائلة ومتغيرة ويمكن استبدالها بطرق كثيرة طبيعية كانت أو سياسية، بينما الشعوب هي الخامة الأساسية للحياة، ولا يمكن تصور وجود حياة صحيحة مع وجود فكرة تتحدث عن إزاحة الشعوب أو تحقيرها، مهما مرضت أو فسدت أو تجهلت.
فالسياسي أو المهتم بالشأن العام، لا يختار الشعب ولا ينتقي منه ما يلائم ذوقه ومصالحه، لكنه ملزم بالشعب كله: العالم يقدمه والجاهل يعلمه، الصالح يكافئه والمخطئ يصححه، السليم يوظفه والمريض يعالجه. فالشعوب الجيدة هي بالضرورة نتاج أنظمة جيدة، والشعوب المريضة هي بالضرورة نتاج أنظمة خبيثة وخاطئة، ومن ثم فإن المشهد الأمريكي لم يكن في حقيقته مشهدا للغوغاء ضد النظام المقدر، ولا جريمة يرتكبها فاشيون بغضاء ضد النموذج الديمقراطي الرائع، لكنه كان مشهدا مستحقا للاحتجاج ضد نظام خاطئ وفاشل، حتى وإن كانت طريقة الاحتجاج مستهجنة، حتى وإن كانت دوافع المحتجين انحرفت عن طريقها ولم تستطع أن تعبر بشكل صحيح عن أسباب الوجع وعدم الانتماء للنظام، كما تعبر عن القلق من الحاضر والخوف من المستقبل، في ظل تشوش عالمي يزيف وعي الناس ويوجه حركتهم بعيدا عن مصالحهم وأخلاقهم.
كان مشهدا مستحقا للاحتجاج ضد نظام خاطئ وفاشل، حتى وإن كانت طريقة الاحتجاج مستهجنة، حتى وإن كانت دوافع المحتجين انحرفت عن طريقها ولم تستطع أن تعبر بشكل صحيح عن أسباب الوجع وعدم الانتماء للنظام، كما تعبر عن القلق من الحاضر والخوف من المستقبل
(3)
قد يتعجب من يتابعني لهذا الرأي الذي يوحي بمناصرة الحركات الفاشية اليمينية في المجتمع الأمريكي ومجتمعات كثيرة أخرى في العالم، لكن الأمر ليس بهذا التبسيط الذي يحتمل النظر بلونين فقط (أبيض واسود)، صحيح أنني على المستوى الثقافي والسياسي والجمالي ضد الفاشية والمنطلقات العنصرية والتطرف الفكري أو العرقي، لكنني أعتبر أن هذه التصرفات المرفوضة مجرد مرض تصاب به المجتمعات، وليست خلقة ينشأ الناس عليها، ومن ثم فإن التفكير السليم يبدأ من علاج المرض ودراسة أعراضه (التي نرفضها ولا نحبها بطبيعة الحال)، والاحتراز من انتشار المرض بين قطاعات أخرى من الأصحاء في المجتمع.
وهكذا يبدأ التعاطف مع المخطئين الاجتماعيين، وتوجيه النظر والمساءلة على المؤسسات الرسمية التي أهملت حياة الناس، ما أدى إلى إصابتهم بهذه الأمراض التي يعود النظام ليشكو منها، بينما هو في الأصل الذي صنعها وسعى للاستفادة منها وتوظيفها في صراعه على السلطة، داخل ما يسميه بالنظام الذي يكفل له استخدام كل شيء لصالحه هو وفقط، حتى أمراض الناس وفقرهم وجهلهم وحياتهم وموتهم أيضا.
