تابعون مقلدون في الأفكار والمعتقدات والممارسات، لا تفكير ولا تدبير ولا تقييم ولا نقد ولا تطوير، بل السمع والطاعة والتنفيذ دون فكر أو ذكر أو تدقيق.
هذا حال أغلب أطراف الصراع العلماني والإسلامي سواء بسواء، تبنت النخبة العربية النسخة
العلمانية المتشددة التي ترفض الدين بالكلية ولا ترضى أن يكون حتى شأن خاص، في حين أن هذا النمط من العلمانية وهذه الأفكار صارت من الماضي وتخلى عنها الغرب من قرابة النصف قرن منذ سبعينيات القرن الماضي، حين رأى فلاسفة وعلماء الاجتماع حتمية عودة الدين إلى حياة الناس حفاظا على استقرار وتوازن البناء الإنساني المنشود للتقدم والتنافس والتمدن.
عاد الدين إلى المدارس والجامعات والفن والرياضة والإعلام كما عاد إلى مؤسسات الحكم والرئاسة، وظهر قادة الدول ورؤساء المؤسسات وهم يعلنون فخرهم بكونهم متدينين، بل أصبح القداس أحد مراسم وإجراءات تنصيب الرؤساء لأكبر دول العالم (أمريكا نموذجا).
لا شك أن هناك بقايا أفكار علمانية متطرفة هنا وهناك، خاصة فرنسا معقل العلمانية المتشددة، لكنها في الغالب تكون بخلفيات سياسية وحملات انتخابية يغازلون بها التيارات المتشددة لديهم، وهو ما يؤكد تراجع العلمانية كفكرة واستخدامها كأداة للمصالح السياسية وغيرها.
مشكلة النخبة العلمانية العربية هي مشكلة المنطقة العربية، حيث الإخفاق في التقليد والتبعية والاقتباس، الإخفاق على مستوى الأفكار والبرامج والنظم.. تستورد الكثير من النظم والبرامج الغربية التي حققت نجاحات مميزة لدى أصحابها، فتفشل عندنا ولا تحقق إلا أسوأ النتائج في التعليم والصحة والإدارة، لتكون الرسالة الواضحة أن المشكلة في الإنسان والبناء الإنساني وليس في النظم المقتبسة أو المستوردة، مشكلة البناء الإنساني الذي لا يتقن الإدارة ولا التنفيذ.
مشكلة النخبة العلمانية العربية هي التبعية دون متابعات التجديد والتغيير والتقدم للمنتج الذي تبنته.. تغير مفهوم العلمانية في الغرب ولم يتغير لدى النخبة العربية، بل كان بعضهم ملكيا أكثر من الملك، فاتهم الغرب بأنه تخلى عن العلمانية وخانها. وهذا يذكرني بما أعلنه التيار الشيوعي اليمني في الجنوب (عدن) عندما تفكك ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، فاتهم روسيا ودول الكتلة الشرقية بأنها خانت الشيوعية وخانت أفكار ماركس ولينين، يقولون هذا في الوقت الذي يعاني فيه المواطن اليمني الفقر والمرض والقهر والقمع.
ننتقل إلى المربع الإسلامي لتكون النسخة المكررة لنفس الحالة من التفكير والتقليد والتبعية دون تغيير ولا تطوير، ولكن إعادة تدوير دون عائد، حيث أغلق باب الاجتهاد الفقهي رغم استحداث آلاف المسائل والتساؤلات التي تغير زمانها ومكانها وأحوالها.
ساد الجمود وغلبة التبعية والتقليد، فكانت الشعارات هي الغالبة، شعارات تناسب التظاهرات والاحتجاجات ولا تناسب بناء الدول وتطوير المجتمعات.. تيارات متشددة ترفض كل جديد، فأضاعت حقوق البلاد والعباد، واستحلّت ما حرمه الله في الأرواح والأعراض والأموال، للمسلمين وغير المسلمين، وكانت المبرر والذريعة لمحاربة الدين والتدين والشريعة. وعلى عكس العلمانية وأصولها الناشئة، كان الماضي الإسلامي أكثر رقيا وتحضرا وتطورا من الحاضر الإسلامي المتعثر.
الخلاصة، نحن بحاجة لنهج تربوي وتكويني فكري وثقافي واجتماعي لبناء الإنسان بمواصفاته العصرية الحضارية التي يوازن فيها بين حقوق دينه ودنياه، ليعيش آمنا هادئا، مستمتعا بحياته، مؤديا رسالته في إعمار الكون مهمته الأولى.