الكتاب: أئمة الفقه التسعة
الكاتب: عبدالرحمن الشرقاوي
الناشر: دار الشروق، 2020
تواصل الكاتبة المصرية رباب يحيى عرض كتاب "أئمة الفقه التسعة" للكاتب المصري عبد الرحمن الشرقاوي، وتسلط الضوء في الجزء الثاني على مسيرة أبي حنيفة النعمان، وأنس بن مالك، والليث بن سعد.
أبو حنيفة النعمان.. الإمام الشهيد:
ولد أبو حنيفة النعمان بالكوفة سنة 80 هـ، من أسرة فارسية، وسمي النعمان تيمنا بأحد ملوك الفرس، من أجل ذلك كبر على المتعصبين العرب أن يبرز فيهم فقيه غير عربي الأصل، فحاول بعض محبيه أن يفتعل له نسبا عربيا، لكنه كان لا يحفل بهذا كله، فقد كان يعرف أن الإسلام قد سوى بين الجميع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم احتضن سلمان الفارسي وبلال الحبشي، وكانا من خيرة الصحابة.
كان أبو حنيفة يقاوم كما قاوم أستاذه وصديقه الإمام جعفر الصادق من قبل بدعة تزيين التقشف والانصراف عن هموم الحياة، وترك الأمر كله لطبقة بعينها تملك وتستغل وتحكم وتستبد. على أن ميل أبي حنيفة إلى الأئمة من آل البيت، أوغر عليه صدور الأمويين والعباسيين على السواء. وكان يناظر الفقهاء ببديهة حاضرة، ويحسن الخلاص من المأزق ويلزم المُناظر الحجة، وكم من مرة خرج من المأزق بسرعة بديهته وسعة حيلته وقوة حجته.
من ذلك، ما ذكره المؤلف في (صفحة 59): "اقتحم عليه الحلقة في يوم عدد من الخوارج على رأسهم قائدهم وفقيههم، وكان الخوارج يقتلون مخالفيهم، وكانوا يقتلون من أقر علي بن أبي طالب على التحكيم، وكان أبو حنيفة يؤيد عليا ويقره على التحكيم، وخيره شيخ الخوارج بين التوبة أو القتل، فسأله أبو حنيفة أن يناظروه، فرضي، فقال له: "فإن اختلفنا"؟ قال الخارجي: نحكم بيننا رجلا. فضحك أبو حنيفة قائلا: أنت بهذا تجيز التحكيم. فانصرف عنه الخوارج وتركوه سالما".
رفض أبو حنيفة أن يقبل المناصب، عرض عليه الأمويون منصب القاضي، فرفضه فسجنوه وعذبوه في السجن، وظلوا يضربونه بالسياط حتى ورم رأسه، ومع ذلك فلم يقبل المنصب؛ لأنه كان يرى أن تحمل المسؤولية في عهد يعدّ هو حاكميه ظالمين مغتصبين، إنما هو مشاركة في الظلم وإقرار للاغتصاب
قام فقه الإمام أبي حنيفة على احترام حرية الإرادة، ذلك أن أفدح ضرر يصيب الإنسان هو تقييد حريته أو مصادرتها، وكل أحكامه وآرائه قائمة على أن هذه الحرية يجب صيانتها شرعا، فأفتى بأن للبالغة أن تزوج نفسها، وهي حرة في اختيار زوجها، كما أفتى بعدم جواز الحجر على أحد؛ لأن في الحجر إهدارا للآدمية وسحقا للإرادة، ثم أفتى بتحريم الخروج لقتال المسلمين والفتك بهم، وبهذا صرف بعض قواد الجيش في عصره عن حرب العلويين وخصوم الحكام ومعارضي آرائهم.
يقول المؤلف في (صفحة 66): "رفض أبو حنيفة أن يقبل المناصب، عرض عليه الأمويون منصب القاضي، فرفضه فسجنوه وعذبوه في السجن، وظلوا يضربونه بالسياط حتى ورم رأسه، ومع ذلك فلم يقبل المنصب؛ لأنه كان يرى أن تحمل المسؤولية في عهد يعدّ هو حاكميه ظالمين مغتصبين، إنما هو مشاركة في الظلم وإقرار للإغتصاب. وساءت صحته في السجن، وبدأت الثورة تتجمع ضد الخليفة الأموي احتجاجا على ما يحدث لأبي حنيفة، فأطلق سراحه، وأقام بالحجاز حتى سقطت الدولة الأموية، فعاد إلى موطنه".