(4)
قد يبدو كلامي للبعض رغبة انسحابية تستهدف الغفران البشري الأعمى، أو ميلا غامضا نحو تشجيع الفوضى ضد نظام شمولي يتستر بالديمقراطية المصطنعة، لكن هذا غير صحيح؛ لأنني مهتم بدراسة النموذج الأمريكي بوعي علمي رصين، ولا أتسرع في الاستنتاجات أو التقديرات السياسية والاجتماعية للظواهر والقرارات التي ينتجها هذا النموذج المهيمن على عصرنا وعلى عقولنا، كما كان نموذج الإمبراطورية الرومانية في العصور القديمة، لذلك لم أتعامل مع اقتحام الكونجرس كخطيئة ديمقراطية كما رأت بيلوسي والإعلام الكوني الحالي، لكنني تعاملت مع "ثورة جراس روتس" (Grassroots) هي بكل تأكيد بنت "النظام الديمقراطي" وصنيعته، حتى لو تنكر لها وقدمها للعالم كطفلة بلا نسب نتيجة علاقة سرية مع الخادمة!
(5)
الـ"جراس روتس" كفكرة لم تبدأ مع حكم ترامب، فهي ترجع إلى بدايات القرن الماضي كبذرة لولادة عصر الجماهير وإعدادها للمشاركة السياسية والمجتمعية، لكن ترامب وكهانه انتبهوا إلى الثمار التي أينعت طوال فترات الاحتجاج المدني وجولات الحصول على الحقوق المدنية، وحصدوها بانتهازية ميكافيلية لاستخدامها في ضمان صعوده وبقائه في السلطة كرمز لحالة شعبوية.
وهذا ما فكر فيه دهاقنة جمال مبارك من خلال جمعية المستقبل وفروعها، ودعم وتمويل تكتلات الألتراس الكروي في مصر، حتى صار رقما مؤثرا في معادلة السياسة في أثناء وبعد اندلاع ثورة يناير، قبل أن يستشعر النظام الأمني في مصر خطورة يقظة القواعد الشعبية، وإحساسها بوجودها وإمكانية قيامها بدور تتحدث وتتحرك من خلاله.
وبالطبع، ساعدت الوسائط الحديثة وميزانيات دعم المنظمات الأهلية والعمل المجتمعي في دفعة هائلة لقدرة الجماهير وتأثيرهم في العمل العام، بصرف النظر عن العبوة الفكرية التي يتم شحنها في رؤس أبناء القواعد الشعبية؛ إذ يكفي استغلال الأوجاع المعيشية في دس الأفكار التي يرغب أصحاب المصالح الكبرى في الاستفادة منها، وبعدها يتم تحريك كل شيء عن بعد. ومعظمكم يعرف غرام النظام العالمي الحالي بأسلوب التحريك عن بعد.
مشهد اقتحام الكونجرس لم يكن في نظري مشهدا بعيدا عن الديمقراطية، لكنه كان أحد تجليات الديمقراطية الغربية
لذلك؛ أقول إن مشهد اقتحام الكونجرس لم يكن في نظري مشهدا بعيدا عن الديمقراطية، لكنه كان أحد تجليات الديمقراطية الغربية، أو بتعبير جيل فريدبرج "هذه ديمقراطيتكم" أو "هكذا تظهر لنا ديمقراطيتكم"، وهو العنوان الذي اختاره فريدبرج وريك رؤال لفيلمهما الوثائقي عن احتجاجات سياتل الشهيرة التي سميت بالسجع الإنجليزي "باتل إن سياتل" (Battle in Seattle). وبينما كان المحتشدون في نهاية الألفية ينددون بالسياسة الاحتكارية للنظام العالمي لإفساد قمة منظمة التجارة العالمية كتحالف رأسمالي جشع ضد البيئة والتنمية البشرية ومصالح شعوب العالم، كان مكنمارا، رمز النظام الجشع (عسكريا وماليا)، يهاجم المحتجين ويصفهم بأنهم "مخربون فوضويون"، برغم أن الرئيس كلينتون حينها صرح بذكاء مدروس "إنهم على حق"، وإن كان يفضل التزامهم بالتعبير السلمي بعيدا عن العنف.
