أين سترسو سفينة
السودان مع التداعيات المقلقة التي تكتنف مسيرة الفترة الانتقالية؟
سؤال لا تنفك مجالس السودانيين تردده بقلق منذ التغيير الذي حدث في البلاد قبل ما يقارب العامين. فبحسب الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية، من المفترض أن تجري انتخابات عامة بعد أربعة أعوام تبدأ من تاريخ التوقيع على الوثيقة في الرابع من آب/ أغسطس من العام 2019، ولكن تم تمديد الفترة الانتقالية بعد التوقيع على اتفاقية سلام جوبا في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 والتي نصت كذلك على إجراء الانتخابات بعد أربع سنوات من توقيعها
(1).
ومع تراكم التحديات التي تحيط بالبلاد وتعمق حالة الانقسام السياسي بين كافة الأطراف الفاعلة في المشهد، تبدو الانتخابات كأهم استحقاق دستوري آخر ما يشغل بال التحالف الحاكم في قوى الحرية والتغيير، إذ تتعامل الحكومة التي شكلها هذا التحالف وكأنها حكومة منتخبة مفوضة، بتركيزها على القضايا الخلافية من تعديل للقوانين وتغيير للمناهج الدراسية، وفي الوقت نفسه تزداد قضايا الانتقال، كتحسين الأوضاع المعيشية وإعداد البلد للانتخابات العامة، تعقيدا وصعوبة.
فحين أذاع الفريق أول عِوَض بن عوف، النائب الأول للرئيس السوداني السابق عمر البشير ووزير دفاعه ورئيس اللجنة الأمنية، بيانه الذي أنهى بموجبه حكم الإنقاذ الوطني في الحادي عشر من نيسان/ أبريل ٢٠١٩، كان تصور الكثير من السودانيين وخاصة الشباب الذين اندفعوا للشوارع قبل أشهر من هذا البيان؛ أن وضع بلادهم سيتغير للأفضل وفي أسرع وقت، حيث أن التعبئة الاجتماعية والإعلامية التي رافقت الحملة على إسقاط النظام السابق حملت معها وعودا براقة وآمالا كبيرة باستغلال موارد البلاد، في سبيل بناء نهضة اقتصادية شاملة تنقل البلاد إلى مصاف البلدان المتقدمة.
وجاء تكوين حكومة الدكتور عبد الله حمدوك وسط تلك الطموحات الكبيرة، بعد مفاوضات شاقة بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير التي تصدرت المشهد الجديد في السودان. ولَم يستمر ربيع الآمال والأحلام الوردية طويلا، إذ جاءت ضربة الإفاقة الأولى لكل الذين حلموا بنتائج التغيير وثمراته من الدكتور عبد الله حمدوك نفسه، بعد أكثر من شهرين من تكوين حكومته، حيث فجر مفاجأة صادمة للسودانيين حين أعلن من المملكة العربية السعودية أن قوى الحرية والتغيير لم تسلم حكومته أي برنامج بعد تكوينها
(2).
تلك الحقيقة الموجعة أبانت بجلاء أن التحالف الحاكم الجديد لا يتوفر على رؤية متكاملة وواضحة لإدارة الفترة الانتقالية، وهو ما أدخل ذلك التحالف في حرج كبير وجعله يحاول استدراك ذلك الخلل الجوهري باعترافه بعدم تسليم الحكومة للبرنامج بدعوى العكوف على تحديث البرامج. ليست تلك إلا نقطة البداية في اكتشاف السودانيين وكثير ممن تصدوا للدعوة للتغيير أن تحالف قوى الحرية والتغيير أقل بكثير من الطموحات التي خرج بعض السودانيين للمناداة بها عشية تغيير النظام السابق.
فقد ضربت السودان موجة غلاء حاد وسط تراجع لمنحنيات الاقتصاد الكلي وتدهور غير مسبوق للعملة الوطنية، ويرى كثير من المراقبين أن الحكومة تتحمل ذلك التدهور بسياساتها غير الرشيدة. ففي كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٩ أبرمت وزارة المالية اتفاقا حصريا مع شركة الفاخر، وهي شركة خاصة خولها ذلك الاتفاق احتكار شراء الذهب وتصديره من أجل تثبيت سعر الصرف حسبما زعمت وزارة المالية، غير أن سعر الجنيه السوداني واصل في الهبوط بعد أن بدأت تلك الشركة أعمالها، مستفيدة من الامتيازات الحكومية
(3).
