لا تزال مدينة جيجل تحتفظ
بذكرى ذلك التاريخ الخالد لمرور بابا عروج عليها فاتحا منذ أكثر من 500 سنة، وهي
التي كانت تعاني من الاحتلال الإيطالي. وقد ترصّع وسط المدينة بتلك السّفينة
الرّمزية الشّاهدة إلى الآن: سفينة بابا عروج.
اشتهر عروج بربروس (1474م-
1518م) وأخوه خير الدّين (1470م- 1546م) بجهادهما البحري في سواحل البّحر المتوسّط
وشمال إفريقيا، وخاصّة بعد سقوط الأندلس سنة 1492م، وتهجير المسلمين منها من قِبل
محاكم التفتيش في إسبانيا، فعمل مع أخيه على إنقاذ المسلمين، وقد قيل إنّ أمّهما
كانت أندلسية مسلمة، فتمّ نقل حوالي 70 ألف مسلم أندلسي في أسطول مؤلّف من 36
سفينة، وتمّ تأمينُهم في الجزائر وتوطينُهم بها، ممّا أكسبه شهرة ومحبّة من سكان
شمال إفريقيا لدوره الأخوي والبطولي، حتى لُقّب: (بابا عروج)، بما تحمله صفة
الأبوّة من الحبّ والتقدير والاعتراف بالفضل.
ويأتي في مقدّمة هذه الأسباب لهذا الجهاد
البحري والوجود الطبيعي بالجزائر: الدّافع الدّيني بسبب الصّراع بين الإسلام
والمسيحية آنذاك، وملاحقة الإسبان والبرتغاليين للمسلمين في شمال إفريقيا بعد
طردهم من أوروبا، فكانت الخشية من تكرار مآسي الأندلس، وكانت الجزائر أرض هذه
الهجمة الصليبية على الإسلام والعرب والمسلمين، انتقاما من وصوله إلى أوروبا،
وبزوغ شمس الحضارة الإسلامية في الأندلس، وخشيتهم من هيمنة هذه الحضارة على أوروبا
كلّها وإلى الأبد.
في تلك الأجواء المشحونة من الحروب العظيمة
ضدّ الجيوش الصّليبية والتي كانت حروبا مقدّسة برعاية الكنيسة الكاثوليكية ضدّ
المسلمين خلال العصور الوسطى، ظهر الأخوان بابا عروج وخير الدّين بربروس،
واستطاعَا تجميع القوات الإسلامية في الجزائر، وتوجيهها نحو الهدف المشترك لصدِّ
أعداء الإسلام عن التوسّع في شّمال إفريقيا، وخاصّة في الموانئ والمدن الجزائرية.
اعتمدَا في جهادهما أسلوب الكرّ والفرّ في
البحر بسبب عدم قدرتهما على الدّخول في حرب نظامية ضدّ القوات المسيحية من الإسبان
والبرتغاليين وفرسان القدّيس يوحنا، وقد حقّق هؤلاء المجاهدون نجاحات كثيرة، ثم
رأوا أن يدخلوا تحت سيادة الخلافة العثمانية، لتوحيد جهود المسلمين ضدّ هؤلاء
النّصارى الحاقدين.
حاول المؤرّخون الأوربيون التشكيك في طبيعة
هذا الجهاد البحري في المتوسط فوصفوه بـ”القرصنة”، كما شكّكوا في أصل أهمّ قادته
وهما الأخوان: عروج وخير الدين، وأثرهما في مواجهة الدّور الصّليبي في البحر
المتوسط في زمن السّلطان سليم الأول وابنه السّلطان سليمان القانوني.
وبداية من سنة 1505م تزايدت هجمات الإسبان على
شمال إفريقيا وتحديدا: على الجزائر، إذ احتلّوا سواحلها الشّرقية.
وفي سنة 1512م استنجد علماء وأعيان بجاية
بالأخوين عروج وخير الدّين لتحريرها من الإسبان فلَبّيَا الدعوة، وخلال معركة
التحرير بُتِرت ذراعُ بابا عروج فتراجعَا إلى تونس.
وبعد تضايق السّلطان الحفصي
منهما في تونس بسبب شهرتهما وشعبيتها وخوفه منهما، حاولا أن يجدَا قاعدة بحرية
لهما لمواجهة المدّ الصّليبي الأوروبي على العالم العربي والإسلامي.
وفي سنة 1514م حاولا تحرير مدينة جيجل من
الاحتلال الإيطالي، وكان لهما ذلك، فاتخذَا ميناءها قاعدةَ انطلاقهما في حملاتهما
ضدّ المحتلّين الصّليبيين، بعد طرد الاحتلال الجَنَوي الإيطالي منها، وهي التي
تعرّضت للاحتلال الإيطالي منذ سنة 1260م، فأسروا نحو 600 من المحتلين الإيطاليين،
واستولوا على غنائم كثيرة، وتمّ توزيعها دون تمييز بين الفاتحين والسكّان الأصليين
من أهل بجيجل، واجتمع حولهما حوالي 20 ألف قبائليّ مع مرابطيهم، ويذكر الشيخ
المؤرخ عبد الرحمان الجيلالي (3/37) أنّ فتح مدينة جيجل تمّ بمساعدة الشيخ أحمد بن
القاضي، وكان زعيما للقبائل البربرية في جبل كوكو.