لم تكن "معركة سياتل" ملوثة بأغراض انتخابية أو سلطوية، لكنها كانت ضد النظام الرأسمالي الجشع، كما مضت بعد ذلك حركة "احتلوا وول ستريت". ومع وضوح التخطيط الذكي الذي ساهم فيه النشطاء الجدد بوعيهم الإنساني الكوكبي وعدد من النقابات والمنظمات الأهلية المدافعة عن حقوق المستهلكين والدول النامية، ظهرت جماعات عنف مثل "الكتلة السوداء"، بما يحمله الاسم من موروث يرتبط بالفاشية.
ونظرا لعدم استجابة النظام المعولم لأصوات "الاحتجاج الواعي"، انكمش دور النقابات وانكمش التخطيط الهادف وانكمشت السلمية، وبدا الطريق الوحيد المفتوح للغاضبين والمحتجين هو العنف والعنصرية واختلاط فائض الغضب بالتلوث العنصري والفكري، وهي صلات ينتج عنها تشظي العداء مع النظام، ليسري في مسارات فئوية وقضايا فرعية داخل المجتمع، بحيث يجد ذئاب الانتخابات والقوى المتصارعة داخل النظام فرصة ميسرة لإعادة تدوير الغضب لصالح مخططاتهم، وهو ما فعله ترامب، وما فعله أيضا بايدن والديمقراطيون (بوعي أفضل وممارسة أشيك) في تبني تشكيلات قاعدية أخرى تخدم صندوق الانتخابات الذي احتزل الديمقراطية في مجرد إجراءات روتينية، بعيدة عن سعادة الناس ومعيشتهم.
(6)
كيف تتحول الأحلام إلى كوابيس؟
من يفسد أحلامنا ويعكسها علينا؟
من يفسدنا ويفسد حياتنا ويستخدمنا ضد أنفسنا؟
الإجابة بالنسبة لي معلقة دائما في رقبة الحكام، فالراعي عندي وعند كل عاقل وعند الله جل علاه هو المسؤول الأول والأخطر. ولعل "وباء كورونا" يصلح كعنوان سهل لتقرير تفصيلي عن فشل إدارة العالم، من خلال نظام ينفق التريليونات في التسليح والصراعات والإنترتينمت (الترفيه) المسلي، بينما يعاني ملايين البشر من سوء المعيشة.
ويكفي أن اقتطف أمثلة قليلة من الأرقام الرسمية التي تنشرها مؤسسات النظام العالمي الفاشل نفسها، إذ تكشف الأمم المتحدة عن وجود مليار جائع و795 مليون إنسان لا يجدون مصدرا آمنا لمياه الشرب حسب أحدث تقرير لمنظمة الصحة العالمية، وفي تقرير آخر يتحدثون بطريقة المتسولين المستعطفين من أجل التبرعات؛ عن 450 مليون طفل (حوالي سدس أطفال العالم) يعيشون في مناطق صراعات مسلحة وحروب، و140 مليون طفل يتيم بلا كفالة خلال العام الماضي وحده، ولا تخجل يونيسف وهي تعترف بأن الأمم المتحدة تكفل 100 ألف طفل فقط من الـ140 مليون الذين تعرفهم! هذا إذا وصلت المعونات بدون سرقتها من المسؤولين الذين يكتفون بالقلق على السلم العالمي.
فالأرقام الأممية رصدت جريمة وجود 300 ألف طفل يشاركون في تهديد السلم الدولي، من خلال تجنيدهم أو تطوعهم للقتال في أكثر من 30 دولة عضو في المنظمة "القلقانة"، كما رصدت مثلهم يعملون خارج القوانين، و73 مليون طفل منهم يعملون في مجالات خطيرة. وعللت المنظمة الفاشلة ذلك بسبب مشاكل الحروب، والصراعات، والكوارث الطبيعية، والأوبئة، والفقر، وحركات الهجرة (الأرقام الأممية تتحدث عن 80 مليون لاجئ ونازح خلال العام الماضي)، وهذا كله لا يعني بالنسبة لي أن القبح الإنساني يتلخص في صور الضحايا الذين وضعوا القرون وارتدوا الفرو وتجرعوا الأفكار العنصرية والمخدرات والأفكار المسمومة؛ لأن القبح الأكثر بشاعة موجود طوال الوقت تحت قبة الكابيتول، وداخل المكتب البيضاوي، وعلى الشاشات الكاذبة التي تصبغ الحياة بألوانها، وتسمي القضايا حسب رغبتها.