ولم تكن صفقة شركة الفاخر وحدها التي ساهمت في تدهور سعر العملة الوطنية، ولكن دخول الحكومة نفسها كمشتر للدولار من السوق السوداء لتسديد فواتير التعويضات الأمريكية كان له الأثر الأكبر في مواصلة النزيف للجنيه السوداني، وفق ما صرح به الفريق محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع ونائب رئيس مجلس السيادة.
ومع كتابة هذا المقال تجاوز الدولار الواحد حاجز الـ300 جنيه سوداني مقارنة بـ90 جنيه كأعلى سقف وصل إليه قبل سقوط النظام السابق
(4). هذا التدهور ساهم في وصول التضخم لمستويات قياسية مخيفة، حيث بلغ التضخم السنوي بحسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء 254 في المئة، مقارنة بـ69 في المئة في العام 2018، تاريخ انطلاق الاحتجاجات الشعبية. ومع أن الحكومة رفعت الدعم عن السلع الأساسية مرتين خلال العام الماضي، إلا أن الصفوف والطوابير الطويلة ما تزال مستمرة في جميع أنحاء البلاد، للحصول على هذه السلع. وفِي خواتيم العام الماضي أقدمت الحكومة على تحرير الكهرباء فزادت أسعارها 500 في المئة
(5)، كما تكررت حوادث القتل بين المواطنين في صفوف الخبز في الفترة الماضية تعبيرا عن مدى الضيق الذي وصل إليه حال المواطن السوداني.
الملفان العدلي والأمني.. مخاوف وهواجس
رفعت الاحتجاجات الشعبية شعارات الحرية والعدالة والمساواة بين يدي التغيير الذي شهده السودان، وكان من المتوقع أن تمضي مسيرة التأسيس الجديد خلال الفترة الانتقالية لترسيخ تلك القيم وقيادة البلاد نحو الانتخابات بأكبر قدر من التوافق والانسجام الوطني، خاصة وأن الإسلاميين الذين انتقلوا للمعارضة حديثا أعلنوا صراحة دعمهم للمرحلة الانتقالية بعد تكوين حكومة الدكتور عبد الله حمدوك، حيث أعلن رئيس حزب المؤتمر الوطني البروفيسور إبراهيم غندور يومها عن أنهم سيكونون معارضة مساندة لهذه الحكومة.
واليوم تنتشر مخاوف حقيقية من انزلاق البلاد نحو الفوضى نتيجة التسييس الواسع لأجهزة العدلة وتغييب دولة القانون، خاصة بعد تكوين لجنة إزالة التمكين التي يتهمها قطاع عريض من القانونيين بأن عملها مخالف للدستور
(6). ففي كانون الأول/ ديسمبر من العام ٢٠١٩ تم تكوين لجنة إزالة التمكين بعد إجازة قانونها من مجلس الوزراء، وأوكل رئاستها للفريق ياسر العطا، عضو مجلس السيادة، وينوب عنه محمد الفكي سليمان القيادي في حزب التجمع الاتحادي وعضو مجلس السيادة. ومن أبرز أعضائها القيادي بحزب الأمة القومي صلاح مناع، والقيادي بحزب البعث العربي وجدي صالح.
وأعطيت اللجنة بحسب قانونها صلاحيات الشرطة والنيابة والقضاء
(7). ومنذ ذلك الوقت صادرت اللجنة ممتلكات العشرات من المواطنين أغلبهم من منسوبي النظام السابق، كما أنها تحتجز العشرات في زنازين خاصة بها دون تهم محددة، وأشهرهم الناشط الشبابي معمر موسي الذي كان من أنصار التغيير ومن المعتصمين في القيادة العامة للقوات المسلحة مع الجموع التي طالبت بتغيير النظام السابق، ولكنه اختلف لاحقا مع سياسات قوى الحرية والتغيير. وقد أصدرت أسرته بيانا في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بمناسبة مرور خمسة أشهر على اعتقاله دون تقديمه لأي محاكمة، دعت فيه النيابة لتحمل دورها وتقديم ابنهم للمحاكمة
(8)، ولكن وبعد ثلاثة أشهر من ذلك البيان لا يزال معمر وزملاؤه قابعين خلف قضبان لجنة التمكين.