ويقول الشيخ أحمد توفيق المدني في كتابه (حروب
الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا، ص 168): “كان لبهم من قبائل كالمسلمون في
جهة جيجل والجبال المحيطة بها، وأغتامة قد التفُّوا حول عروج ورأوا من إيمانه ومن
أخلاقه ومن قوّة شخصيته ما جعلهم يبايعونه أميرا، ويعاهدونه على السّير وراءه إلى
ميادين الجهاد من أجل إنقاذ المدن الإسلامية”.
ويرجِع بعضُ المؤرّخين العلاقة بين الجزائر
والعثمانيين إلى فتح بابا عروج وخير الدّين لمدينة جيجل، رغم تعرّضهما
للحصار من قِبل الحفصيين في تونس، وسالم التّومي حاكم مدينة الجزائر، الذي ارتكز
حكمهما على دعم الإسبان لهما، فضلا عن قوّة الإسبان وفرسان القدّيس يوحنا التي
حاصرتهما من البحر.
وقد أرسل الأخوان إلى السّلطان سليم الأول
مجموعة من النّفائس والغنائم التي استوليَا عليها بعد فتح مدينة جيجل من
الجنَويين، فقبلها السلطان وردّ عليهما بإرسال 14 سفينة حربية مجهّزة بالعتاد
والجنود، وكان هذا الرّد من السّلطان العثماني بمثابة الاعتراف بهما، وتأكيد
العلاقة الرّسمية مع الخلافة العثمانية.
دفع تحريرُ مدينة جيجل بالمتحمّسين إلى الضّغط
من أجل تحرير كامل السّواحل الجزائرية من المسيحيين الأجانب، واستنجد علماءُ
وأعيانُ بجاية بالأخوين عروج وخير الدّين -مرّة أخرى- لتحريرها من الإسبان
فلَبّيَا الدعوة، وتمكّنَا من تحريرها سنة 1516م.
كلّ ذلك شجّعهما على الاتجاه بعدها نحو مدينة
الجزائر سنة 1516م بطلب من شيوخها وأعيانها الذين استاؤوا من حاكمها سالم التّومي
الذي تحالف مع الإسبان ومكّنهم من احتلالها، فهزم عروجُ الإسبان وقتل حاكمها
التومي ونُصِّب سلطانا عليها، مؤسِّسا بذلك لإيالة الجزائر، وترسيم العلاقة
بالخلافة العثمانية.
وفي سنة 1517م اتجهَا غربا لتحرير وهران من
الاحتلال الإسباني، بعد أن تلاشت مملكة الزّيانيين تحت ضربات الإسبان، ثم اتجهَا
نحو تلمسان بطلب من مشايخها وأعيانها، بعد أن عقد السّلطان الزّياني معاهدةَ
التبعية مع المحتلّين الإسبان، فطلب عروج منه نقض المعاهدة فرفض، فاستفتى العلماءَ
فأفتوه بوجوب إعدامه فأعدَمه.
وفي سنة 1518م جاء ملك إسبانيا شارل الخامس –
وكلّ أوروبا معه- بجيش كبير، ونزلوا بوهران وتحالفوا مع بعض الزّيانيين، وحاصروا
بابا عروج بقلعة تلمسان الدّاخلية لمدة 06 أشهر، إلى أن استُشهد بمنطقة المالح
بالقرب من عين تيموشنت، ولم يتجاوز عمره 44 سنة، وقُطعت رأسُه وأُخِذت إلى
إسبانيا، كما أخذوا ثيابه التي كانت من القطيفة الحمراء المزركشة بالذهب، وسلّموها
إلى كنيسة القديس جيروم بقرطبة، فصنع منها رجال الدّين هناك شعارا يسمّى: شارة
بربروس.
هزّت كارثة تلمسان بقوّة ضمائر الجزائريين،
واجتمع فيها من الشيوخ والزّعماء لمناقشة الموقف، وقرّروا أن يُسنِدوا إلى خير
الدّين واجب إمارة الجهاد بعد أخيه بابا عروج فوافق، على أن يتمّ ربط الجزائر
بالدولة العثمانية، وتمّ له ذلك سنة 1518م، وعُيِّن حاكما، ولُقِّب: (باي
البايات)، وأدخلها ضمن حكم الخلافة العثمانية التي كانت القوّة الإسلامية العالمية
الوحيدة في ذلك الوقت، بعد سيطرتها على الحرمين ومصر والشام واليمن بين سنتي 1516
و1517م، وبذلك توحّدت الجزائر سياسيّا، وأصبحت كيانا موحّدا، وأصبحت تُعرف بهذا
الاسم، ولم يعد مُقتصرا على مدينة الجزائر فقط، بل شمل هذا الكيان السياسي الحدود
الجغرافية للجزائر المتعارف عليها إلى الآن.
يقول الدكتور ناصر الدين سعيدوني سنة 1984م في
مقدّمة كتابه: الجزائر في التاريخ 4 العهد العثماني، (ص 11، 12): “إنّ الوضع
الاقتصادي والاجتماعي للجزائر خلال العهد العثماني يعكس بصدق واقع البلاد
الجزائرية، وما كانت تمتاز به الأمّة الجزائرية من كيان متميّز، وما كانت تتّصف به
حكومة الدّايات من مقوّمات السّيادة وشروط الاستقلال على امتداد التراب الوطني
الجزائري بحدوده الحالية”.
وبذلك تكون مدينة جيجل بوابة لإعادة بعث
الدولة الجزائرية الحديثة عبر الفتح العثماني لها، وطرد الاحتلال الصّليبي المسيحي
الإيطالي والإسباني منها.
(عن صحيفة الشروق الجزائرية)