لكن العباسيين لم يتركوه بعد أن رفض كل هداياهم، كما رفض هدايا الأمويين من قبل، فبعد أن فرغ الخليفة من بناء بغداد، وأقام فيها، حرص على أن يجعل أكبر فقهاء العراق قاضي القضاة فيها، وكان أبو حنيفة قد أصبح أكبر الفقهاء بالعراق، حتى سماه أتباعه ومريدوه: الإمام الأعظم، ولكن الإمام صمم على الرفض.
وقد أفتى أبو حنيفة بأن الوزير لا تصح شهادته؛ لأنه يقول للخليفة أنا عبدك، "فإن صدق فهو عبد ولا شهادة له، وإن كذب فلا شهادة لكاذب".
وأخذ الوزير الأول يكيد عند الخليفة لأبي حنيفة، وانتهز فرصة خروج أهل الموصل على الخليفة، وكانوا قد شرطوا على أنفسهم إن هم خرجوا على الخليفة أن تباح دماؤهم وأموالهم، واقترح الوزير الأول على الخليفة الذي أعد جيشا للفتك بهم، أن يدعو أبا حنيفة ويسأله عن حكم الشرع في أهل الموصل، فأفتى أبو حنيفة بأن الخليفة لا يحق له الفتك بأهل الموصل؛ لأنهم بإباحتهم أرواحهم وأموالهم إنما أباحوا ما لا يملكون، وسأل: "لو أن امرأة أباحت نفسها بغير عقد زواج، أتحل لمن وهبته نفسها؟ فقال الخليفة: "لا"، فطلب الإمام أبو حنيفة منه أن يكف عن أهل الموصل فدمهم حرام عليه، وأن يوجه الجيش إلى حماية الثغور، أو إلى فتح جديد لنشر الإسلام، بدلا من أن يضرب به المسلمين.
وعن معركته الأخيرة يقول المؤلف في (صفحة 69): "سأله الخليفة عن سبب رفض هداياه؟ فقال له أبو حنيفة؛ إنها من بيت مال المسلمين، ولا حق في بيت المال إلا للمقاتلين أو الفقراء أو العاملين في الدولة بأجر، وهو ليس واحدا من هؤلاء، فأمر الخليفة بحبسه، وبضربه بالسياط حتى يقبل منصب قاضي قضاة بغداد، وها هو ذا شيخ في السبعين أثقلته المعارك والدسائس والهموم، ومكابدة الفقه والعلم، ها هو ذا يُضرب بالسياط في قبو سجن مظلم، ورسل الخليفة يعرضون عليه هدايا الخليفة ومنصب القضاء والإفتاء وهو يرفض. وظل في سجنه يعرضون عليه الجاه والمنصب والمال فيأبى ويعذب من جديد، وتدهورت صحته، وخشي معذبوه أن يخرج فيروي للناس ما قاسى في السجن، فيثور الناس، وقرروا أن يتخلصوا منه فدسوا له السم، وأخرجوه وهو يعاني سكرات الموت، وحين شعر بأنها النهاية، أوصى بأن يُدفن في أرض طيبة لم يغتصبها الخليفة أو أحد رجاله".
هكذا مات بطل الفكر الشجاع شهيدا لحرية الرأي، الذي عُرف في السنوات الأخيرة من حياته باسم الإمام الأعظم.
مالك بن أنس.. عاشق المدينة وإمام الحرمين
عاش في المدينة المنورة طيلة حياته منذ ولد فيها سنة 93 هـ إلى أن توفي على ثراها آخر الدهر، لم يبرحها قط إلا لحج أو عمرة، كان الإمام مالك لا يحب أن يخوض غمرات الصراع السياسي، وكانت المدينة بالقياس إلى غيرها من بلاد المسلمين، أكثرها بعدا عن الثورات والفتن ومناهضة الحكام.
