إذا سمعت أحد المنتمين للثورة يبدأ استنتاجاته بقوله "لماذا سمحوا؟" فاعلم أنه في محنة نفسية، وأنه يعاني مما ذكرته في مقالات سابقة، أعني الهزيمة النفسية الداخلية الساحقة، تلك الهزيمة التي تعمي الأبصار عن رؤية الماضي (بلا تحريف ولا تخاريف)، ، وتمنع من رؤية الواقع كما هو (بلا تجميل، ولا تشويه) وبالتأكيد تمنع من رؤية واستشراف المستقبل (بلا تفاؤل مفرط، وبلا مبالغة في التشاؤم).
الذين يطرحون السؤال لا يكادون يجيبون إجابة متماسكة حين تسألهم: "من هم؟ من الذين سمحوا؟ وما مصلحتهم في السماح بالشيء وعكسه؟ وإذا كان الأمر في أيديهم فلماذا سمحوا الآن ولم يسمحوا من قبل أو من بعد؟ ولماذا سمحوا هنا.. بينما لم يسمحوا هناك؟.. الخ".
تجد إجابات لا حصر لها، تبدأ من الدولة العميقة، وتصل إلى الماسونية العالمية أو الحكومة الخفية التي تحكم العالم وتتحكم في كل شيء، مرورا بأجهزة الأمن، والمجلس العسكري، وإسرائيل وأمريكا.. الخ.
السؤال الساذج "لماذا سمحوا؟" يدل على نظرة قاصرة في فهم أحداث التاريخ، وفي فهم تفاعلات الواقع التي أدث للحدث الكبير الذي تمرّ به الأمة، كما أنه يدل على حجاب كثيف يمنع من استشراف الممكن والمستحيل في المستقبل، حجاب اسمه الهزيمة.
السؤال الساذج "لماذا سمحوا؟" يدل على نظرة قاصرة في فهم أحداث التاريخ، وفي فهم تفاعلات الواقع التي أدث للحدث الكبير الذي تمرّ به الأمة، كما أنه يدل على حجاب كثيف يمنع من استشراف الممكن والمستحيل في المستقبل
* * *
لماذا سمحوا بخلع مبارك؟
يا له من سؤال!
ولماذا سمحوا بخلع شاه إيران؟ ولماذا سمحوا بسقوط الاتحاد السوفييتي؟ ولماذا سمحوا بخلع فيرديناند ماركس طاغية الفلبين الذي أعطى لأمريكا كل ما تريد؟ ولماذا سمحوا بسقوط سوهارتو في إندونيسيا؟
وهكذا.. بإمكاننا أن نستمر في طرح آلاف الأسئلة، وستجدهم يبررون ويبررون بكل ما آتاهم الله من قوة خيال جامح، ولكن بلا أدلة!
لقد خُلع مبارك من حكم
مصر بقوة الشعب، لا بقوة العسكر، ولا بقوة أمريكا.. بل رغم أنف العسكر، ورغم أنف العالم كله (نعم.. العالم كله كان مع مبارك).
لقد خُلع مبارك من حكم مصر بقوة الشعب، لا بقوة العسكر، ولا بقوة أمريكا.. بل رغم أنف العسكر، ورغم أنف العالم كله
لم يكن يملك هذا المخلوع حينها أن يتصرف بطريقة أخرى، لم يكن يملك أن يقيل مجلسه العسكري مثلا، كان يملك إقالتهم حتى ظهيرة يوم الثامن والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011، وبعد ذلك أصبح مصيره مرهونا بيد الجيش، والجيش قراره مرهون بشيء واحد.. هو مغادرة الجماهير للميادين، إما بالرضا، وإما بالقوة..
وفي النهاية.. قررت الجماهير أن لا تغادر.. فلم يملك الجيش إلا أن يزيح مبارك من الحكم، لكي تحافظ دولة العسكر على بقائها..
* * *
ولماذا سمحوا للجماهير بالبقاء في الميادين؟ لماذا لم يطلقوا الرصاص كما حدث في رابعة وأخواتها ولسنوات بعدها؟
لم يسمح أحد للجماهير بالتجمع، ولم يسمح أحد لها بالبقاء في الميادين!
لقد فعلوا كل شيء يمكن أن يفعلوه (في ذلك الوقت) لكي يمنعوا تجمع الناس، ولكي يفضوا تجمعهم، ولكنهم فشلوا.. فشلوا بسببك أنت أيها المواطن الثائر الذي يتساءل اليوم: "لماذا سمحوا؟".
إن إطلاق الرصاص الحي على الجماهير في الأيام الأولى للثورة لم يكن قرارا سهلا، ومن سيصدر الأمر بإطلاق الرصاص يعلم جيدا أن هذا الرصاص قد يرتد إليه، وقد تحدث حالة تمرد واسعة النطاق داخل المؤسسة.
