نشرت مجلة "نيو لاينز" الأمريكية تقريرا، سلطت من خلاله الضوء على نظرية مؤامرة "الاستبدال العظيم" التي كانت الدافع الرئيسي لارتكاب أفراد ينتمون لليمين المتطرف أفظع العمليات الإرهابية، بدءا من هجوم كرايستشرش، مرورا بحادث إطلاق النار في إل باسو، وصولا إلى البلقان، حيث ألهمت القوميين الصرب لإشعال فتيل الإبادة الجماعية في المنطقة.
تطرقت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إلى الإبادة الجماعية المروعة التي ارتكبت في جيب سربرنيتسا في شرق البوسنة والهرسك في 11 تموز/ يوليو 1995 على يد القوات القومية الصربية بقيادة راتكو ملاديتش.
وأوضحت المجلة أن مشروع ملاديتش المعروف في أوساط اليمين المتطرف الغربي قائم على نظرية "الاستبدال العظيم"، التي تتمحور حول فكرة أن المسلمين يقودون حربا ديموغرافية ضد الأوروبيين المسيحيين البيض من خلال التوسع لنشر حضارتهم في المنطقة. لذلك، توجب مواجهة "الغزاة" للدفاع عن "الحضارة الغربية".
على الرغم من أن ملاديتش ورفاقه لم يستخدموا مصطلح "الاستبدال العظيم"، إلا أن حملتهم المروعة والإبادة الجماعية التي ارتكبت في حق المجتمع البوسني في البوسنة (وفيما بعد الألبان في كوسوفو)، والروايات التي تلتها أدت إلى إثارة حماس اليمين المتطرف في الغرب. ويبقى ملاديتش وجماعته أول من رسّخوا عقيدة "الاستبدال العظيم" المسؤولة عن إراقة دماء الأبرياء.
اليوم، أصبحت الإبادة الجماعية في البوسنة ركيزة خطابية ومفاهيمية لليمين المتطرف الغربي، ومثالا على أنواع الأنظمة والسياسات التي يتبناها ويتطلع إلى تكرارها. وعند تفكيك جذور هذا الاقتران، تبرز حقيقة أكثر إثارة للقلق: ماضي البوسنة القريب - تفكك يوغوسلافيا والحرب التي تلت ذلك وما صاحبها من إبادة جماعية - هو ما يتخيله العديد من معاصري اليمين المتطرف الغربي، ويطمحون إلى إعادة تطبيقه في مجتمعاتهم.
ذكرت المجلة أن خطاب ملاديتش في سريبرينيتسا أشار إلى أحداث الانتفاضة الصربية الأولى (1804-1813)، التي سعى من خلالها قادة الدولة الصربية الناشئة إلى الإطاحة بالداهيجاس - المنشقين الإنكشاريين الذين تولوا السلطة في سنجق من سميديريفو. حسب الفكر القومي الصربي، كان النضال ضد الداهيجاس يشير إلى ولادة جديدة للأمة الصربية، التي قضى العثمانيون على كيانها وحكمها الذاتي في القرن الخامس عشر في جنوب شرق أوروبا.
كانت معركة كوسوفو في سنة 1389 -وهو عبارة عن صدام دموي غير حاسم بين العثمانيين الغزاة وتحالف اللوردات الصرب والبوسنيين والكروات والألبان- علامة على الموت المجازي للدولة الصربية في العصور الوسطى. كان الأمير لازار، الذي قاد القوات الصربية، والفارس ميلوس أوبيليتش الذي قيل إنه قتل مراد الأول في ساحة المعركة (لكنه قد يكون في الواقع شخصية أسطورية تم اختراعها بعد الواقعة) أشبه بالمسيح المنقذ، وتحولوا إلى أبطال شعبيين ضحوا بأنفسهم من أجل الحفاظ على الشعب الصربي ودولتهم.
في القرن التاسع عشر، تحققت نبوءة القيام الثاني للنظام السياسي الصربي عندما تراجعت السيطرة العثمانية على البلقان، وظهرت دولة صربية حديثة بدأت في التنافس بسرعة على السيادة السياسية والعسكرية في المنطقة. لكن مشكلة القوميين الصرب خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين كانت السكان المسلمين الأصليين في البلقان - وبشكل أساسي البوشناق في البوسنة والألبان في كوسوفو.
خلال الانتفاضة الصربية الأولى وبداية الحرب العالمية الأولى، ترسخ أسلوب "الأمر الواقع" لمعالجة هذه المشكلة، حيث قامت السلطات الصربية الجديدة بطرد وإبادة السكان المسلمين المحليين سواء كانوا سلاف أو ألبان أو أتراك. وقامت السلطات اليونانية والبلغارية والرومانية الجديدة باتباع نفس النهج. دفع ذلك مئات الآلاف من المسلمين إلى مغادرة المنطقة خلال هذه الفترة - وإعادة التوطين في تركيا الحديثة - هذا إلى جانب العدد الهائل من الضحايا الذين لقوا حتفهم في هذه المذابح.
