بيَّنا في
مقالنا السابق أن غفلة أكثر بني آدم عن طبيعة النموذج النبوي وماهيته، وعدم إدراكهم لكون هذا النموذج الشريف الذي يُقوِّضُ الطوبيا ويحطم أوهام قداسة التاريخ؛ هو الذي يجعل انتباههم يَنتَقِلُ تدريجيّاً - وبطول الأمد - من الإنصات للأمر الإلهي إلى الإنصات لضجيج الحركة/ التاريخ؛ لينشأ اللاهوت والجدل الدائري (أو علم الكلام). وإن هذا التحول التدريجي في الانتباه هو الذي يُقوِّض كذلك - تدريجيّاً - هيمنة المعرِفة الكليَّة على الوجود الإنساني، ليُحِلَّ محلها اللاهوت التاريخي (أو التأصيل للهوى والفهم الشخصي!). إذ أناط رب العزة سبحانه وتعالى بالمكلَّفين الاضطلاع بتحقيق هذه الهيمنة بإرادتهم الحرَّة، فإن نكلوا عنها؛ ارتكس الإنسان بطول الأمد، وابتعد عن التنزيل المعصوم، وأخلَدَ إلى الأرض، واتبع الهوى؛ لأن الهوى لا يستطيع مُزاحمة
المعرفة الكليَّة ما لم تكن قد توارَت فعلاً في نفوس المكلَّفين، أو تهمَّش حضورها، وانطفأت فعاليتها؛ فانصرف العبيد إلى التفاصيل والإجراءات التقنيَّة، وغفلوا عن العظائم وعن الغاية العُليا للحياة.
وإذا كانت طبيعة العصر، واتساع نطاق المعارف، وزيادة عمق كل تخصُّص؛ قد فرضت على كثيرين التقوقُع المعرفي على تفاصيل تخصُّص فرعي واحد، ومن ثم؛ كرَّس ذلك هيمنة المعارف الإجرائيَّة الجزئيَّة، وكرَّسها في أضيق وأفقر نطاقاتها، ممثلة في المعارف الإجرائيَّة التخصُّصية؛ فإن هذه الحالة قد أعجَزَت الكثيرين عن الاحتفاظ بصفاء أذهانهم باحتفاظهم بجلاء المعرفة الكليَّة وهيمنتها على حيواتهم، فضلاً عن أنها أعجزتهم كذلك عن أي إنتاج شخصي نافِع، وذلك لشدَّة تشوُّشهم بالكم الهائل الذي أثقلوا به من التفاصيل الإجرائية، بل كان الأنكى أنها أعجزتهم حتى عن إدراك التنوع خلف هذا الكم البغيض من التفاصيل. وإذا كانت معرفة الحدود البشرية، واستحالة الإلمام بكل ما كُتِبَ وقيل في فن واحد؛ مُسلَّمة بدهيَّة يجب أن تظل قرين حالة التقوقُع المعرفي الافتراضية هذه، وإذا كان تنوع الاطلاع مفيد حتى للمتخصص؛ فإن الأفضل أن يظل اطلاعه، خارج تخصصه وداخله؛ متعلقاً بأنماط المعارف لا بتفاصيلها، وبكلياتها لا بجزئياتها؛ لتكتسب رؤيته شمولاً وتركيبية وعمقاً وحيوية ونُضجاً، يَفتَقِدهم حتماً إذا انكفأ على حقل واحد من المعارف وتفاصيله.
وما هذا إلا لأن المعرفة الكليَّة لا تُنتَج بالقطيعة (كما هو حال اللاهوت الكلامي)، ولا تُكرِّس أي نوع من أنواع القطيعة، ولا يُمكنها الهيمنة على ما عداها في ظل حالة القطيعة، رغم أن مصدرها الرئيس (والوحيد) هو "التنزيل" الإلهي وتصوراته القطعيَّة القاطعة. فهذه المعرفة وإن كانت تُنتَجُ من خلال مكابدة يظهر فيها الأثر الجلي لتراكُم الخبرات الجوانية والبرانية (حتى عند المجتهد المطلق)، غير أنها تُكرِّس هيمنة الأمر الإلهي على ما عداه من تصورات البشر، لا قطيعته مع أوهام البشر؛ إذ أنها تفتَرِض ابتداءً وجود بقايا حق في كل باطل بشري، بما أن الإنسان مفطور ابتداء على
الحق. ومن ثم، تعمَد هذه المعرفة الإطاريَّة المهيمنة إلى استيعاب كل باطل الإنسانيَّة (بما أنه في أصله حقٌّ انحرف به أهله)، لا لتتصالح معه وتُقِرّه؛ وإنما لتهضمه وتزدرده، وتُهمِّش
الباطل الغالِب عليه، وتستخرِج بقايا الحق؛ لتُحِلَّ محلَّ الباطل قسطاً أكبر من الحق الذي افتقده المبطِلُ بتطاول الأمد.