سيجيبك البعض: "ولماذا لم يحدث ذلك في رابعة وما بعدها؟".
والجواب.. لأن تهيئة الأرض للمجزرة تمت بنجاح!
لا يمكن أن تنجح مجزرة والشعب يقف صفا واحدا أمامك، لا بد أولا من تفريق الناس إلى ليبراليين، وسلفيين، وإخوان، واشتراكيين.. ثم الوقيعة بين هؤلاء جميعا، ثم عقد الصفقات مع كل فصيل على حدة.. والخ.
لا يمكن أن تنجح مجزرة والشعب يقف صفا واحدا أمامك، لا بد أولا من تفريق الناس إلى ليبراليين، وسلفيين، وإخوان، واشتراكيين.. ثم الوقيعة بين هؤلاء جميعا، ثم عقد الصفقات مع كل فصيل على حدة
كان لا بد من اختيار القوات والوحدات التي ستطلق الرصاص، وهؤلاء تم إخضاعهم لتأثيرات نفسية تؤدي إلى المجزرة.. فهؤلاء القتلة ظلوا أكثر من عامين يشاهدون كل ليلة توفيق عكاشة، وعمرو أديب، وإبراهيم عيسى.. الخ.
كانوا يحتكون بالثورا في أحداث كثيرة، ويندس بعض المخبرين بين الثوار ليثبتوا لهم أن هؤلاء الثورا مرتزقة، ومأجورون من جهات أجنبية..
لقد خضعوا لعملية غسيل مخ متقنة، حتى إذا صدر لهم الأمر بإطلاق الرصاص.. تذكروا شيخ الإفك المدعو علي جمعة وهو يقول "طوبى لمن قتلهم وقتلوه"..
شروط المجزرة لم تكن متوفرة في الأيام الأولى للثورة.. لقد كان الشعب يقف صفا واحدا ضد الطاغية، وأول وأهم شروط المجزرة.. هو الاستفراد بالضحية.. واحدا بعد الآخر، كما أن القاتل في ذلك الوقت لم يكن يملك المبرر الأخلاقي لارتكاب الجريمة.
هؤلاء القتلة فيما بعد.. أصبح الواحد منهم يظن أنه يخدم الوطن بقتل هؤلاء العملاء!
* * *
لماذا سمحوا بانتخاب مرسي؟
لقد تمت جميع الاستحقاقات الانتخابية رغم أنف الجميع، ولولا قوة
الثورة، ولولا دعم الشعب الكامل لهذا المسار الديمقراطي، ولولا عشرات الملايين من المواطنين الذين وقفوا في طوابير الانتخاب.. لما انتخب مرسي، ولما أقيمت أي استفتاءات أو انتخابات أصلا.
جميع الاستحقاقات الانتخابية رغم أنف الجميع، ولولا قوة الثورة، ولولا دعم الشعب الكامل لهذا المسار الديمقراطي، ولولا عشرات الملايين من المواطنين الذين وقفوا في طوابير الانتخاب.. لما انتخب مرسي
إن أحداث محمد محمود بدأت باقتحام الجيش للميدان، وكان الهدف هو إيقاف المسار الانتخابي (كانت انتخابات البرلمان تجري في ذلك الوقت)، فكانت النتيجة انتصارا جديدا للثورة المصرية العظيمة، واضطر المجلس العسكري إلى الخضوع الكامل، وأعلن المشير طنطاوي عن إجراء انتخابات رئاسية قبل الثلاثين من حزيران/ يونيو 2012، وبفضل قوة الجماهير أجريت هذه الانتخابات التاريخية، وتسلم الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي السلطة رغم أنف الجميع، بقوة أصوات الناس.. ولا منة في ذلك لأي أحد.
* * *
إن الاستغراق خلف سؤال "لماذا سمحوا؟" يدفع المرء إلى التحسّر على هؤلاء الذين كانوا فاعلين، يخلقون الأحداث، وتراهم اليوم من شدة هزيمتهم النفسية لا يكتفون بمشاهدة الأحداث، ولا يكتفون بكونهم مفعولا بهم، بل يتجاوزون ذلك لكي يزوروا تاريخهم بأنفسهم، فيتحدثون وكأنهم كانوا عرائس مارونيت تتحكم فيها جهة ما دون أن يشعروا!
من الذي سمح لهتلر باحتلال أوروبا؟ من الذي سمح بسقوط قيصر روسيا وللثورة البلشفية بالانتصار؟ من الذي سمح لمحمد بن عبد الله بفتح مكة؟ من الذي سمح بخروج القوات الأمريكية من فيتنام؟ مئات الآلاف من الأسئلة يمكن أن نطرحها.. ولن تجد إجابة مقنعة، وإذا اقتنعت بإجابات هؤلاء.. فأهلا بك في نادي المهزومين!
سننتصر.. والأيام بيننا..
twitter.com/arahmanyusuf
موقع الكتروني: www.arahman.net