يعرف جمهور الغناء العربي الفنانة المصرية شادية (1931- 2017)، بوصفها مطربة وممثلة. بينما يعرف جمهور الدراما العربية الفنانة السورية أمل عرفة بوصفها ممثلة ومطربة. لكنّ الفنانتين شادية وأمل عرفة لهما رأي آخر في التوصيف الذي تعارف عليه الجمهور العربي، بتقديمه شخصية المطربة على شخصية الممثلة في تجربة شادية الفنية، والعكس في تجربة أمل عرفة.
ففي حوار قديم سجلته معها الإذاعة المصرية في برنامج "ليالي الشرق"، يتفاجأ المستمع إلى شادية بقولها إنها ممثلة وليست مطربة، وإن حسّها الفني يميل منذ الطفولة نحو التمثيل، وإن شخصية الممثلة فيها "ترضيها وتغذّيها أكثر من شخصية المطربة".
وفي المقابل تدافع أمل عرفة، في أكثر من حوار إعلامي، عن شخصية المطربة في تجربتها الفنية، وتصف الغناء، في حوار مع برنامج "نجمك من البيت"، بأنه " يسري في جيناتها"، في إشارة إلى حبّ الغناء الموروث عن أبيها الملحّن سهيل عرفة.
تفتح هذه المفارقة باب النقاش في أكثر من مسألة؛ في العلاقة بين الغناء والتمثيل في السينما العربية، وفي الظروف التي تدفع المطربين إلى احتراف التمثيل، وفي قدرة أصحاب الموهبة الغنائية على أداء أدوار سينمائية، وفيما يضيفه احتراف التمثيل إلى رصيد المطربين، أو ينقص منه.
إذا حاولنا إعداد قائمة بأسماء المطربات والمطربين العرب الذين احترفوا التمثيل، أو أدوا أدواراً في السينما والمسرح والتلفزيون خلال مسيرتهم الفنية، فإن القائمة تطول، بدءا من أم كلثوم، وأسمهان، وليلى مراد، ومحمد عبد الوهاب، ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ...
إلى صباح، وهدى سلطان، وفيروز، ووردة الجزائرية، ونجاة الصغيرة، وعفاف راضي، وسميرة توفيق، وماجدة الرومي، ومحرم فؤاد، وفهد بلان، وهاني شاكر، وأحمد عدوية، ووليد توفيق.. وليس انتهاء بعمرو دياب، ومحمد منير، ومحمد فؤاد، وتامر حسني، وروبي، وهيفاء وهبي، وشيرين عبد الوهاب، وشعبان عبد الرحيم.
قليل من المطربين قاوموا الانجذاب إلى مغناطيس السينما القوي، فالسينما التي يُطلق عليها وصف "الفن السابع" تشبه المعدة العملاقة، في قدرتها على امتصاص وهضم الفنون كلها، وصهرها في بنيتها الشاملة والمتعددة الجوانب.
وليس الغناء وحده ما وظفته السينما أداة من أدوات سحرها المدهش، ولا الموسيقى بطبيعة الحال، بل وظفت الأدب وكبار الأدباء، وعلى رأسهم نجيب محفوظ، وامتصّت مخيّلتهم لخدمة حبكاتها الدرامية. وامتصت السينما كذلك فن الرقص بأنواعه الكثيرة، والرسم والتشكيل.
ولا يُستثنى الشعر أبو الفنون كلّها من تقديم روحه الخلاقة لإغناء عين السينما المتعطشة لالتقاط الجمال وتكثيفه بأدواتها البصرية.
جذبت السينما المواهب الغنائية بوعد الخلود الذي قدمته لهم، ونقلتهم من المسارح والإذاعات لتضعهم تحت أضواء الكاميرات. شخصية الممثلة عند هدى سلطان، وشادية، وأمل عرفة، طغت على شخصية المطربة.
ففي حضن السينما والدراما التلفزيونية تفتقت شخصية الممثلة فيهنّ، وبرعن في تأدية الأدوار غير الغنائية المسندة إليهنّ. وصار الغناء خياراً ثانياً في مسيرتهنّ الفنية. وإذا كانت شادية اختارت طريق التمثيل وفضلته بإرادتها الحرة، إلا أن الحال مختلفة عند غيرها من المطربات اللواتي قادتهنّ ظروف الإنتاج الغنائي، وجاذبية السينما إلى تبديل شخصية المطربة بشخصية الممثلة.
تقول هدى سلطان في حوار مع التلفزيون المصري: " أخذني المخرج نيازي مصطفى من الإذاعة لبطولة فيلم ست الحسن" (إنتاج عام 1950). وكانت تظن أن التمثيل سيعزز شخصيتها الغنائية، لكن انتشار "موجة الأغاني الهابطة" دفعها إلى أن تكون مُقلّة في مجال الغناء، ومكثرة في مجال التمثيل.
وتقول أمل عرفة، إن ما حال بينها وبين احتراف الغناء في بداية مسيرتها الفنية، هو "الشروط المجحفة في العقود الاحتكارية التي كانت شركات الإنتاج تحاول أن تفرضها عليها". وعلى العكس من ذلك، لم تكن أم كلثوم، وفيروز، وماجدة الرومي، ووردة الجزائرية، وعبد الحليم، وفريد الأطرش، ممثلين ناجحين على الرغم من نجاح أفلامهم جماهيريا.
