قضايا وآراء

أنظمة الحكم بين مطرقة القوى الخفية وسندان الدولة العميقة

1300x600
لما كانت الدولة تتكون من أرض وشعب وحدود جغرافية، فإن لها أيضا ماكينة تحركها وتحكمها وتتعامل مع كل القضايا الجيوسياسية. الجيوسياسي يشمل كل الأبعاد، كالسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها من المكونات الداخلية التي تتفاعل مع بعضها داخل الدولة. إلا أن هذه الماكينة التي تُحرك الدولة بكل أبعادها الجيوسياسية تتأثر بمجموعة عوامل؛ منها استراتيجية الدولة ورئيسها والجهاز التنفيذي والتشريعي والقضائي وكل أجهزة الدولة المتعددة الأخرى.

وعادة ما يتولد في الدولة ما يعرف بالبيروقراطية التي تشكل طريقة العمل في الدولة، من آليات اتخاذ القرار إلى آليات التنفيذ إلى طريقة التعاطي مع مختلف القضايا الاقتصادية والأمنية والاجتماعية وغير ذلك. ومع مرور الزمن تتشكل الدولة العميقة التي لا تضم فقط البيروقراطية كمنهجية عمل وتنفيذ واتخاذ القرارات، بل تضم أيضا الكوادر ورجالات الدولة المؤثرين. وبالتالي تصبح الدولة العميقة مكونة من شقين: الأول وهو البيروقراطية كمنهجية وثقافة عمل ومنظومة إدارية، والثاني وهو الكوادر المترسخة في التركيبة البيروقراطية، أي المترسخة في المنظومة الإدارية لمختلف أجهزة الدولة. وكثيرا ما يحدث أن يتخذ الرئيس أو القيادة العليا قرارات أو توجهات، ولكن تتم إعاقة تنفيذها أو إبطاؤها نتيجة هذه البيروقراطية.

ومما لا شك فيه، فإن ماكينة الحكم أو نظام الحكم وقراراته تتأثر بشقي الدولة العميقة، ويصبح لها القدرة على تسيير الدولة وشئونها. بل يتعدى الأمر إلى أن تصبح الدولة تتحرك بذاتها وكأن الدولة العميقة تصبح الطيار الذاتي (Auto-Pilot) الذي يوجه الدولة ذاتيا، تماما كما يشغّل قائد الطائرة الطيّار الآلي ليقود الطائرة بدون توجيهات قائد الطائرة. بل تصبح القرارات التصحيحية والتغييرية الإيجابية منوطة بموافقة وحماسة الدولة العميقة.

إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل هناك القوى الخفية التي تؤثر أيضا على ماكينة ونظام الحكم. والقوى الخفية تشمل الأفراد المتنفذين، وعادة ما يكونون من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، أو يتمتعون بقوى نفوذ لأسباب أخرى كالنفوذ العشائري أو القبلي أو لأسباب اعتبارية أخرى. كما تشتمل القوى الخفية على كيانات اقتصادية أو كيانات ذات نفوذ سياسي أو غير ذلك. وبالتالي فإن هذه القوى الخفية بمختلف مكوناتها تمارس تأثيرا على ماكينة أو نظام الحكم، وهي خفية لأنها ليست ظاهرة للعيان بشكل واضح وإن كان ممكن استشعارها.

وفي حقيقة الأمر يصبح أيضا للقوى الخفية سلطة بطريقة ما على الطيار الذاتي الذي يسير الدولة، ومن هنا تقع أنظمة الحكم بين مطرقة القوى الخفية وسندان الدولة العميقة. وليس شرطا أن تتفق دائما القوى الخفية مع الدولة العميقة، فقد تختلف في بعض الأمور نتيجة تضارب المصالح، كما قد يحدث أيضا أن يتقلد أحد أشخاص القوى الخفية منصبا مهما في الدولة العميقة فيحاول أن يستغله لتحقيق مصالح هذه القوى. ولكن من أصعب المراحل عندما تلتقي مصالح المؤثرين في القوى الخفية مع مصالح مجموعة من المنتفعين في الدولة العميقة، حيث يشتد الخناق على نظام الحكم وتبدأ منظومة الدولة بشكل عام تتفاعل وتتحرك؛ لا لتحقيق مصالح الشعب والأمة ولكن لتحقيق مصالح ذلك الائتلاف.