على الرغم من الصخب الكبير الذي تحدثه أصوات علمانية بارزة في مصر على فترات مختلفة من تاريخها الحديث، إلا أنها عجزت عن أن تشكل تيارا فكريا واسعا ومتماسكا يمكن أن يمثل كتلة إنسانية أو وطنية ذات بال بين المصريين، لذلك فقد بدأت وانتهت تلك المحاولات، كجهود نخبوية فردانية محدودة التأثير، تعتمد على الاشتباك الإعلامي مع التيار الديني، الإسلامي، عادة، ولا تغامر بخوض نضال سياسي أو اقتصادي أو تحرري في أي مرحلة من مراحل النضال الوطني التي عرفتها مصر، وأعتقد أن هذا كان أحد أهم أسباب أزمتها وضعف تأثيرها وحضورها.
عندما تذكر العلمانية ونشأتها في مصر يذكر عادة كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، وعلى الرغم من أن الكتاب لا يتعرض لفكرة العلمانية، كفصل كامل للدين عن الدولة، بقدر اهتمامه بتأكيد غياب وجود صيغة محددة لنظام الحكم في الإسلام، ردا على من بكوا إعلان موت الخلافة العثمانية، إلا أن الكتاب تم تصنيفه تاريخيا على أنه جزء من معركة سياسية عجزت عن المواجهة الصريحة مع طموحات الملك فؤاد الأول لوراثة سلطة الخلافة وجعل مقرها في القاهرة.
وباستثناء تلك المحاولة، لا يوجد كتاب أو مرجع ذو بال، أسس للعلمانية بشكل صريح ورؤية متكاملة في مصر طوال قرن من الزمان، وإنما كانت هناك أصوات منفردة، أغلبها لها ظل من التأثير الطائفي القلق دائما من توجهات "الجماعة" و"الغالبية"، مثل كتابات سلامة موسى ثم لويس عوض ثم غالي شكري، وإشارات متناثرة في بعض الكتابات المبكرة لعدد من الرموز الفكرية والأدبية، مثل الدكتور طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" لم يتعهدها صاحبها بالتطوير والصقل، بل تراجع عنها ضمنيا في كتاباته التالية ، في مراحل النضج .
وكان كتاب خالد محمد خالد "من هنا نبدأ" يمثل آخر المحاولات التي تلامس مسألة العلمانية، دون أن يذكرها أو أن يبلور رؤية علمية وسياسية لها، بخلاف إدانته للتوظيف السياسي للدين لخدمة الرأسمالية وكبار الملاك، وهي كلها رؤى أدبية وغير علمية ومصبوغة بالروح الاشتراكية التي كانت تنتشر ـ نسبيا ـ بين شباب تلك الفترة، وقد تراجع عنها بعد ذلك خالد محمد خالد نفسه، ونشر مقالات وكتابا يفند فيه تلك الآراء .
في الفترة الناصرية اختفى الجدل تقريبا بشكل تام حول قضية العلمانية، لأن النظام العسكري الجديد أدمج الدين في السياسة بحيث جعل السياسة تبتلع الدين ومؤسساته، من أول الأوقاف وانتهاء بالسيطرة على الأزهر، المؤسسة الفكرية والعلمية الأهم، وتحويلها إلى أداة في صراعه السياسي مع الإخوان المسلمين، واستمرت الحياة الفكرية مشغولة بالجدل السياسي والنضال المتصل به طوال الفترة الناصرية، ثم فترة السادات ثم جزءا كبيرا من فترة حكم حسني مبارك، وعندما بدا أن نظام مبارك أحكم سيطرته على مقاليد الدولة والمجتمع، وأصبحت له منظومة كاملة تدير كل تفاصيل الحياة وتلعب بالجميع، وتراجعت أحلام التغيير السياسي، عاد الجدل حول العلمانية يتسلل من جديد من خلال بعض النشطاء المثيرين للجدل والمولعين بالحضور الإعلامي، مثل الدكتور فرج فودة، والدكتور مراد وهبه، وهي لم تقدم مشروعا تنويريا حقيقيا بقدر ما كانت منشغلة بنقد التيار الديني، الإسلامي، واستفزازه، والدخول معه في نقاش "ديني" حول بعض القضايا "الدينية"، فبدا كما لو كان الصراع حول من هو الممثل الحقيقي للفكر الديني الصحيح، وليس صراعا بين الفكر العلماني والفكر الديني، وانتهت تلك الفترة بجريمة مروعة عندما اغتال شاب جاهل من التيار الإسلامي الدكتور فودة، على وقع الصخب الإعلامي المتوتر الذي انتشر في تلك الفترة .