يقول المؤلف في (صفحة 75): "لما بلغ أوج شبابه، وجد نفسه عاجزا عن توفير ما يكفي أهل بيته إلا أن يضحي بطلب العلم، فانفجرت أولى صرخات اجتهاده وناشد الحاكمين أن يمكنوا أهل العلم من التفرغ للعلم، وأن يجروا عليهم رواتب تكفل لهم الحياة الكريمة، غير أن أحدا لم يلتفت إليه، فقد كانت الدولة الأموية التي عاش شبابه في ظلها مشغولة بتثبيت أركانها، وبتأليف قلوب شيوخ أهل العلم دون شبابهم. التقى به في تلك الفترة طالب علم شاب من أهل مصر هو الليث بن سعد، ونشأت بينهما علاقة احترام متبادل. كان الليث واسع الغنى، فمنح صاحبه مالا كثيرا وأقسم عليه أن يقبله، وعاد الليث إلى وطنه مصر وظل بها يصل صاحبه مالك بن أنس بالهدايا وبالمال، حتى أصلح الله حال مالك ووجد من الخلفاء من يستجيب إلى ندائه المتصل أن تجرى الرواتب على أهل العلم".
آثر الإمام مالك الحياد وترك السياسة، لكنه على الرغم من ذلك، لم يعش بمنجاة من بطش الذين أفتى بوجوب طاعتهم من الحكام مهما يظلمون.
هكذا عاش الإمام مالك يستمتع بزينة الحياة الدنيا التي أحلها الله لعباده والطيبات من الرزق، نائيا بنفسه عن السياسة، راغبا عن معارضة الحكام ولو كانوا ظالمين، حتى لقد أفتى بوجوب الطاعة للحاكم حتى إن كان ظالما، ولا ينبغي الخروج عليه بالفتنة، بل يسعى إلى تغييره بالموعظة الحسنة وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى هذا سار أيام الأمويين، ثم في دولة العباسيين، يحاول جهده أن يكون على الحياد.
آثر الحياد وترك السياسة، لكنه على الرغم من ذلك، لم يعش بمنجاة من بطش الذين أفتى بوجوب طاعتهم من الحكام مهما يظلمون.
يقول المؤلف في (صفحة 84): "وهو يشرح في المسجد الحديث الشريف: (ليس على مستكره يمين)، ويبين للناس أن من طلق مُكرها لا يقع منه طلاق، إذ بأحد أحفاد الحسن بن علي وهو محمد النفس الزكية، يثور على الخليفة المنصور؛ لأنه أخذ البيعة لنفسه قسرا فبايعه الناس مستكرهين. وإذ ببعض الناس في المدينة ينتقض بيعته للمنصور وينضم لمحمد النفس الزكية؛ إعمالا لهذا الحديث وتطبيقا للسنة. وأرسل والي المدينة إلى الإمام مالك أن يكف عن الكلام في هذا الحديث، وأن يكتمه عن الناس؛ لأنه يحرضهم على الثورة ونقض البيعة، ولكن الإمام مالك أبى أن يكتم هذا العلم، فكاتم العلم ملعون، وظل يفسر الحديث غير آبه بتهديد والي المدينة، وأطلق الحكم الذي جاء به الحديث على كل صور الإكراه في المعاملات والحياة، فأمر والي المدينة رجاله فضربوا مالكا أسواطا، ثم جذبوه غليظا من يده، وجروه منها فانخلع كتفه، ثم أعادوه إلى داره وألزموه الإقامة بها، لا يخرج منها حتى للصلاة ولا يلقى فيها أحدا".
قمع المنصور ثورة النفس الزكية، وقتله هو وآل بيته وصحبه وأتباعه، واستقر له الأمر، فاستقدم المنصور مالكا ليسترضيه، ولكن مالكا لم يقم ولم يبرح محبسه في منزله، فأمر المنصور والي المدينة فأطلق سراح مالك، ثم جاء المنصور بنفسه من العراق إلى الحجاز في موسم الحج، واستقبل الإمام مالك بن أنس ووهبه المنصور مالا كثيرا وهدايا ثمينة، وطلب منه أن يضع كتابا يتضمن أحاديث الرسول وأقضية الصحابة وآثارهم، ليكون قانونا تطبقه الدولة في كل أقطارها بدلا من ترك الأمر لخلافات المجتهدين والقضاة والفقهاء، واقتنع مالك برأي الخليفة وانقطع الإمام عاكفا على إعداد الكتاب، وأخذ يكتب وينقح ويحذف أضعاف ما يثبت، وينقح ما يثبت وسمّى كتابه "الموطأ"، والموطأ لغة هو المنقَّح. وقد أنجزه مالك بعد أن قضى المنصور وجاء بعده خليفة وخليفة، ثم جاء هارون الرشيد فأراد أن يعلق كتاب "الموطأ" في الكعبة، لكن الإمام مالك رفض.