(7)
أتذكر حالة فيلم "جوكر"، وأتذكر أنني كنت ضد رسالة الفيلم من الناحية السياسية، لكنني كنت معها من الناحية الإنسانية. فالمهرج المنبوذ في نظري ليس بطلا ينبغي تقليده وترميزه كقائد ثورة، لكنه ضحية نظام سياسي واجتماعي ظالم، والضحايا يجب احترام أوجاعهم والتعاطف معهم لا تقليدهم وتقديمهم كأبطال. لكنني فوجئت بأصدقاء طيبين من جمهور اللحظة الذي كان يصفق للجوكر ويعلق صورته على حائط بيته في فيسبوك؛ ينحازون لديمقراطية "الريدنجوت" ضد احتجاجات الرعاع، فوجئت بهم يهللون لمشاهد الحرق والتخريب كفعل سينمائي ويدافعون عن النظام المنمق كما هو بدون تحفظات، أو طرح أسئلة عن الدوافع العميقة للاحتجاجات، وأهمية الاستجابة للجانب الصحيح من الغضب الذي دفع "القواعد" للتحرك ضد النظام، حتى لو لم يكن فهمهم سليما لأسباب الغضب ولا طريقة التعبير عنه، ولهذا أعجبني تعبير باراك أوباما (وأنا أحترمه كمثقف سياسي وناشط مدني، وليس كرئيس) فقد قال؛ "إن المشهد مخجل، لكنه متوقع وغير مفاجئ".
أعجبني تعبير باراك أوباما (وأنا أحترمه كمثقف سياسي وناشط مدني، وليس كرئيس) فقد قال؛ "إن المشهد مخجل، لكنه متوقع وغير مفاجئ"
هذا "التوقع" هو الدليل الحي على وجود أسباب وجيهة لما حدث، لكن هذه الأسباب تضيع عادة في "مراحل نسيان التاريخ"، المراحل التي نعيش فيها اللحظة واللقطة، ثم نعبرها وننسى كل شيء ونحن ننغمس في لحظة أخرى ونستغرق في لقطة جديدة. وللأسف، فإن التاريخ يتعاطف أكثر مع المقتحمين، ويعيد تذكيرنا بالأحقية الخفية التي تكمن في المشهد منذ ما حدث في تشرين الثاني/ نوفمير آخر قبل قرون، عندما حاول جي فوكس ورفاقه تفجير البرلمان الإنجليزي بمن فيه، وتمكن التاريخ من تحويل الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر إلى احتفال بالاحتجاج بدلا من الاحتفال بنجاة الملك، وهو ما استدعاه فيلم "في فور فنديتا" استدعاء يوحي بالثورة ولا يوحي بالتخريب.
وبالمناسبة، أذكر أن تعبير "في فور فنديتا" يستحضر للأذهان تعبير "في فور فيكتوري" أو حرف "v" من أجل النصر الذي تحول في الفيلم إلى "من أجل الانتقام من النظام القمعي الشمولي". وهذه قصة طويلة أخرى تشتبك فيها أطراف وتشابهات كثيرة تصل اللحظة التي نعيشها بلحظات أقدم ترتبط بالكلام نفسه المثار الآن عن الفاشية والعنصرية والمؤامرات الشيطانية.
