ما إن
اندلعت الثورة السورية حتى انقسم الشعب بين مؤيد ومعارض، لكن كلا الطرفين أو الفريقين
لم يحسبا حسابًا أو لم يكونا يتوقعا أن يقوم النظام بردةِ فعلٍ بتلك الصورة الوحشية
التي شاهدناها جميعًا، الكثير من السيناريوهات المأساوية تواردت إلى ذهن الثائرين أو
المناهضين للنظام الحاكم، وكانوا قد وضعوا قبل الإقدام على الخطوة الأولى أسوأ ما قد
يحدث فيما لو فكروا بالخروج للشارع والمطالبة بإزالة النظام، إلا أنه، بحسب إفادات
الكثيرين، حصل ما كان أسوأ بكثير من التوقعات، حيث صمد النظام لأكثر من عشرة أعوام،
خلّف فيها دمارًا لن يعقبه البنيان، وذلك سواء على صعيد الدولة أو الفرد، وفعل بشعبه
كما يفعل الأعداء القادمين من خارج البلاد وربما أكثر..
كل ذلك
خلق حالة من الشكوك حتى لدى المعارضين أنفسهم، وجعلهم يتساءلون عن جدوى ما فعلوه، فشل
الثورة والخذلان، ثمارا مرّةً جنوها جعلت منهم عرضة للشماتةِ من قبل المؤيدين للنظام،
بل وأعطتهم سببًا إضافيا ليصبوا كل غضبهم عليهم، خصوصا وأن المتضررين لم يكونوا معارضين
فقط، فقد سال الدم دفّاقا من الجميع، وتجاورت خيامهم خارج أرضِ الوطن الذي يدعي كل
منهم محبته أكثر من الآخر.
جابر
ومحمود.. مؤيد ومعارض في غُرفةٍ واحدة
حين
شاهدت مسلسل "غدًا نلتقي"، للكاتب والممثل الشاب إياد أبو الشامات، إخراج
رامي حنّا، لم أكن أعلم أنه كان قد صدر في العام 2015، أي بعد أربع سنين على مرور الثورةِ
السورية، وقد جسّد هذا المسلسل الثورة السورية ومزج بين التلميح والتصريح، وبين الدلالة
الرمزية والمباشرة، وبالرغم من مرور أكثر من ست سنوات على إنتاجه فإنه يحاكي الواقع
المعاش حتى يومنا هذا، وإن دل ذلك على شيء فإنه يدل على استمرارية الخيبة واللا جدوى،
وحالة الانكسار التي لم تبرح ذات الفرد السوري، والتي شوهت في داخله الحُلم الواعد
بالتغيير وحياةٍ أفضل..
عرض
المسلسل على مدار أكثر من ثلاثين حلقةٍ معاناة اللاجئ السوري، المعارض منه والموالي،
في مبنى يجمع لاجئين من مختلف الأيديولوجيات، إلا أنهم متشابهون في المأساة التي حلت
بهم، وقد سلّط الضوء على شخصيات فردية مثلت ببراعة شريحة واسعة من أفراد المجتمع السوري،
حيث جعل جابر نموذجًا لمعارضي الثورة والناقمين عليها، ومؤيدا للنظام الحاكم، إنما
ليس بسبب ولائه للسلطة، بل لخوفه من الفوضى والحالة المزرية التي أوصلهم الثوار إليها
على حد تعبيره، أما محمود فقد جسّد شخصية المؤيد للثورة والمعارض للنظام، ويرى بأن
الثورة لم تفشل بعد، وبأن على كل الشعب أن يعي ذلك، كما يعزو الوضع المأساوي الذي وصلوا
إليه للنظام الذي بث بينهم الخائنين والعملاء، والجدير بالذكر أن كلا من محمود وجابر
كانا أخوين شقيقين، ويتشاجران على الدوام، وجعلُهُما أخوين نقطة هامة، تعيد تذكير كل
منهما بالصلة الوثيقة التي تجمعهما رغم كل المناوشات والشجارات العنيفة، فيستلقيا على
الأرض جنبا إلى جنب ليستريحا بعد عراكٍ لم يخلص لأية نتيجة..
