قضايا وآراء

زيارة البابا فرانسيس.. وأنين الوجع الأول

1300x600

في قصة "الإخوة كرامزوف" للكاتب الروسي دوستويفسكي (18821-1881م)، يتخيل إيفان كرامزوف (بطل الرواية) أن السيد المسيح عاد إلى الأرض وأخذ في وعظ الشعب وتبشيره بالملكوت، فأقبلوا عليه واستمعوا له وأوشكوا أن ينفضوا عن وعاظهم ودعاتهم المعهودين، فخاف هؤلاء على مكانتهم وأوعزوا إلى رئيس محكمة التفتيش فاعتقله، ليس هذا فقط، بل وتوعده بالمحاكمة والحكم عليه لتضليله الشعب والانحراف به! وبالفعل يعتقله ويودعه حجرة السجناء، ويأتي المساء فيذهب "المفتش الأعظم" إلى الحجرة ويقول للرسول الكريم: إنني أعرفك ولا أجهلك ولهذا حبستك، لماذا جئت إلى هنا؟ لماذا تعوقنا وتلقى العثرات في سبيلنا؟ لماذا تسوم الإنسان من جديد أن يفتح عينيه، وأن يتطلع إلى المعرفة، وأن يختار لنفسه ما يشاء؟ دع هذا الإنسان لنا وعد من حيث أتيت وإلا أسلمناك لهذا الإنسان غدا، وحاسبناك بآياتك وأخذناك بمعجزاتك. ثم يقول كرامازوف الذي يتخيل هذا الحوار: إن السيد المسيح لم ينبس بكلمة ولم يقابل هذا الوعيد وهذا العداء بعبوس أو ازورار، وتقدم إلى المفتش الأعظم وقبّله وخرج إلى ظلام المدينة وغاب عن الأنظار.

بدأ البابا فرنسيس (85 عاما) الحبر الأعظم الـ266 للكنيسة الكاثوليكية زيارة الجمعة الماضية (5 آذار/ مارس) للعراق. الزيارة نوعية كما يقولون وتم الإعداد لها إعدادا دقيقا، في توقيتها وجدولها وأجندة لقاءاتها. مسيحيو العراق تعرضوا لمحنة شديدة طوال العقدين الماضيين سببها جنرال أمريكي من ولاية تكساس اسمه تومي فرانكس (66 عاما)، قام في ليلة من أسود ليالي التاريخ الحديث في الشرق الأوسط بقيادة جيش بلاده لغزو العراق في آذار/ مارس 2003م.

الزيارة نوعية كما يقولون وتم الإعداد لها إعدادا دقيقا، في توقيتها وجدولها وأجندة لقاءاتها. مسيحيو العراق تعرضوا لمحنة شديدة طوال العقدين الماضيين سببها جنرال أمريكي من ولاية تكساس اسمه تومي فرانكس

هل اختار الحبر الأعظم توقيت الزيارة في نفس الشهر ليضمد جرح الأمة في العراق؟ هيهات هيهات، وإذا كان نيافته يحط القدم الأولى له في العراق في شهر آذار/ مارس 2021م، رغم زياراته العديدة لدول اسلامية وعربية منذ تولية منصبه عام 2013م، أفما تجدر به الإشارة الواضحة إلى جريمة وإجرام من فتح على العراق هذا الجحيم المستعر، جحيم الطائفية المشتعلة بالعداء والخصومة والتي عانى منها مسيحيو العراق معاناة لم يعانوها من القرن الثاني الميلادي! ويكفي أن نعلم أن العراق الآن لا يوجد به أكثر من 200 ألف مسيحي من أصل مليون مسيحي، من الـ14 طائفة التي عاشت القرون المديدة متناغمة في وحدة وتآلف؛ في ظل حضارة إسلامية تعتبر إكرام وصون من يختلفون معها في الاعتقاد والدين عبادة تتعبد بها إلى الله.

تومي فرانكس لم يفتح بوابة الجحيم هذه فقط بألاعيب بول بريمر (80 عاما)، رئيس الإدارة المدنية وقتها، ولكن ما هو أحط في تاريخ الاستعمارات والاحتلالات كان "محو الدولة" وليس فقط هدمها.. كل الوزارات والهيئات، كل أرشيف وسجل، كل متحف ومزار.

الجنرال ماك آرثر (1880-1964م) الحاكم العسكرى لليابان من 1945 إلى 1951م؛ حين دخل اليابان غازيا ومحتلا حافظ ليس على الدولة ومقوماتها فقط، بل على الإمبراطور والنظام الإمبراطوري نفسه. ما فعله تومي في العراق كان بقصد ينظر به إلى الزمن القادم، وما فعله ماك في اليابان كان بقصد ينظر به إلى الزمن القادم.. وليس هذا موضوعنا الآن على أي حال.