ولعل اسم "ليستر كراولي"، أسطورة السحر الأسود والتلاعب بالأديان والأخلاق، يبدو شبيها بما يثيره أعضاء جماعات الـ"جراس روتس" الأمريكين الحاليين، بتنوعهم الكبير الذي يضم عشرات الجماعات ذات الأفكار الغريبة والطقوس الاحتجاجية التي يجب اعتبارها "قيحا" ناجما عن أمراض لا يجب احتقار أصحابها ولا تجاهلهم، بل الاهتمام بعلاجهم وتصحيح حياتهم، خاصة أن خريطة الأفكار والأهداف التي تشهرها هذه الجماعات (أشهرها: بلاك لايفز ماتر، ثري بيرسنترز، ضد الفاشية، أوث كيبرز، براود بويز، بوجالوس بوا، باتريوت براير، وفروع ذات وظائف انتخابية مباشرة مثل "لاتينيون من أجل ترامب")؛ من العدل عدم وضعها في مستوى فكري واحد، لكنها في كل الأحوال "جماعات غضب" وتشكيلات نابعة من قواعد المجتمع وتعكس إحباطاته وتطلعاته، وهو ما يجب على أي نظام حاكم دراستها وفهم دوافعها، لكي ينجح في إعادة دمجها في نسيج سلمي آمن وشامل، يتخطى مشكلات التشظي والتيه والتناقضات والعنصرية، وهو الدمج الحميد الذي تنشغل به أوروبا في محاولات ترشيدها للمد اليميني الذي عكس نفسه على المجتمعات ومقار الحكم، والذي وصل إلى محاولة اقتحام البرلمان الألماني قبل شهور بطريقة اقتحام الكابيتول نفسها في واشنطن.
لكن، يبدو لي أن النظام الأمريكي الذي يخشى محاولة الخروج عليه ويدينها، لم يتجاوز حدود مصلحته الضيقة كطبقة مالية وسياسية حاكمة في مواجهة حشود من المهمشين، يجب أن تظل مجرد كائنات خدمة وأرقام توظيف حسب حاجة السيستم، من دون أحلام أبعد. لذلك؛ فإن الهدف الأوضح في ردود الفعل الرسمية انحصرت في جهود الحفاظ على قواعد تبادل السلطة في حدود الكبار المسموح لهم بذلك، حرصا على سياسات جعلت من طالبة جامعية وكاتبة مثل "ستيفاني لاند" مجرد خادمة في المنازل تسعى للنجاح كأم صالحة، بينما فرد واحد مثل "إيلون ماسك" يمكن أن يحقق المليارات في ليلة واحدة!
يبدو لي أن النظام الأمريكي الذي يخشى محاولة الخروج عليه ويدينها، لم يتجاوز حدود مصلحته الضيقة كطبقة مالية وسياسية حاكمة في مواجهة حشود من المهمشين، يجب أن تظل مجرد كائنات خدمة وأرقام توظيف حسب حاجة السيستم، من دون أحلام أبعد.
هذا هو الخلل البشع الذي يتجاهله النظام الأمريكي، مفضلا تركيز اهتمامه على تنظيف نفسه من أحمق خرج بالمنافسة من حدودها المرسومة، كما اتفق عليها المتنافسان جورج بوش وبيل كلينتون، وكما اتفق عليها إعلام يمارس دوره كلاعب مقدر في نظام رأسمالي يوزع الحرية بطريقة فئوية وعنصرية يستنكرها إعلام الناس، كما كشفت عنه الميديا الاجتماعية، وكما اتفق عليها عشرة وزراء دفاع، بينهم الرجل الذي ساهم في تأسيس "إدارة التضليل الإعلامي" في البنتاغون، مبررا ذلك بعد انكشاف الفضيحة بممارسة التضليل والتشويش خارج الحدود ضد أعداء أمريكا وليس في الداخل، فإذا به يصطدم بما صنعته إدراته من تضليل وتشويش كبير في الداخل، فأصبح يشكل خطرا على النظام نفسه.
