تجربة الشهداء
الفلسطينيين الثلاثة، الذين استشهدوا في ليماسول بقبرص في 14 شباط/ فبراير 1988 بعد أن عاينوا ثمرة ظلوا يدفعون نحوها أكثر من عقد من الزمان، لا تنتهي أهميتها باستشهادهم، ولا بغياب تيارهم وتفككه وذوبانه تماما، لأنّ أهميتها لم تكن تنبعث من حجم ذلك التيار، ولم تكن تقتصر عليه، مما يجعلها تتفوق في حقيقتها على المقاييس المادية الظاهرة.
محمد محمد بحيص (أبو حسن قاسم)، ومحمد باسم سلطان (حمدي التميمي)، ومروان كيالي، ثلاثة شهداء من حركة فتح عملوا في مستويات متعددة، من لجنة التنظيم في القطاع الغربي، إلى "الكتيبة الطلابية" التي انبسط مقاتلوها على مساحة واسعة وفي أزمنة مختلفة، ينهضون ببنادقهم في أداء واجبهم، إلى "سرايا الجهاد الإسلامي"، والتي كان الألصق بها من بين الأسماء الثلاثة أبو حسن وحمدي. وقد حاولتُ في مقالة كتبتها قبل سنوات بعنوان "البركة الممتدة في ذكرى الشهداء الثلاثة"، أن ألخص جانباً من دورهم، مستعيداً أهمّ المقولات المؤسسة لتجربتهم، مستفيداً من أطروحتي للماجستير التي تمركزت حولهم، مما يكشف عن عاطفة خاصة تربطني بهذه التجربة، بالرغم من التباعد الزمني بيني وبينها.
المحراب الذي تبتّل فيه أبو حسن قاسم وحمدي التميمي، هو الإطار الأوسع والأهم، والقابل للاستعادة والاستلهام في كل وقت، وهو وإن لم يكن فريداً واستثنائيّاً في التاريخ الكفاحي الطويل للفلسطينيين، فإنّه بسماته الخاصة، وفي مساراته الحزبية الداخلية، وتعلّقاته الوطنية العامّة، جدير دائماً بالتذكير والإشادة
بدأ التصوّر عندي أثناء دراستي للماجستير، في واجب جامعي حول المثقف الملتزم، جعلته عن الأستاذ منير شفيق، الأب الروحي والمفكر المظلّة لتلك التجربة، فلمّا جاء ميعاد تقديم مقترح الأطروحة، بدا لي أول الأمر أن أديرها حول المنتج
الفكري للأستاذ منير شفيق في سياقه النضالي، إلى أن وجدت أنّ تجربته، في ثمرتها الأنضج، بدلالاتها الأوسع، أولى بالنقاش والاستعادة، ولا سيما في تحوّل الكادر الأساس في التيّار المتأثر به، ومعه وبرفقته، من الانحياز للمقولات الماوية الماركسية إلى الإسلام، على نحو متزامن مع تحوّلات كانت تعبرها المنطقة، وبحمولة فكرية ماوية أعيد تكييفها إسلاميّاً، وبقيت تحفر ثوريّاً لفترة طويلة، في عقدي السبعينيات والثمانينيات، وصولاً إلى إسناد الحركات الإسلامية الناشئة قبيل الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي تجليات ظهرت حتى في الانتفاضة الثانية، وبحمولة أخلاقية ثورية عالية، كثيراً ما تجري استعادتها رومانسيّاً، لكنها ممكنة وواقعية للغاية في بعدها الأخلاقي ذاك.
بالإضافة للكثير المهمّ مما يمكن قوله في هذه التجربة، ولا تتسع له هذه المقالة، فإنّ المحراب الذي تبتّل فيه أبو حسن قاسم وحمدي التميمي، هو الإطار الأوسع والأهم، والقابل للاستعادة والاستلهام في كل وقت، وهو وإن لم يكن فريداً واستثنائيّاً في التاريخ الكفاحي الطويل للفلسطينيين، فإنّه بسماته الخاصة، وفي مساراته الحزبية الداخلية، وتعلّقاته الوطنية العامّة، جدير دائماً بالتذكير والإشادة.