زيارة البابا لن يكون لها صداها التاريخي دون الإشارة الواضحة إلى من تسبب في قتل وتهجير المسيحيين العرب من العراق، رغم عيشهم واستمرارهم في تواصل لا ينقطع طوال قرون، هم وكنائسهم ومزاراتهم، ولنا أن نعلم أن آثار كنيسة عين تمر بكربلاء من أقدم كنائس العالم على الإطلاق.
زيارة البابا لن يكون لها صداها التاريخي دون الإشارة الواضحة إلى من تسبب في قتل وتهجير المسيحيين العرب من العراق، رغم عيشهم واستمرارهم في تواصل لا ينقطع طوال قرون

المكانة الكبيرة للمسيحيين العرب في سرديات الحضارة الإسلامية ودورهم العظيم في البناء الحضاري لتاريخ الشرق شاهد قائم على ما بينهم وما بين الإسلام والمسلمين من قوة الرابطة. ولنا أن ننتذكر أن الشرق الأوسط لم يستورد المسيحية من أوروبا، ولا حتى من بلاد البابا فرانسيس في أمريكا اللاتينية.. لقد خرجت المسيحية للدنيا من هنا، من الشرق.. في الشرق جرى تدوين الأناجيل، في القدس تأسست الكنيسة الأولى -أم الكنائس– عام 33م، وكذلك الأديرة والرهبانيات الأولى، وفي مصر والعراق والجزيرة العربية سقط الشهداء المسيحيون الأوائل. هنا جرى شرح وتفسير التعاليم المسيحية والأناجيل، ووضع اللبنات الأولى للاهوت المسيحي وللنظام الكنسي.

المسيحية ليست نبتة غريبة في الشرق، ولا دخيلة ولا طارئة أو عابرة أو مؤقتة ولن تكون. هي بنت ونتاج أصيل لهذا الشرق، هنا جغرافيتها وتاريخها، ومن هنا جرى الانطلاق لتبشير الأمم الوثنية بها في العالم بأسره. بولس الرسول (الذي يجلس البابا فرانسيس على كرسيه الرسولي الآن) اختبأ من البيزنطيين عند الأنباط.

مملكة الغساسنة - المملكة العربية المسيحية - الأولى والأكبر والأكثر تمدناً وحضارة حاربتها روما المسيحية طويلا. وعلى فكرة: الإمبراطور قسطنطين لم يكن أول أمبراطور روماني يعتنق المسيحية (عام 312م)، إذ اعتنقها قبله سراً الإمبراطور "فيليبوس" المعروف بفيليب العربي (204-249م).

عروبة المسيحيين العرب لا يستطيع أن يجادل حولها أحد أيا من كان، فهم من ساند الفتح الإسلامي ضد الروم معتبرين الفاتحين العرب أبناء قوميتهم، وحين شنّت أوروبا (المسيحية) من سنة 1096 إلى سنة 1270 حملات لاحتلال الشرق العربي حارب العرب المسيحيون إلى جانب المسلمين ضدها وضد بابويتها وكنيستها في روما، الداعية والراعية للحملات. هكذا تصرفوا أيضا في التاريخ الحديث مع الاستعمار الغربي (المسيحي) للشرق الأوسط.

وأخيرا.. عندما قدم يهود أورشليم السيد المسيح إلى بيلاطس النبطي، الحاكم الروماني على المدينة، مطالبين بصلبه، أخذ يحاورهم في أمره. إذ كان يعلم أنهم يريدون إسلامه للموت حسدا من عند أنفسهم، فقال لهم: ماذا فعل يسوع الذي يدعى المسيح، فإني لا أجد علة في هذا الإنسان؟ قالوا: إنه يفسد الأمة، ويهيج الشعب، ويمنع أن تُعطى الجزية لقيصر. فقال لهم بيلاطس: إننا في العيد، وسنطلق واحداً من المحكومين، وليكن المسيح.. فتراكض يهود أورشليم كالخراف الضالة صائحين: لا..لا.. أطلق سراح باراباس، أما المسيح فاصلبه.

يقول إنجيل يوحنا إن باراباس كان لصاً، ويقول إنجيل لوقا إنه كان قاتلا وينشر الفتنة بين الناس. وهكذا سار النموذج عبر تاريخ العلاقة بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الشرعية والفوضى؛ مع المسيح الذي يمثل العدل والحق والخير والجمال والسلام والتسامح، أم مع باراباس الذي يمثل القتل والسرقة والظلم والفوضى والغوغائية وسيادة الباطل؟

هو عين ما فعلته أمريكا وتفعله في العراق، وفي مسيحيي العراق وفي مسلمي العراق.


twitter.com/helhamamy