وما يزيد المخاوف في هذا الملف هو شعور بعض المواطنين بأن ممارسات لجنة إزالة التمكين هي سياسة عامة تتبناها الحكومة وأحزاب تحالف قوى الحرية والتغيير، خاصة بعد تصريح رئيس اللجنة الفريق ياسر العطا في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي لصحيفة الديمقراطي، الذي اعترف فيه قائلا: "هناك حالة تشفي وانتقام في عمل اللجنة، لذلك لا بد أن تزول ولا تعلو على القانون". وما يؤكد هذه المخاوف كذلك هو التعطيل المتعمد لعمل لجنة الاستئنافات التي نص عليها قانون اللجنة نفسه. ورغم أن لجنة الاستئنافات نفسها تضم أعضاء من الأحزاب، إلا أن نائبة رئيس اللجنة وعضوة مجلس السيادة رجاء نيكولا أبانت في حوار مع صحيفة الانتباهة السودانية أن اللجنة لم تستطع الانعقاد بسبب استقالة أعضاء الحرية والتغيير وعدم تسمية البديل، بينما كان عمل اللجنة الرئيسة مستمرا بقرارات أسبوعية تعلن عبر المؤتمرات الصحفية
(9).
يحدث ذلك بينما ظل احتجاز عدد من قيادات الإسلاميين لمدة تقارب العامين دون تقديمهم لمحاكمات أو إخلاء سبيلهم، وهو وضع لقي انتقادا حتى من بعض قيادات الحرية والتغيير أنفسهم. فقد صرح رئيس حزب المؤتمر السوداني المهندس عمر الدقير، لبرنامج حديث الناس الذي تبثه قناة النيل الأزرق، بأن "استمرار حبس رموز النظام السابق دون تقديمهم لمحاكمة انتهاك لحقوق الثورة"
(10).
وفِي أيار/ مايو من العام الماضي توفي في المعتقل الوزير السابق الشريف أحمد عمر بدر بداء كورونا، وراج على نطاق واسع أنه توفي نتيجة للإهمال والقصور. وأصدر حزب المؤتمر الشعبي بيانا اتهم فيه العهد الجديد بممارسة التشفي السياسي. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، توفي داخل المعتقل عبد الله البشير، شقيق الرئيس السابق عمر البشير، واشتكت ابنته النيابة حينها من حرمان والدها من تلقي الرعاية الطبية اللازمة.
ومع تصاعد الجدل حول حيادية النيابة العامة والقضاء في العهد الجديد، خاصة بعد إقدام لجنة التمكين على فصل أكثر من 100 قاض وإعادة قضاة آخرين للعمل بينهم من يمارسون نشاطا سياسيا علنيا ويتبنون مواقف عدائية ضد المحبوسين، يبرز تغييب تكوين المحكمة الدستورية منذ كانون الثاني/ يناير 2020، وكأنه متعمد بغرض تعطيل الجهات التي يمكن الاستئناف أمامها، وهو ما ينظر إليه أهالي المحبوسين على أنه استخدام لأدوات غير محايدة وبأساليب غير قانونية لمحاكمة ذويهم
(11).
وليس الملف العدلي وحده ما ينشر المخاوف من زيادة الغبن الاجتماعي في البلاد ويهدد بتماسك البلاد ونسيجها المجتمعي، فهناك الملف الأمني الذي يعتبر واحدة من أكبر تحديات الفترة الانتقالية. فعلاوة على انتشار السلاح غير المقنن في معظم أرجاء البلاد، عادت النزاعات القبلية بصورة أكثر ضراوة ودموية عما كانت عليه قبل التغيير، وذلك بانتقالها لولايات كانت هادئة من ناحية الاقتتال القبلي. فقد شهدت ولايتا كسلا والبحر الأحمر في شرق السودان نزاعا قبليا مميتا بين مجموعات من البجة والنوبة، وتكررت هذه الأحداث أكثر من مرة مخلفة القتلى والجرحى.
وما يدلل على الضعف الحكومي في التدخل العاجل أن السلطات دونت 1070 بلاغا ضد مجهولين في بورتسودان، بعد مقتل 37 مواطنا وجرح 92 آخرين، فضلا عن ثمانية توفوا حرقا بعدما تجددت أحداث العنف بين البني عامر والنوبة. وكانت الموجة الأولي من الأحداث خلفت حوالي 40 قتيلا
(12). واندلعت أحداث مشابهة في ولايات أخرى، كجنوب كردفان وجنوب دارفور. ومع كتابة هذا المقال تعيش الجنينة، عاصمة غرب دارفور، أحداثا دامية خلفت أكثر من ثمانين قتيلا، في أحدث موجة للعنف القبلي في تلك الولاية التي شهدت أحداثا مماثلة العام الماضي، حيث لقي 54 شخصا مصرعهم وجرح 60 آخرون، وتسببت الأحداث بنزوح 40 ألف مواطن بحسب تقرير للأمم المتحدة
(13). ولا تزال الأوضاع الأمنية هشة في كل ولايات دارفور مع خروج قوات يوناميد من الإقليم، الأمر الذي يخشى معه أن تنحدر الأوضاع لواقع أسوأ.