(8)
بطبيعة الحال، لا يمكن الوفاء بتقديم صورة كاملة ومقنعة للمشهد الأمريكي في مقال واحد من شخص واحد، لكن القصد هو فتح النقاش الأعمق بعد مرحلة من القصف الإعلامي الذي اتخذ منحى واحدا ومحددا، هو الدفاع المطلق عن نظام أعارضه وأراه فاسدا وفاشلا، أو بحسب تعبير أوباما وحراس النظام نفسه: نظام انكشفت به عيوب وثغرات خطيرة يجب إصلاحها.
ويبقى السؤال: هل يتمكن ذلك النظام من إصلاح نفسه ليهيمن أكثر على "الجراس روتس" ويديرهم لصالحه باعتبارهم كائنات مستلبة؛ ضد مصالحهم، أم يتمكن الضائعون المهمشون من استثمار لحظة شيخوخة النظام؛ لتصحيح مكانتهم وتعظيم مكاسبهم بعدالة إنسانية عاقلة؟
ستظل الإجابة معلقة، مع الفارق أن النظام العالمي يعرف أكثر ويسعى لتصحيح نفسه أسرع، بينما ضحاياه مشوشون ضائعون تتقاطع مساراتهم وإراداتهم في تعارضات عبثية مصنوعة بإحكام. ولعل مصير فيلم "جوكر" في حفل أوسكار يوضح لنا مدى وعي النظام بأعدائه (الذين هم نحن جميعا)؛ لأن الشعار الذي تطرحه جماعات الجراس روتس قادر على إخافة كل الأنظمة، وهو شعار "الكل في واحد" كما صاغه عندنا توفيق الحكيم، أو بطريقة الهاشتاج الأمريكاني #WWG1WGA، وهو اختصار لعبارة "where we go one, we go all".. أينما اتجه واحد يتجه الكل. لذلك كان مشهد النهاية في فيلم "جوكر" رسالة واضحة التقطها النظام المهيمن فامتنع عن تمجيد الفيلم، إذ تقلصت جوائزه من 11 ترشيحا، بينها السيناريو والإخراج وأحسن فيلم، إلى جائزة في الموسيقى وأخرى للممثل القدير الذي رأينا شبحه جالسا على مكتب بيلوسي يوجه الإهانات إلى ما تمثله في النظام، متوعدا بالعودة في احتجاجات قادمة.
نجاح النظام السائد في تهميش رسائل التعبير والاحتجاج الفني كفيلم "جوكر" ليس حاسما في كسب المعارك، لأن السيطرة على الواقع لا تنحصر في قاعة حفل الأوسكار، لذلك لا يجب أن ننساق وراء النظام القوي الذي تعجبنا براعته وقوة أدائه، فننسى معارضته وننسى أوجاعنا كبشر وننسى فشل "السيستم" في إدارة حياتنا وعلاقاتنا معا، لأنه مشغول بنجاحه في إدارة حياته وعلاقاته المافياوية، والأهم أننا لا يجب أن نتمادى في نسيان الحاجز الزجاجي بين الواقع والتمثيل، فدراما "الجوكر" على الشاشة، ودراما مشهد اقتحام الكابيتول منقولة بواقعية احترافية من صميم حياتنا ونظرتنا العميقة للنظام الظالم.
باختصار: المشهد الصاخب لم يكن مجرد مشهد عفوي عبثي فوضوي بلا سيناريو مسبق ورسالة لاحقة، لكنه جزء من كل، حدث في تاريخ ممتد.. مشهد في فيلم طويل، فإما نشارك في كتابة السيناريو وإما ننتظر بقية الفرجة، وفي كل الأحوال فإن الفصول القادمة ليست رومانسية، بل دراما مروعة ومتقلبة وشيقة.
للحديث تفاصيل كثيرة قد نعود إليها كلما تيسر المجال والمقال.
tamahi@hotmail.com
شارك
المزيد حول هذا الموضوع
"الترامبية" وحفلة وداعية للذكرى
10-Jan-21 06:21 PM
08-Jan-21 05:00 PM
الانتفاضات العربية وقيادتها الليبرالية
06-Jan-21 02:22 PM
المزيد من هذا الكاتب