الليث بن سعد.. فقيه أهل مصر والنوبة
ولد الليث بن سعد في قرية قلقشندة، مركز طوخ بمحافظة القليوبية على مقربة من عاصمة مصر عام 93 هـ، كان أبوه واسع الغنى، يملك في قلقشندة وما حولها ضيعة خصبة، تنتج خير الثمرات من زرع وفاكهة، لديه المال والبنون، زينة الحياة الدنيا، وعائلة الليث مصرية تنحدر من المصريين القدماء، وقد دخلت في الإسلام وتعلمت اللغة العربية منذ الفتح الإسلامي.
كانت اللغة العربية لم تنتشر في مصر بعد، فاللغة القبطية هي السائدة، وكان الليث يتقن اللغتين: العربية لغة الإسلام، والقبطية لغة آبائه الأولين، وكان إلى هذا يتقن اليونانية واللاتينية، وهما من لغات الميراث الحضاري.
أدرك الليث أن النصوص ليست ظاهرا فحسب، ليست كلمات بل هي روح، لها دلالات وفحوى وعلل، وإذن، فالذي يتقن اللغة العربية ويتقن معرفة أسرار بلاغتها حري بأن يفهم النصوص ظاهرها وروحها، كما أن فهم الأحاديث النبوية يقتضي أيضا فهم أسرار اللغة العربية وروحها، من أجل ذلك عكف الليث ـ بعد أن حفظ القرآن والأحاديث ـ على حفظ الشعر العربي الذي قيل قبل نزول الوحي بالقرآن وخلال نزوله، ليدرك أسرار اللغة.
كان الليث كلما سمع عن فقيه في أي بلد، شد إليه الرحال، حتى عندما تقدمت به السن، فقد سافر بعد الستين إلى العراق ينشد العلم عند فقيه أصغر منه سنا، وظل يصل مالك بن أنس بمائة دينار كل عام ـ كما يقول المؤلف ـ والدينار في ذلك الزمان كان يكفي لكسوة رجل أو لشراء دابة، ولم ينقطع عطاء الليث لمالك، حتى أصاب مالك عطاء الخلفاء وأصبح ثريا.
يقول المؤلف في (صفحة 107): "كانت له ضيعة بالفرما (قرب بور سعيد الحالية) يأتيه خراجها، فلا يدخله داره، بل يجلس أمام أحد أبوابها العشرين وقد جعل المال في صرر يوزعها جميعا صرة بعد صرة، وكان لا يتصدق بأقل من خمسين دينارا؛ ذلك أنه كان يحسن استثمار أرضه الواسعة الخصبة، حتى لقد كانت تدر عليه نحو عشرين ألف دينار كل عام".
نادى الليث بن سعد بأنه "ليس من حق أحد أن يحتفظ بمال إلا إذا بلغ الناس حد الكفاية، والحكام والولاة مسؤولون أمام الله عن أن يوفروا للناس جميعا حد الكفاية لا حد الكفاف".
كان يحب أن يعيش سعيدا، ويحب أن يسعد الذين يعيشون من حوله، من أجل ذلك ينفق على الآخرين ليسعدهم، ويرى أن صاحب المال مستخلف فيه؛ لينفقه فيما يرضي الله ورسوله وفيما يسعد الناس.
من أجل ذلك، نادى الليث بن سعد بأنه "ليس من حق أحد أن يحتفظ بمال إلا إذا بلغ الناس حد الكفاية، والحكام والولاة مسؤولون أمام الله عن أن يوفروا للناس جميعا حد الكفاية لا حد الكفاف".
وحد الكفاف هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب، أما حد الكفاية فهو ما يكفي كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب، والمسكن الصالح المريح، والدواب التي تحملهم، والعلم الذي ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم، وكل ما يوفر الحياة المريحة الكريمة للإنسان.