وفي التقييم الموضوعي، تعدّ شادية إلى جانب ليلى مراد (1918- 1995) حالتين فريدتين في تاريخ التمثيل والغناء العربيين، بامتلاكهما شخصيتين كاملتين مستقلتين، ومتجاورتين، غناء وتمثيلاً. ويجوز في حالهما تقديم المطربة على الممثلة، والعكس صحيح.
فكلاهما امتلكت مقوّمات الغناء والتمثيل، بمعنى أنها كانت مطربة حين تغنّي، وممثلة حين تمثّل. وفي مجال الغناء يمكن ذكرهما إلى جوار أساتذة الغناء العربي، وفي مجال التمثيل يمكن أيضاً ذكرهما إلى جوار عمالقة التمثيل في تاريخ السينما العربية.
تمسّكت ليلى مراد في جميع أفلامها بشخصيتها الغنائية، وأطربت جمهورها المحبّ لصوتها، فعلت ذلك بالتزامن مع تجسيدها شخصية الفتاة المدللة العاشقة بشكل مقنع، العاشقة التي تغني حين تفرح، وتغني حين تمرح، وتغني حين تحزن. ومكّنها حضورها القوي أمام الكاميرا من الوقوف أمام الممثلين الكبار في عصرها، مثل حسين صدقي، وأنور وجدي، ونجيب الريحاني، ويوسف وهبي، وكمال الشناوي.
واستفادت من التيار الطاغي للسينما الغنائية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ثم اختارت الاعتزال مع تغيّر وجه السينما المصرية في أعقاب ثورة تموز/ يوليو 1952، لأنها رفضت أن تتخلّى عن صورتها الأيقونية كسندريللا عصرها الذهبي.
أما شادية، فاختارت تنويع أدوارها بين شخصيتها الغنائية وشخصيتها الدرامية، وكانت مبدعة في الشخصيتين. واختارها المخرج حسين كمال لتجسيد دور البطولة النسائية في اثنين من أهم الأفلام في تاريخ السينما العربية؛ فيلم "نحن لا نزرع الشوك"، وفيلم "شيء من الخوف".
وفي الأول، أدتْ شخصية امرأة من خلفية اجتماعية بائسة تتقاذفها أمواج الحياة العاتية في مجتمع قاس على الضعفاء، خصوصاً النساء منهم. وأغنت شادية الشخصية بقدرتها على تجسيد تحوّلاتها الدرامية الكبيرة في سياق الفيلم.
وفي الفيلم الثاني، أدتْ دور "فؤادة" أمام الممثل محمود مرسي الذي أدى دور "عتريس"، واستطاعا معاً أن يصنعا تحفة فنية قوامها علاقة الحب المعقدة بينهما، لتشابك العوامل الفردية فيها مع السياسية والاجتماعية، ورفع هذا التشابك شخصية "فؤادة" من مستوى الشخصية الفردية إلى مستوى الشخصية الرمزية، معبرة عن روح الجماعة ونضالها ضد الاستبداد.
ويعدّ المشهد الصامت الذي وقفت فيه "فؤادة" أمام "عتريس"، لتدير محبس "الهويس"، وتطلق ماء التّرعة في الأرض الجافة، من المشاهد النادرة في السينما العربية التي اعتمد فيها المخرج على الطاقات التعبيرية للممثل من دون حوار.
وفي هذا المشهد، تمكنت شادية من التعبير عن مشاعر التحدي والإشفاق والقوة والضعف والحب والخوف، كلها مجتمعة في وقفتها الممتلئة بكبرياء المرأة المصرية، وفي نظرات عينيها الكحيلتين الواسعتين الممتلئتين حزناً وعنفواناً.
وفي الفيلمين، غنّت شادية أغنيتين من إلحان بليغ حمدي؛ "والله يا زمن" في الفيلم الأول. و"يا عيني ع الولد" في الثاني. وفي الأغنيتين تضافرت موهبتها الغنائية مع أدائها الدرامي لتصنع نموذج الممثلة الذي عبّرت عنه في مقابلتها الإذاعية حين قالت "إنها تحبّ الغناء في السينما وليس على المسرح".
أدركت السينما العربية مبكرة أهمية توظيف الأغنية في خدمة الدراما، لقدرتها على التحليق بالفيلم إلى سماء الشعر والموسيقى، وبثّ العذوبة في مفاصل أحداثه الخشنة أو القاسية؛ ففتحت ذراعيها الواسعتين للمطربات والمطربين، وصنعت لهم السياقات الدرامية ليطلقوا أصواتهم في مشاهد مُخرجة سينمائياً، تضيف إلى أغنياتهم متعة بصرية، وتحقق لهم انتشاراً أوسع، ونجومية أسطع، وقدرة أكبر على البقاء، والتجدد عبر الزمن.
وعلى الرغم من أن بعضهم لم يكن بارعاً في التمثيل، إلا أن السينما كانت قادرة على إخفاء عيوب أدائه بالاتكاء على موهبته في الغناء، وإعداد القصة والدور المناسبين لقدراته، وإسناده بممثلات وممثلين بارعين. وفي سياق هذه العلاقة المركبة بين الغناء والتمثيل، برز مطربون ممثلون، وممثلون مغنون. وهجر مطربون الغناء إلى التمثيل، وتمسّك مطربون بشخصيتهم الغنائية برغم أدائهم أدواراً قليلة أو كثيرة في السينما.
وكلّ ذلك شكّل إضافة نوعية إلى السينما، وصارت المشاهد الغنائية في الأفلام أرشيفاً قائماً بذاته يستحق الدراسة.