قالت المجلة إن فظائع الإبادة الجماعية للأرمن، التي تزامنت مع نهاية الإمبراطورية العثمانية، تعتبر من بين أكثر الفترات دموية في التاريخ الأوروبي الحديث على الأرجح، وهو فصل مروع ومستمر للشعوب.
كان نظام الدولة الجديد الذي ظهر في جنوب شرق وشرق أوروبا في أعقاب العهد العثماني ضعيفا. كانت الأنظمة القومية الجديدة غير راضية بشكل دائم عن حدود أراضيها وكرست الجزء الأكبر من مواردها الضئيلة لافتعال الحرب بدلا من تطوير الاقتصادات المحلية أو المجتمعات المدنية. بحلول الوقت الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، كانت معظم المنطقة قد شهدت بالفعل سنتين مدمرتين من القتال والفظائع خلال حروب البلقان 1912-1914.
بعد سنة 1918، أدى التوحيد الموعود منذ فترة طويلة للسلاف الجنوبيين إلى ظهور مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين، وهو اتحاد وقع في شباك الأزمات والفئوية لدرجة أن تجربته القصيرة مع الديمقراطية البرلمانية استمرت بالكاد لعقد من الزمان قبل أن يتم إجهاضها من قبل الصرب الاستبداديين. كانت البلاد فعليا على شفا حرب أهلية مع غزو المحور لما كان يسمى آنذاك مملكة يوغوسلافيا.
استمرت الدولة اليوغوسلافية الثانية، التي شكلها الشيوعيون بقيادة جوزيف بروز تيتو بعد الحرب العالمية الثانية، ضعف مدة سابقتها، لكنها انهارت أيضا تحت وطأة العداء الاستبدادي والطائفي. مرة أخرى، تسبب النظام في بلغراد في إثارة القومية الصربية لتكوين "صربيا الكبرى" من رفات الاتحاد اليوغوسلافي.
إثر ذلك، قدم الشيوعي ميلوسوفيتش نفسه على أنه لازار الجديد، مشيرا إلى أساطير العصور الوسطى مع المظالم الطائفية التي تعود إلى القرن العشرين لإعادة توظيفها كأسلوب من أساليب الدعاية المعاصرة. امتدت الحروب الأربع اللاحقة التي شنها، في كل من سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة وكوسوفو، طوال عقد التسعينات بأكمله، بحصيلة قتلى وصلت إلى 150 ألف شخص.
لم تكن الإبادة الجماعية في البوسنة مجرد نتيجة ثانوية لمشروع الزعيم ميلوسوفيتش، بل هدفه الأساسي كانت إقامة ما يسمى الجمهورية الصربية في البوسنة والهرسك (وجمهورية كرايينا الصربية في كرواتيا) قائمة صراحة على الإبادة الجماعية للسكان غير الصربيين في هذه المناطق، حيث كان هؤلاء السكان في كثير من الحالات يشكلون الأغلبية في المنطقة المستهدفة.
كان الدافع الأساسي لسياسات ميلوسوفيتش في البوسنة، وحتى سياسات وكلائه، فرض التجانس العرقي من خلال العنف والإرهاب. وعلى الرغم من أن كلا من كاراديتش وميلوسوفيتش كان ينفي باستمرار الطبيعة الممنهجة للإبادة الجماعية، إلا أنهما لم ينكرا ضرورتها.
لقد كانا يؤمنان بضرورة إبادة البوشناق، مثل ألبان كوسوفو، من أوروبا المسيحية. كان الأمر شنيعا بالتأكيد، لكنهما كانا بمثابة فرسان الحصن الذين يحمون القارة بأكملها. وقد كان هذا الخطاب بارزا في الصحف الشعبية الصربية، حيث أفادت بأن صربيا قد استعادت بيزنطة، مهد الحضارة المسيحية، وانتقمت من الأتراك والمور والعالم الإسلامي بأسره.
منذ البداية، تغلغلت هذه الرواية في أجزاء من غرب المنطقة. ولم يتطرق الكاتب روبرت كابلان في كتابه "أشباح البلقان" الذي نُشر في سنة 1993 إلى الإبادة الجماعية في البوسنة، وإنما وصفها على أنها حتمية تاريخية. كانت صياغة كابلان تكوينية، حيث شكل بعمق وجهات نظر الرئيس الأمريكي الولايات آنذاك بيل كلينتون، الذي رفض (في البداية) إمكانية التدخل الأمريكي أو الدولي في الحرب.
كان المسؤولون البريطانيون والفرنسيون في ذلك الوقت أكثر وضوحا في تصريحاتهم للرئيس كلينتون، حيث أفادوا بأن الأحداث التي وقعت في البوسنة كانت "مؤلمة"، لكنها ساهمت أيضا في "استعادة أوروبا المسيحية". كانت مثل هذه المواقف منتشرة على نطاق واسع، ولا سيما في أوروبا. فعلى سبيل المثال، دافع الروائي والكاتب المسرحي النمساوي بيتر هاندكه بشكل صريح عن ميلوسوفيتش وجهوده الحربية. وبمجرد انتهاء الحرب البوسنية، قام هاندكه بجولة في ميادين القتال، واحتفل مع القتلة.