في السنوات الأخيرة من حكم مبارك بدأ الجدل حول العلمانية ينزوي، ويتقدم الجدل حول الإصلاح السياسي وحول الحريات العامة وحول التغيير وحول القمع وحصار الأحزاب وحول وراثة الحكم وحول التداول السلمي للسلطة، وغياب هذا الجدل حول العلمانية كان من الأمور التي ساعدت على وحدة ميدان التحرير في ثورة يناير، ونجاح الشارع في كسر منظومة أمن مبارك وإجباره على التنحي، قبل أن يعود التمزق مرة أخرى بعد أشهر قليلة، على وقع إحياء الصدع السياسي والواقعي بين رموز وكتل سياسية ليبرالية ويسارية تشتبك سياسيا وإعلاميا وميدانيا مع كتل سياسية إسلامية ، وانتهى الأمر بضياع الثورة وخسارة نضال نصف قرن على الأقل من الحلم بها .
في اعتقادي أن مأزق التيار العلماني في مصر يعود إلى أمرين اثنين، الأول هو غياب روح النضال والتضحية عن رموزه ومفكريه، والميل إلى النشاط تحت عباءة سلطة قمعية عادة، حتى لو كانت عسكرية، وهذه الانتهازية كانت صريحة جدا في واقعة الانقلاب على الرئيس "الإسلامي" محمد مرسي، وتأييد انقلاب عسكري حتى بعد وضوح أنه انقلاب لا شك فيه والصمت على بطشه بالإسلاميين، وهذه النزعة كانت حاضرة من أيام مبارك، حيث كانت تلك النخب العلمانية تحتمي بالدولة والنظام السياسي والأمني، بل وتحرضه صراحة في بعض الأحيان، على خصومها الإسلاميين، وتحاول وصم من يخالفهم بالإرهاب والعنف والظلامية ونحو ذلك، ولذلك لم يكن غريبا أن تحظى تلك الأصوات بحنو واضح من النظام القمعي القائم، وحضور لافت في منتدياته الرسمية ومؤتمراته ومؤسساته وصفحه الرسمية وحتى في الجوائز التي يمنحها نظام مبارك في مجالات الفكر والأدب والاجتماع، وكان من نتيجة ذلك الميل "المخملي" للنشاط العام، أن ضعفت صلة تلك الأصوات العلمانية بالمجتمع في جذره ومواجعه ومشكلاته، وأصبحت هناك نظرة سلبية تجاههم من قبل الآخرين، وينظر إليهم على أنهم جزء من منظومة القمع، قمع فكري ينضم إلى قمع سياسي، وهذا ساهم في تهميش التيار العلماني، كما أضعف من أحزابه القائمة، لأن روح النضال والتضحية هي الجاذبة لثقة الشارع في صاحب الموقف السياسي أو الفكري، وبدونها يظل حضوره باهتا وضعيفا .
حراك ثورة يناير أفرز جيلا جديدا، يحمل طابع التمرد ـ الفكري والسياسي ـ على الأجيال التي سبقته، وربما يحملها مسؤولية الانهيار الذي تشهده مصر على مختلف المستويات، والملاحظ أن هذا التمرد يشمل الجميع، فهو يشمل التيار العلماني كما يشمل التيار الإسلامي أيضا، وهذا ما يبعث على الأمل في المستقبل .