لم يكن سهلاً أن تعمل في تلك الحقبة في حركة فتح، ثم لا تتورط في سياسات الزبائنية والاستزلام والشعبوية. وإذا كنت جزءاً من حالة يسارية عامّة مسيطرة على الحركة في تلك الفترة، فلن يكون سهلاً التخلّص من لذة النقاش الطفولي النظري المشبع بروح المزايدة العالية، إلى البحث عن ممكنات العمل المنبثقة من قلب الإحساس بالواجب، وهو الأمر الذي يزداد صعوبة تحت وطأة مرارة الخروج من الأردن عقب أحداث أيلول وما تلاها، ثمّ لا يكون همّك بعد ذلك كلّه المنافسة على قيادة، ولا الانشقاق بمجموعة، وحتى، وبعد التحوّل نحو الإسلام، لا تنشغل بمنافسة الحركات الإسلامية، وإنما بمساعدتها والتعاون معها، ثم تصير رؤيتك لنجاحك في التأكد من نجاحها واستمرارها.
ميّزت هذه التجربة بين الممارسة التقليدية للسياسة، أي المنافسة على القيادة ومراكز النفوذ، بأدوات السياسة المعروفة وما يتبعها من تحالفات داخلية استقطابية، في حين يفترض أن تكون الأولوية لمشروع المقاومة والتحرير، وبين امتلاك رؤية سياسية وهدف سياسي
ميّزت هذه التجربة بين الممارسة التقليدية للسياسة، أي المنافسة على القيادة ومراكز النفوذ، بأدوات السياسة المعروفة وما يتبعها من تحالفات داخلية استقطابية، في حين يفترض أن تكون الأولوية لمشروع
المقاومة والتحرير، وبين امتلاك رؤية سياسية وهدف سياسي، والتمكن من التحليل السياسي الصحيح، على مستوى المشروع والقضية، وبما يفتح المسارات الصحيحة للعمل.
وبهذا كان للتيار رؤيته في التناقضات العربية وكيفية التعامل معها، وفي القوى الإسلامية والتقليدية الناشئة وموقعها من مقاومة الاحتلال وكيفية التعاون معها بعيداً عن المواقف المؤدلجة المسبقة، وفي قراءة معطيات فتح الداخلية وكيفية النفاذ منها لإبقاء الحركة على خط المواجهة قدر الإمكان، بعيداً عن صراعات الانشقاق أو المنافسة على الزعامة أو الاستزلام لبعض قياداتها، وفي قراءة ظروف المنطقة وتحولاتها، وهو ما ساعد على توقع الخروج من لبنان، والعمل على التأسيس لمقاومة فلسطينية داخل الأرض المحتلة، ثم التعاون الوثيق مع حركات المقاومة الإسلامية.
يمكن تلخيص هذا المعنى، الذي سكن بعض رواد التجربة ورموزها، بالتجرد الثوري للفكرة، أي منح الأولوية للفكرة على أي اعتبار شخصي أو حزبي، وبهذا تكون الفكرة هي الباعث والمحرك والقائد. والأمر إذا كان على هذا النحو فلا عقبات تقف أمام الفكرة، فمن القيام الصادق بالواجب تنفتح الممكنات، مهما استعصى الواقع، أو استبد اليأس بالمحيط. وبالرغم من أن طبيعة الاجتماع الإنساني لن تخلو من التدافع والاستقطاب الذي قد يتعارض مع أولويات الفكرة، حتى لو كان الاجتماع على مبدأ ثوري أو قضية نبيلة، فإن من لطف الله بالناس أن يبعث لهم دائماً مثل هذا المثل، الذي لا يلتفت خارج محراب فكرته.
twitter.com/sariorabi