كلٌّ
يدّعي وَصلا بـ "وردة"..
إن العلاقة
التي تربط بين محمود وجابر، سواء علاقة الأخوة الوثيقة أو الاختلاف الذي يولد البغضاء
بينهما، كان محورًا سُلط عليه الضوء بطريقة ملفتة، حيث قام الكاتب بجرّ كل الخلافات
نحو مركزيّةٍ واحدة، وجعل منها شرارةَ البدءِ بخوضِ حربٍ مصغّرة داخل غرفتهما البائسة،
كما جعلها نقطة النهاية أيضًا، تماما مثل الدائرة التي تبدأ وتنتهي عند النقطة ذاتها،
وقد كان الالتقاء أمام الغرفة المجاورة، غرفة "وردة".
"وردة"
حُلم المتنافسَين المهزومَين، تلك الفتاة البسيطة التي تسكن وحدها في الغرفة المجاورة،
يحاول كلا منهما إثبات جدارته بسلبِ فؤادها، ويدّعي كل واحد منهم بأنها معجبة به أكثر
من الآخر، ليس لحبهم الحقيقي لها، وإنما للتفاخر والانتفاع بما لديها من عطاء لا محدود،
ومن كل ما يمكنها بذله من أجل الذي تراه مستحقّا لها، إلا أن الحقيقة التي تخفيها
"وردة" تكشف عن شخصية أخرى لديها، لا يتقبلها من يحاول الاقتراب منها ولن
يفعل، فما أن يعرف حتى يفرّ هاربًا منها، إذ إن وراءَ وجهِ وردة الجميل، واهتمامِها
العطوف، والدفءِ الذي يمنحه وجودها مفجّرًا ينابيع من الرغبة بخوض مغامرةِ عشقٍ زائف،
فتاةٌ قاربت الأربعين تعمل مغسّلة للأموات في جمعية دفن الموتى!
"غدًا
نلتقي".. فسيفساء الثورة السورية
لا شك
بأن الأعمال الدرامية، أو الحكاية التي تُبنى عليها، بحاجة إلى أكثر من شخصيةٍ ثانوية
تُسهم في دحرجة عجلةِ الأحداث لتلتقي عند النقطة التي يهدفُ الكاتب لإيصالها، وكل واحد
من هذه الشخصيات يقوم بالدور المنوطِ به، ويساند الشخصيات الرئيسية في لعب دورها المطلوب،
قد يُظن للوهلةِ الأولى بأن كل منها يشكّل حكايته الخاصة، ويمتلك عالمًا منفصلا عن
المحور الدائر في الأحداث، لكنه وبشكل غير مباشر وبسلاسة تامة يبدأ بالغرق في قاعِ
الصورة الكاملة التي تشكل العمل.
ومن
هذه الشخصيات شخصية أبي عبده، الذي يعتقد بأن كل ما قد جرى بعيدٌ عن الأسباب السياسية،
وما هو إلا غضبٌ من الله لابتعاد الناسِ عن الدين والقيَم النبيلة، وتظل تزداد حدة
رأيه حتى تصل إلى أعمالٍ متطرفة تجاه جيرانه وأهل بيته ناتجة عن تأثره بالأفكار المتشددة.
أيضا
شخصية أبي ليلى، أحد فلسطينيي سوريا، لعبت جزءا هامّا، فهو الفلسطيني الذي يملك وعيًا
ثوريًا، خصوصًا بعد أن عايش أحداثًا تاريخية لا تُنسى فيما يتعلق بالمقاومة ضد العدو
الصهيوني، وقد قام أبو ليلى بتمرير العديد من الرسائل العميقة المخبأة في جيب الكلمات
الساخرة ذات الطابع اللامبالي، أو عن طريق حكاياتٍ طويلةٍ عن ذكريات الكفاح المسلح
والنضال، أيضا محاولته لإبعاد كل من محمود وجابر عن وردة، فهي بنظره فتاة مسكينة، وتوعية
كل منهما بأن الشجار بلا فائدة، وكل ما عليهما فعله هو أن "يتركوا وردة بحالها"!