الأمر الثاني الذي سبب مأزقا للتيار العلماني، هو موقفه العدائي الصريح والمهين من منظومة القيم الدينية والأخلاقية في المجتمع، وغياب الحكمة عن رموزه عندما يشتبكون مع القضايا الحساسة التي تتفجر كل حين في هذا الفضاء الأخلاقي، فلا يوجد صوت إلحادي ظهر يهاجم الدين في أساسه إلا وأقام العلمانيون معركة صاخبة في الدفاع عنه وتأييده والترويج له وتحويله إلى بطل، حتى لو كان شخصا انتهازيا، وفعلها من أجل الشهرة، وغالبا يكون كذلك، لأنه قبلها لم يكن شيئا مذكورا، وهنا يبدو الأمر أمام المجتمع على أن العلمانية مخاصمة للدين نفسه بالفعل، وتضمر كراهية للدين نفسه، وليست مجرد فصل بين الدين والسياسة، ولو أنهم حصروا المسألة ـ عقلانيا وبذكاء اجتماعي وإنساني ـ في حرية التعبير والتحذير من قمع الصوت المخالف، لكان الأمر محتملا ولم يخلف كل تلك المخاوف من العلمانيين عند المواطن العادي، ولكن المأساة أنهم ينحازون تماما إلى الصوت الإلحادي، ويتماهون معه، ويتخندقون معه، وترى الفضاء الفكري كله معبأ بالدفاع عن الإلحاد، فمن الطبيعي أن المواطن العادي، وعموم الناس، تنظر بحذر وغضب تجاه هؤلاء، لأنهم لم يروا منهم غيرة إلا على الإلحاد .
والأمر نفسه في أي سلوك فيه خروج على الآداب العامة والأخلاق المستقرة، سواء من أديب أو فنان أو كاتب، فتنشب معركة ضخمة من قبل العلمانيين دفاعا عن هذا النزق الأخلاقي الذي يصل أحيانا إلى حد الإباحية الصادمة للمشاعر العامة والجارحة لقيم المجتمع، وأذكر أن إحدى تلك القضايا عندما وصلت للمحاكم، وقف محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب أمام القاضي مدافعا عن كاتب من تلك النوعية، فأعطاه القاضي الرواية، وفتح له صفحة وطلب منه أن يقرأها أمام الحاضرين، فتهرب سلماوي من قراءتها، لأنه يعرف أن ما فيها من ألفاظ وأوصاف مهين جدا بالفعل .
أضف ما سبق إلى إطار عام من أن هذا التيار العلماني الغاضب على الإلحاد والتهتك الأخلاقي، لم يقدم أرضية نضالية تفرض احترامه، ولم يضح بأي شيء، ولم يعل صوته في أي معركة سياسية وطنية كبرى، بحيث تصغر معركته في الإلحاد مع ذلك التاريخ النضالي ويغفر بعضه بعضا، وبالتالي انطبع في وجدان وعقل المجتمع أن العلمانية هي ترويج للإلحاد والإباحية، وقد تكون العلمانية ليست ذلك أبدا، ولكن رسلها ومريديها في مصر هم الذين منحوها تلك الصبغة بسلوكهم واختيارهم للمعارك التي يخوضونها .
على كل حال، أعتقد أن من أهم ما أفرزته ثورة يناير في المجتمع المصري، هو انتفاضة عقلية ووجدانية، جعلت قضايا العدالة والحريات والكرامة الإنسانية والتعايش رغم الخلاف، في صدارة هموم الأجيال الجديدة، وهذا من شأنه أن يضع الحوار العلماني ـ الإسلامي في مسار جديد، مفيد لتطور المجتمع، أكثر واقعية، وأكثر جدوى، وأقرب للوصول إلى نقاط التقاء، وخاصة أن حراك ثورة يناير أفرز جيلا جديدا، يحمل طابع التمرد ـ الفكري والسياسي ـ على الأجيال التي سبقته، وربما يحملها مسؤولية الانهيار الذي تشهده مصر على مختلف المستويات، والملاحظ أن هذا التمرد يشمل الجميع، فهو يشمل التيار العلماني كما يشمل التيار الإسلامي أيضا، وهذا ما يبعث على الأمل في المستقبل .
علمانيو فلسطين.. تنظيمات وأحزاب ونخب ومؤسسات مدنية (2من2)
العلمانية من عصر الأنوار إلى الظلامية.. الجزائر نموذجا
العلمانية في الأردن.. أفكار نخبوية وحضور جماهيري باهت (2من2)