اشتهر الجراح الأمريكي ديفد جورسكي David Gorski بمدوّنته التي أطلق عليها “وقاحة محترمة” (Respectful insolence). كما أنه يشرف على موقع إلكتروني يدعى “الطب القائم على العلم” يُعنى بطريقة تغلغل أفكار الرعاية الصحية غير العلمية بشكل متزايد في الطب بشكل عام.
“مرض المُنَـوْبَل”
وقد أدخل هذا الطبيب عام 2012 مصطلحا جديدا يشير إلى “متلازمة” سمّاها “مرض نوبل” أو “مرض المُنَـوْبَل” (Nobel disease). وهو مرض يصاب به الحاصلون على جائزة نوبل وأمثالهم. وهذا الداء -حسب مكتشفه وأتباعه- ظاهرة يؤيد (أو يعارض) فيها عالِم حائز على جائزة نوبل عملا في مجال خارج اختصاصه، أو يجري فيه أبحاثا “علمية”. وليس من الواضح لحد الساعة ما إذا كان الفائزون بجائزة نوبل أكثر عرضة لأخطاء التفكير النقدي من غيرهم من العلماء.
ومع ذلك فإن هذه الظاهرة تؤكد على أمرين: الأمر الأول هو أنه عندما يكون شخص في مرتبة عالية ومرجعًا في مجال علمي فهذا لا يجعل منه مرجعًا في مجالات أخرى. أما الأمر الثاني فإن هذه الظاهرة تكشف عن محدودية الذكاء العلمي والذكاء العام للفائزين بجائزة نوبل وأمثالها، عكس ما يتصوّر رجل الشارع.
وما يجعل هذا الموضوع مثيرا هو أن السواد الأعظم من الناس يعتقدون أن الحائزين على جائزة نوبل أناس لهم مواهب استثنائية تمنحهم القدرة على الإدلاء بآراء صائبة في كل مجالات المعرفة. بينما هم تحصلوا على هذا الاستحقاق لأنهم قضوا سنوات طوال من أعمارهم منكبين على نقطة معينة في فرع علمي دقيق. وفي تلك الأثناء، غالبا ما يكونون غير محتكين –نتيجة انشغالهم ببحوثهم- بما يجري خارج ذلك التخصص الدقيق. وفي هذا السياق، يعدّد المتتبعون أزيد من 30 حائزا على جائزة نوبل ضحية هذا الداء.
تداعيات هذا الداء
والواقع أنه حين ينال هؤلاء العلماء الجائزة تتجه إليهم الأنظار، وتسلط عليهم وسائل الإعلام المختلفة الأضواء -لتستقي آراءهم في قضايا الساعة المتشعبة وفي المسائل المستقبلية للمجتمع وللمعمورة- فيفاجأون بما يحاطون به من عناية واهتمام بآرائهم. ذلك ما يجعلهم يطلقون العنان لتصريحات إعلامية كثير منها غير مبنيّ على أسس علمية… بل يرتكز على استنباطات يروها أصحابها من زاوية اختصاصاتهم الضيّقة وليس من الزاوية السليمة التي ينبغي أن ينظر من خلالها إلى تلك المسائل التي تشغل بال الجمهور والساسة.
وما يزيد الطين بلة أن كبريات الجوائز تتبنى اعتبارات إستراتيجية تجعلها تتفادى أخطاء من شأنها أن تشوّه سمعة الجائزة. لهذا السبب، لا يتم تسليم الجائزة إلا بعد مدة طويلة (أحيانًا، عقد أو عقود) من تاريخ الاكتشاف، إذ إن هذه المدة كفيلة بأن تكشف العيوب المحتملة لتلك الاكتشافات قبل نيل الجائزة.
وتؤدي هذه الاستراتيجية إلى ظاهرة تتمثّل في كون معظم الفائزين بهذه الاستحقاقات يكونون متقدمين جدًا في العمر يوم تكريمهم. والسنّ المتقدم يؤدي بصاحبه إلى عدم التحكم السليم في أفكاره وآرائه. والأدهى من ذلك أن طول العمر الذي يتمتع به البشر اليوم يؤثر بصفة سلبية على آراء هؤلاء العلماء. كما ينبغي ألا ننسى بأن العلماء الذين يقومون باكتشافات عظيمة ينجزون ذلك في أغلب الأحيان قبل سنّ معينة.
كانت هذه السنّ تناهز 30 سنة، ولكنها اقتربت اليوم من سنّ الخمسين نظرا لاتساع رقعة العلوم أفقًيا وعموديًا، فضلا عن تكاثر عدد العلماء والباحثين عبر العالم. ذلك ما يصعب الوصول إلى اكتشاف كبير في سنّ مبكرة خلافًا لما كان عليه الحال قبل عقود.
وربما يصل الأمر ببعضهم إلى أنه بحلول التاريخ الذي يتم فيه منحهم الجائزة، يكونون قد “انزلقوا” إلى مواضيع لا علاقة لها باكتشافاتهم أو اختصاصهم وهم لا يدرون… أو يدرون ويتمادون ظنًا منهم بأن ما أحيطوا به من علم يسمح لهم بالإدلاء بدلوهم فيما بَعُد أشواطًا عن اختصاصاتهم.
الأستاذ نضال قسوم
نحن من الذين كنا ولازلنا نحترم الأستاذ نضال قسوم لسعة علمه وفصاحة لسانه وقدرته على تبليغ الأفكار العلمية لمن يجهلها أو لا يلمّ بها تمام الإلمام. لكن ذلك لا يمنعنا من التساؤل عن بعض ما يدلي به من أحكام.
فالأستاذ نضال تحصل على شهادة الدكتوراه في موضوع عنوانه “التفاعلات النووية الحرارية للنوى الخفيفة في البلازمات الفيزيائية الفلكية”. ولذا، عندما يكتب هذا الباحث في الفلك، مثل كتابه “إثبات الشهور الهلالية ومشكلة التوقيت الإسلامي”، فنحن نثمّن إسهامه في توضيح رؤى من يهمّه أمر التوقيت الإسلامي لأننا نرى موضوع الكتاب وثيق الصلة بالإطار العام لاختصاص المؤلف.
أما أن يكتب مثلا، في نظرية التطوّر ويتعمق فيها ويضع المؤلفات، ويلقي المحاضرات ويبذل جهودا مضنية في نشر فيديوهات حولها، ثم يفتي بشكل قطعي في بعض متاهاتها مرورا بخصوصيات الجنين وخلق آدم (عليه السلام) وتاريخه فهذا ما لم نستسغه من عالم يحترم العلم.
فمن أهّله مثلا أن يكون حَكَمًا بين الرؤية الدينية للخلق ورؤية نظرية التطور لهذا الخلق؟ وهو الذي ما فتئ يندّد -على حق- بإفتاء بعض رجال الدين وأتباعهم في أمور علمية معقدة استعصت أحيانا حتى على المتخصصين فيها؟ فليس من الحكمة أن “ننهَى عن خلق ونأتي مثله”!
وعن دور النشر العربية
ومن جهة أخرى، استمعنا قبل اليوم إلى حديث مطوّل أجرته إذاعة فرنسية مع الأستاذ نضال بعد أن أصدر كتابا بالفرنسية حول الإسلام والعلم، منها نظرية دروين. وخلال هذا اللقاء سألته المذيعة عن سبب كتابته باللغة الفرنسية، ولماذا لا يكتب هذه المؤلفات بالعربية مضيفة “أليس العالم العربي أحوج إلى مثله في عصر الدواعش المخربة”؟
فكان جواب الأستاذ نضال قسوم : “هل تتصورين، أختي الكريمة، أن الكتاب، لو كتبته باللغة العربية وتقدمت به لدار نشر عربية ستنشره بكل سهولة؟ ثم استرسل موضحًا أن “دور النشر (العربية) تخاف من الجمهور وتخاف من أقوال الشيوخ ومن منع الكتاب، ومن أن تكون معروفة بأنها نشرت هذا الكتاب الذي فيه طرح مخالف للتعاليم الدينية … لدينا مشكلة كبيرة في ثقافتنا العربية اليوم”. وفي تناقض صارخ يضيف “بالمناسبة، هذه الكتب (يقصد كتبه المؤلفة بغير العربية)، نحن الآن في طور ترجمتها، ونرجو ألا تمنع في معظم الدول العربية”!
نشير على سبيل المقارنة أن دار نشر جزائرية أصدرت منذ سنوات كتابا اتخِذ مرجعا في رسائل جامعية في علم الأحياء. يؤكد هذا الكتاب أن من بين سكان الجزائر خلقًا أصلهم ليس من آدم بل من أمة جاءت قبله. ومع ذلك لم نسمع أن صاحب الدار أصيب بأذى أو كان محلّ مساءلة أو مقاطعة. فهل يستطيع مؤلف نشر كتاب في فرنسا، مثلا، يتناول فيه قضية محرقة اليهود بحرية؟
ألا يذكّرنا هذا الكلام بـ”مرض نوبل” وبما ينجرّ عنه من تناقضات في التصريحات؟!
هل ستكون للحراكات الشعبية أبعاد مغاربية؟