وقد سمع به الخليفة العباسي المنصور، فاستدعاه ليقابله في بيت المقدس، وكان للمنصور ولع بالعلم والأدب، وناظره المنصور فأعجب به، وعرض أن يوليه مصر، لكن الليث يريد أن يحيا حياته بعيدا عن هموم المسؤولية السياسية متفرغا للعلم، فتعلل للخليفة بأنه لا يصلح لهذا. فأصدر الخليفة أمرا وأعلنه على الملأ أن الليث بن سعد هو أعلم رجال عصره بالشريعة واللغة والشعر، وهو أكثرهم تحريا للعدل وتوقيا للشبهات تحرجا وعفة، وهو من أجل ذلك ينصبه كبيرا للديار المصرية ورئيسها، بحيث لا يقضى في مصر شيء إلا بمشورته، ويصبح الوالي والقاضي تحت أمر مشورته. وقد أحسن الليث بن سعد استخدام هذه الثقة لإفادة الرعية، فما كان يفرض رأيه على الوالي أو القاضي مهما يختلف معهما، ولكنه إن وجد في أوامر الوالي أو قضاء القاضي ما يظلم أحدا، كتب إلى الخليفة فيأخذ برأي الليث.
كان خلاف الليث والإمام مالك بن أنس في الفقه مثالا للحرص على الحقيقة وشجاعة العالم في مواجهة الخطأ، وقدرته على الرجوع إلى الحق.
من هذه المسائل، أن مالكا كان يرى أن الجنين يستقر في بطن أمه ثلاث سنوات، والليث يرى أن هذا مخالف للعقل والعلم والطب، وليس في الشرع ما يخالف العقل، ورأي مالك هذا يفتح باب الفساد للنساء اللاتي يغيب عنهن الزوج بالطلاق أو الوفاة أو السفر أو لأي سبب آخر. وتقبل مالك نقد الليث ولم يعد يفتي بهذا.
ومن هذه المسائل أيضا، أن مالك بن أنس كان يرى أن ديون العباد في التركة أولى بالأداء من دين الله كالزكاة، فحق العباد أولى بالرعاية من حق الله، دفعا للمضرة، أما الله تعالى فهو غفور رحيم، والليث يرى أن الزكاة واجب أولى بالأداء؛ لأنها حق الله والعباد معا.
ومنها الكفاءة في الزواج، فمالك يعتد بالنسب، فلا يصح زواج القرشي بغير القرشية أو العربي بغير العربية، أما الليث فالمعول عنده على الإسلام، فكل مسلم كفء لكل مسلمة، والقول بغير ذلك يخالف القرآن؛ "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ويخالف الحديث: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
ومنها أن الإمام مالك بن أنس أجاز ضرب المتهم بالسرقة للحصول على اعترافه، حماية للأموال، مما يحقق مصلحة عامة هي أولى بالرعاية من مصلحة المضروب، وتساءل الليث فإذا ثبت أن المتهم بريء؟ إن حماية البريء أولى من عقاب المذنب، ولأن يفلت عشرة مذنبين خير من ظلم بريء واحد، ثم إن الضرب في ذاته عقوبة لا يقضى بها إلا بعد ثبوت الجريمة، وإلا فالضارب والآمر بالضرب ومن أفتى بجوازه كلهم مسؤولون.
ظل الليث بن سعد يعلم الناس بجامع عمرو، أو في داره بالفسطاط، أو بقريته قلقشندة، ويرعى أهل العلم ويتصدق على ذوي الحاجات، ويسدد الدين عمن يثقله الدين، ويعمر البيوت، ويعين الآخرين، حتى توفاه الله عام 175 هـ. وقد بكاه المصريون أحر بكاء، ولكنهم أضاعوه. قال عنه الإمام الشافعي: "ما فاتني أحد فأسفت عليه كالليث بن سعد، الليث أفقه من مالك، إلا أن قومه أضاعوه، وتلاميذه لم يقوموا به".
اقرأ أيضا: قراءة معاصرة في إرث الإمامين زيد بن علي وجعفر الصادق
كتاب في مكونات الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري
ماذا بقي من فتاوى ابن تيمية في الباطنية وزيارة القبور؟
قوة مصر الناعمة.. قراءة في مقومات الازدهار وعوامل التراجع