وقد أدرك المتكلمون المسلمون ذلك منذ وقت جد مبكر، وخبروا اختلاط التصورات، وأيقنوا بحتمية اختلاط الحق بالباطل في النظر والعمل؛ فعرفوا أن هيمنة الحق الإلهي المعصوم وغلبته على المسلم (صحيح الإسلام) أمر لا شك في وقوعه بسبب عصمة هذا الحق وعصمة الموحى إليه به، صلى الله عليه وآله وسلم.
ولهذا، فإن هذه المعرفة الإلهيَّة الكليَّة تستحيلُ في ظلِّ هيمنتها أيَّة قطيعة بين فروع المعرفة التي يُنتجها الإنسان، وذلك كما استحالَت هيمنتها هي ذاتها على الوجود في ظل سيادة حالة من القطيعة فيما دونها من معارِف؛ إذ أن الانقطاع بين المعارف البشريَّة يعني ابتداءً صيرورة كل مصدر من مصادر هذه المعرفة، وكل حقل من حقولها؛ مقدسّاً بفرادة وعصمة (حلوليَّة)، لينتفي اعتماده على غيره نظريّاً، وذلك بعد أن تصير هذه المعارف الضيقة نفسها مقدَّسة (حقّاً مُطلقاً) بقطيعة كل منها مع غيرها.
هذه البيئة السوسيو- معرفيَّة تكاد تجعل استقامة المكابدة الفردية للبشري مستحيلة، إذ أن هذه المكابدة يلزمها مجتمع مفتوح (مهما كان محدود العدد) يُكابد التعاليم الإلهيَّة مُتحرراً، مجتمع تستحيل فيه القطيعة الإنسانيَّة/ الاجتماعيَّة بذات درجة استحالة القطيعة المعرفيَّة التاريخيَّة فيه. وشذوذ القاعدة الذي تمثَّلَ في بعض أفراد المتصوفة -على مر العصور- هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، التي تجسَّدت في مجتمع راشدي قام على التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وحتى نختم مقالنا بما وعدنا به القارئ آنفاً، ألا وهو كيفيَّة تجلية المعارِف الكليَّة وإحيائها، وإعادة محاكمة التفاصيل الإجرائيَّة التقنية لها، لتحقيق هيمنة المعارِف الكليَّة؛ فإننا نزوده بثلاث خطوات متتالية، يتعيَّن عليه الاستعانة بها، لتحقيق قدر معقول من هذه الهيمنة على حياته وتصوراته:
الأولى ألا تغرق أبداً في التفاصيل، أي تفاصيل، ولا تسمح لها بالهيمنة على حياتك. وإنما يكون التعامُل مع التفاصيل إما بجمعها في حزمة تصوريَّة/ عمليَّة واحدة تجعل التعاطي معها جملةً أيسر، أو بتجاهُلها تماماً إن لم تكن تؤثر تأثيراً حقيقيّاً على سير الحياة.
أما
الخطوة الثانية فهي الربط بين محاكمة التفاصيل إلى المعرفة الكليَّة وبين جمع هذه التفاصيل في حزمة تصوريَّة/ عمليَّة واحدة؛ إذ أن المقدرة على تحقيق هذا الربط بين التفاصيل تعني مقدرتك على إدراك الوحدة خلف التنوع، ومعرفة الرابط الكلي الكامن خلف التفاصيل، وهذا يُفضي بك بالتالي إلى المقدرة على محاكمة التصور الكلي الكامن خلف هذه التفاصيل إلى المعرفة الكليَّة التي ينبغي لها الهيمنة على حياتك.
أما
الخطوة الثالثة في المتتالية، وهي الأولى كذلك في هذه العمليَّة الأبديَّة الدائريَّة؛ فهي دوام تغذية نموذجك من المعرفة الكليَّة بدوام صُحبة كتاب الله وسُنة حضرة رسوله، تالياً ومُتدبراً ودارساً، ولو اقتصر ذلك على حديث واحد، أو آية واحدة؛ فإن ذلك يُغذي نموذجك ويُثريه، ويمنحه المرونة والقوَّة اللازمتين.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry