قضايا وآراء

المرأة في غزة.. حصار في قلب الحصار

1300x600
بعد صدور القرار الآتي في غزة والذي ينص على "يمنع سفر الأنثى غير المتزوجة بكرا كانت أو ثيبا دون الحصول على إذن من وليها العاصب، ولوليها أن يمنعها من السفر إذا كان في سفرها شرر محض أو وجدت دعوى قضائية بينهما تلزم المنع من السفر، على أن تتبع الإجراءات المنصوص عليها في التصميم القضائي رقم 1/2020 الصادر بتاريخ 30/1/2020".. صدرت موجة من الاحتجاجات والمطالبات بإلغاء القرار، بجانب موجة أخرى شعبوية رحبت بالقرار وعدته منسجما مع الثقافة المحافظة والخلفية الدينية التي انتخب الناس من أجلها حكومة حماس، ورافقت القرار فتاوى تمنع سفر المرأة بدون محرم.

صدرت ردات الفعل الشعبوية التي طالبت بالتغاضي عن نقد القرار بحجة أنه مرحبٌ بهِ من قبل النساء في غزة، وأنه جزء من العرف الاجتماعي بالتراضي، وأنه جزءٌ من الدين. وقد تم إصدار الفتاوى التي تقر بضرورة سفر المرأة مع محرم، وبأن من يعارضون ذلك يريدون لبرلة الإسلام. واللافت في ردات الفعل هذه عدة نقاط:

أولا: مطالبة الناس بغض النظر عن الفتاوى وعدم نقدها فيه نوع من الانسياق الأعمى وغير العاقل لما قد تشرعه وتفتي به هيئات الإفتاء التي غالبا ما يتم توظيفها في أنظمة حكم الإسلام السياسي وغيرها من أنظمة الحكم. فالكثير من القضايا شهدت توظيفا للإفتاء الشرعي من أجل سبغها بالشرعية وتمريرها على الجماهير. ولم يكن ذلك القانون الجائر بحق النساء أولها، فهنالك من المفتين من بارك بفتواه التطبيع مع دولة الاحتلال، مما يفتح الباب للتساؤل عن مدى استقلالية دوائر الإفتاء، وضرورة إحكام العقل في تلك الفتاوى وعدم إلغاء الدور النقدي للعقل فيها.

ثانيا: ليس كل من ينتقد محدودية من يمنحون لأنفسهم حق التشريع والإفتاء بشخص يريد لبرلة الإسلام، بالذات أنه تم توظيف مثل هذا الكلام للهجوم على كل من عارض القرار ونقد الفتاوى بكلام سائل وعام، فكان أسهل ما يكون بجانب خيار القراءة المتأنية لواقع الحال لدى دوائر الفقه والتشريع من منطلق التصالح مع نقطتين: عدم تأليه من تصدر من جانبهم مثل هذه الفتاوى، ثم قراءة تلك الفتاوى بأدوات العصر والتغيرات الطارئة عليه. فما كان ضرورة قبل ألف عام لا يأخذ نفس الأهمية والصدارة في يومنا هذا.

وتجديد الخطاب الفقهي والديني في محاورة العقول ضرورة ملحة. هذا الرعب من التفكير أو انتقاد الفتاوى لا يمكن أن يأتي بثمار تغيير إيجابي لصالح الخطاب الديني الإسلامي.. من يريد أن يخاطب العقول بنصوص كانت لزمان غير هذا الزمان معني بجمودية العقل الديني، وهذا ليس من مقاصد الدين والتشريع. المسألة لا تحتاج لمحاكمات دينية أو ليبرالية كي نثبت أن كل ما يميز المرأة عن الرجل سلبا أو إيجابا هو أمرٌ فيه انتهاك لإنسانيتها، والحديث بولاية الرجل على المرأة وقوامته عليها بالإسلام من باب قمعها لا يفرق عن الحديث عن استغلال المرأة وتحليلها من باب ضرورات اقتصاد السوق.

الأمر ليس تقوقعا وتصنيفا، والقول بتكفير ومهاجمة كل من ينتقد أو يفكر بتلك النصوص دون تسليم تام لها وانقياد أعمى فهو يلغي باب الاجتهاد ويغلقه على ما تمت الكتابة فيه من قبل. والمتأمل جيدا لما كُتب من نَقد حقوقي وحتى نقد للفتوى لم يتعد على النصوص الدينية الصريحة، وإنما وجه الانتقاد لحالة الركود الفكري في الفتوى وعدم مجاراتها لروح العصر.

ثالثا: إن المحاكمات والاتهامات والتكفير لمن يتجرأ على التفكير بالموروث أمر شائع، وما نحتاجه هو أن يتم التجديد الدائم في قراءة تلك النصوص التي تحتمل التجديد، وليس من مقاصدها إهانة النساء بتشريعات ذكورية سهل على من شرعها الاعتداء على النص الديني منطقيا وأخلاقيا لانتزاع ما يتماشى مع نظرته، وحالة التعدي على المرأة ككيان كامل ليست من مقاصد الدين الإسلامي. والأمر يحتاج بجانب المنطق العقلي الفطرة السليمة في النظر للمرأة لمتابعة الكتابات التي فيها تجديد لأصحاب الاختصاص وأهل الفكر من المجددين الثقاة؛ ممن يتبنون أدوات ديناميكية تنسجم مع التغيرات في الأزمان ولا يتعاملون مع ما وجد من قبل كأوثان، والذين ليست لهم أيضا ارتباطات سياسية ولم يحصروا نتاجهم في إنتاج فقه يناسب تشريعات وقرارات السلطان.

رابعا: فللنظر إلى القرآن وعدد النصوص التي تستدعي التفكير والتأمل والتفكر، فإن حالة الجمود التي فرضتها حركات الإسلام السياسي بتوظيفها الدين في حقل السياسة جعل هنالك حالة من توظيف النص الديني بما يخدم ما نسميه في علم السياسة الواقعية السياسية، ومحاولة تطويع النص الديني لتشريع حالة تمس الحريات ليست من الدين في شيء. المطلوب هو التوقف عن توظيف النص الديني في الانتهاكات السياسية وانتهاكات حقوق الإنسان؛ لأن هذا ليس من الدين في شيء.

من خلال رؤية النساء اللواتي دافعن عن قرار وفتوى تسلبهن حريتهن في التنقل المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإن ذلك يعكس عدة أمور:

أولا: هنالك بيئة ثقافية واجتماعية تحكم سيطرتها على عقل المرأة وتسلبها النظر إلى نفسها ككيان كامل يستحق كامل حقوقه الإنسانية تماما كالرجل. في مثل تلك الأجواء غير الصحية والتي تقدم فيها النساء تنازلات بلا قاع عن حقوقهن الإنسانية كي يثبتن للمجتمع أنهن يستأهلن ثقته؛ لا يمكن أن تبني المرأة حالة الفكر النقدي لما يعترضها ويصادر حقوقها الإنسانية والمدنية. وفي الواقع حين تكون الفكرة المرفوضة من حيث المبدأ والأخلاق والقانون عرفا اجتماعيا؛ يسهل على الطرف المتضرر التعامل مع خسائره النفسية جراء هذا النوع من التمييز بمشاعر الانتصار والانسجام مع ثقافة المسموح والمرغوب والعيب في المجتمعات المنغلقة.

ثانيا: الاحتفال الاجتماعي بالانتهاك الحقوقي الذي يمارس على المرأة بمسوغات دينية وقبول شريحة واسعة من النساء لهذا الواقع بل والمنافحة عنه؛ يعكس حالة من عدم الوعي والإدراك لخطورة تلك الخطوات التي لن يكون آخرها انتهاك حق المرأة في السفر الطبيعي بدون محرم وبدون موافقة ولي. فحالة اليأس السياسي جرّاء الحصار وممارسات الاحتلال أعطت صوتا عاليا لمن يريدون التعايش مع القرارات الظالمة بدعوى خصوصية المجتمع الفلسطيني، وأن الاحتلال يسعى لتفتيت الأسرة وتفريغ غزة ديموغرافيا. لكن كل هذه مجرد حالة من نشر الرعب في الأوساط الشعبية بأن هنالك مؤامرة من أجل تمرير حالة القمع والعنف ضد فئة معينة، وهذا ما أتقنته الدكتاتوريات وأتقنته أنظمة الحكم المتسلطة: التخويف من المصير خارج قبضتها.