لم تقتنع طهران حتى الآن
بأنها لن تنجح في ليّ ذراع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن كما فعلت مع الرئيس
الأسبق باراك أوباما، والأرجح أنها لن تقتنع بذلك، وستستمر في استفزازاتها إلى أن
تقع في المحذور، وتتجاوز خطوطا حمراء لا يمكن لأي إدارة أميركية السكوت عنها،
وستجبر إدارة البيت الأبيض على استخدام القوة ضدها، ويرجح ذلك في سياق الرد
الأميركي المقبل على اختبارات طهران النارية المتصاعدة منذ أسابيع في العراق، وكان
آخرها إطلاق 10 صواريخ إيرانية الصنع على «قاعدة عين الأسد الجوية».
لم تستوعب طهران بعد أن جو بايدن ينتمي إلى
حقبة الحرب الباردة، وهو من جيل المنتصرين الذين ينتمون إلى عقيدة القوة الأميركية
التي يمثلها البنتاغون، الذي أعاد إليه بايدن دوره وحجمه في صناعة القرار الأميركي
خلافا للمرحلة السابقة التي بدأت مع الرئيس الأسبق بيل كلينتون، حيث تراجع دور
وزارة الدفاع لصالح وزارة الخارجية والقوى الناعمة الأميركية، وانحسر دور وزارة
الدفاع في المهام التنفيذية فقط. ولكن في تركيبة الإدارة الحالية تبرز وزارة
الدفاع أنها الأكثر انسجاما، ويبدو وزيرها الشخصية الأقوى في الحكومة الأميركية
مقارنة بباقي الوزارات والوكالات، حيث تبدو النظرة العامة انهم أشبه بموظفين
حكوميين جرى ترفيعهم أو ترقيتهم.
مأزق طهران أن تصرفاتها تخدم الطرف الأقوى في
الإدارة وليس بالضرورة أن يكون المتشدد، لكنه يشكل حاليا ذراع الرئيس الضاربة؛ لأن
البنتاغون يقوم بملء الفراغ بعد تعثر الدبلوماسية وبرودة في المفاوضات النووية
تريد طهران تحويلها إلى مواجهة ساخنة؛ مواجهة تضعها في وجه البنتاغون الذي لن يسمح
لها بالتمادي في تحرشاتها، ولن يسمح قائده الأعلى بالتطاول على هيبة بلاده... وفي
هذا السياق، كان موقف البنتاغون واضحا؛ إذ قال المتحدث باسمه، جون كيربي، إن
واشنطن لن تتردد في «الرد على هجوم (قاعدة عين الأسد) بعد انتهاء التحقيق». وحتى
الانتهاء من التحقيق ووصولا إلى تحديد الجهة الفاعلة واتخاذ قرار الرد، فإن جميع
الأطراف ينتظرون حجمه وزمانه ومكانه؛ لأن معطياتها ستحدد مستقبل المفاوضات
الإيرانية - الأميركية وشكلها.
في المرة السابقة اختارت الإدارة الأميركية
ضرب أهداف إيرانية في سوريا ردا على قصف مطار أربيل؛ الأمر الذي خفف الضغط عن
الحكومة العراقية، لكن الجهة المعنية بالتصعيد عادت واستهدفت مصالح أميركية في
«قاعدة عين الأسد»، ما أدى إلى مقتل متعاقد أميركي، كأنها تستدرج واشنطن هذه المرة
إلى رد داخل العراق يحرج الحكومة العراقية وأجهزتها الرسمية ويضعها في مواجهة
تداعياته، ففي اجتماع لمجلس الأمن الوطني؛ عدّ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي
أن «هذه النوعية من الهجمات تنفذها مجاميع ليس لها انتماء حقيقي للعراق، تستهدف
قواعد عسكرية عراقية (بهجمات) لا يمكن تبريرها تحت أي عنوان وأي مسمى».
موقف الكاظمي يرتبط بمحاولته تجنيب العراق
كباشا إقليميا، والحفاظ على ما تبقى من استقرار أمني في ظروف اقتصادية وصحية صعبة،
كما أن الحكومة تريد أن تتجنب أي تصعيد خلال فترة زيارة بابا الفاتيكان البابا
فرنسيس إلى العراق المقررة أن تبدأ اليوم وتنتهي في الثامن من الشهر الحالي، حيث
تدور شبهات سياسية بأن جهات محلية مرتبطة بالخارج منزعجة من الزيارة ومن لقاءات
البابا وتحاول التشويش أمنيا عليها.
تطالب طهران الحكومة العراقية بتنفيذ قرار
البرلمان القاضي بانسحاب القوات الأميركية من العراق، وتستخدم ما لديها من أساليب
أخرى باتت مكشوفة ومتهورة، تعكس حجم مأزقها التفاوضي مع إدارة ترفع شعار
«الدبلوماسية القصوى» من دون أن ترفع «العقوبات القصوى»، وتعلن أنها ربما تضطر
لنشر قوات إضافية في العراق في سياق ردها على التحرشات الإيرانية، مما يدفع إلى
الاستنتاج أن طهران رسبت في أول اختبار مباشر للرئيس بايدن.
(عن صحيفة الشرق الأوسط)