الرمزية
في شخصية وردة..
بالاطلاع
على شخصية وردة، وتتبع الأحداث والشخصيات، فإننا نجد وردة رمزًا للثورة، وبالتحديد
الثورة السورية، بما أنه عمل يحاكي الواقع السوري، وردة التي تظل ضائعة ما بين محمود
وجابر، إلا أنها تظل تميل تجاه محمود، المعارض للنظام، لكنها لا تستطيع الارتباط به
لأنه متزوج، لكنها تظل تحلم دائما أن تجمع الأقدار بينهما، خصوصا بعد أن تتخلى عنه
زوجته التي استقرت في أمريكا بعد أن وعدته أن ترسل له التأشيرة من هناك، وربما يشير
ذلك إلى تخلي المجتمع الدولي عن قضية السوريين ومطالبهم الثورية، حتى بعد أن صرّح لوردة
في إحدى الليالي بحبه، سألته في صباح اليوم التالي فقال لها بأنها فتاة طيبة ورائعة
وجميلة وكل شخص يتمناها وكلمة الحب تتطلب منه ما هو أكثر من الكلام "أنا بقولها
بس ما بعنيها".
كانت
غرفة وردة مكان استراحة جميع المتعبين في ذلك المبنى، يشكون فيها همومهم لها، رغم أن
وردة تحمل في داخلها ما هو أثقل منهم جميعًا، وهذه نقطة أخرى تؤكد أن وردة ما هي إلا
رمزٌ للوطن والثورة التي تحتضن أبناءها المتعبين وأحلامهم البعيدة.
جابر
ومحمود اختلفا في غرفةِ وردة، وتشاجرا بعنفٍ حتى أوقعا المدفأة فاندلعت النيران، وبقيا
منهمكين في ضرب بعضهما رغم اشتعال الحريق إلا أنهما لم يلتفتا لذلك، وظلّا مستمرّين
بالعراك والنار تزداد اشتعالا وصراخ وردة يعلو أكثر فأكثر وهي تحاول إيقافهما وإطفاء
النار المشتعلة في كل مكان، ولم يتركا بعضهما حتى احترق كل شيء، عندها أدركا بأنهما
قاما بتدمير غرفة وردة بالكامل! وهذا أمر آخر يجعل من وردة صورة للوطن الذي احترق بالفعل،
ومن وجهة نظر الكاتب فإنه بذلك المشهد يحمل كل من المؤيد والمعارض بعضا من مسؤولية
ما حدث.. إلا أن المدهش بالأمر هو مسامحة وردة لكلا الأخوين!
وردة
وزهرة..
بعد
مشاهدة مسلسل "غدا نلتقي"، تبادرت إلى ذهني رواية "ميرامار" لنجيب
محفوظ، والذي يسلط فيها الضوء على شخصية "زهرة"، الفتاة الريفية القادمة
للمدينة، التي عملت في بنسيون يجمع شخصيات عديدة، تماما كوردة التي تسكن في مبنى يجمع
شتى الأنماط من الشخصيات، ووجهات نظر كل منهم تجاه الثورة والقضية الكبرى، إضافة إلى
التنافس الذي كان موجودًا في البنسيون والصراع الدائر للحصول على زهرة، وعلى وردة كذلك،
وتتعرض زهرة للاستغلال ووردة كذلك، ومحبة وردة الصادقة لمحمود وحيرتها من أخيه، وصدق
مشاعر زهرة تجاه حسني علام الذي كان يستغلها فقط، ويلحظ كذلك تشابه الاسمين أيضا
"وردة" و "زهرة"، إلا أن كل منهما لم تخلصا إلى أحد في النهاية،
فبقيتا نقيتين رغم كل محاولات تشويه معانيهما الجميلة!
اقرأ أيضا: الدراما السورية قبل الثورة وبعدها.. (1)