كان هاندكه ضيف الشرف في جنازة ميلوسيفيتش، وألقى خلالها خطاب التأبين بنفسه. ورغم تمييعه للقضية، فقد حصل هاندكه على جائزة نوبل للآداب في سنة 2019. وادعت مجلة "الماركسية الحية" التابعة للحزب الشيوعي الثوري، ومقرها المملكة المتحدة، أن الصور المأخوذة من معسكرات الاعتقال في ترنوبولجي وأومارسكا مُفبركة.
أشارت المجلة إلى أن إدارة بيل كلينتون تدخلت في النهاية وعلى مضض في الحرب، إلا أن الحكومات الأوروبية لم تحرك ساكنا حتى بعد مشاهدتها لعمليات القتل في سربرنيتسا. في أعقاب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، بدأت الخطابات التنقيحية والإنكارية حول البوسنة بالانتشار على نطاق واسع من خلال اليمين الغربي المتطرف الناشط حديثا.
تعيد الهجمات على مركز التجارة العالمي التوأم والبنتاغون صياغة طبيعة مشروع ميلوسوفيتش وكاراديتش، فقد أصبحت حرب نبؤة بالنسبة للرجعيين الغربيين، يقودها رجال أدركوا التهديد الحقيقي لـ"الإسلام المتشدد"، وبالتالي الحاجة إلى اندلاع صراع حقيقي بين الحضارات.
ذكرت المجلة أن سبب استقلال البوسنة العلماني إلى حد كبير، بقيادة تحالف متعدد الأعراق من البوسنيين من جميع الأعراق والأديان، بما في ذلك الصرب غير القوميين، لم يذكر في هذه الخطابات. وبحلول سنة 2010، أصبح إنكار الإبادة الجماعية البوسنية، وتمجيد مجرمي الحرب القوميين الصرب، عنصرا أساسيا في الخطابات الغربية اليمينية المتطرفة. وسرعان ما بدأت تظهر في بيانات الإرهابيين اليمينيين المتطرفين.
كان الإرهابي أندرس بريفيك، الذي نفذ هجمات في النرويج في سنة 2011، يذكر باستمرار الحروب اليوغوسلافية في بيانه المتطرف. كما كان إريك فرين، الذي نفذ هجوما في سنة 2014 على ثكنات شرطة ولاية بنسلفانيا، يرتدي زيا صربيا قوميا. بينما غطى برينتون تارانت، المحكوم عليه بالسجن المؤبد بعد أن نفذ هجوما على مسجد كرايستشيرش في سنة 2019، بنادقه وذخائره بأسماء شخصيات تاريخية صربية ومونتنغرية، وفتح بثا حيا على أغنية صربية قومية تمجّد الإبادة الجماعية لكراديتش من حرب البوسنة.
وعلى الرغم من أن منفذ الهجوم الإرهابي في مدينة إل باسو في سنة 2019 لم يستشهد بصور قومية صربية، إلا أن مصدر الإلهام الأساسي في بيانه تمحور حول تارانت ونظرية "الاستبدال العظيم"، حيث وجه غضبه إلى اللاتينيين والإسبان بدلا من المسلمين.
كانت الموضوعات القومية الصربية حاضرة في صفحات اليمين المتطرف على الإنترنت بشكل بارز. وبالنسبة للأشخاص الذين يرغبون في التعمق أكثر في المنتديات السرية لليمين المتطرف، فإنهم سيكتشفون بسهولة معرفتهم الوثيقة بالإبادة الجماعية في البوسنة، وجرائم الإبادة الجماعية الصربية. ونظرا لأن اليمين المتطرف الغربي يكتسب رأس مال سياسي في كل من أوروبا والولايات المتحدة، فمن المرجح أن يصبح اهتمامهم بالحروب في البوسنة وكوسوفو أكثر وضوحا.
إن التحول نحو سياسات الهوية المرتابة، والهوس الديموغرافي بين أحزاب اليمين الوسطي المزعومة على جانبي المحيط الأطلسي، يتوافق مع الخطابات الأيديولوجية التي طورها القوميون الصرب خلال الثمانينات والتسعينات. ومن المقرر أن تساهم توجهاتهم الحالية إلى جانب الخطابات "التقليدية" و"الوطنية" المماثلة الصادرة من روسيا في زيادة تعميم الأفكار القومية الصربية، نظرا لأن موسكو تعدّ بمثابة الراعي الدولي الأساسي للأنظمة التنقيحية في بلغراد وجمهورية صربيا في البوسنة.
وأوضحت المجلة أن مواجهة نظرية مؤامرة "كيو أنون" تتطلب قيام الباحثين وسلطات إنفاذ القانون بفك شيفرة المصطلحات الأيديولوجية والسياسية الرجعية. وينبغي القيام بالشيء نفسه لإدراك مدى تغلغل الأفكار القومية الصربية في العديد من هذه الدوائر المتطرفة نفسها. وبعيدا عن المخاوف الأمنية المباشرة، يجب أن تكون الإبادة الجماعية في البوسنة بمثابة درس أساسي للمجتمعات الديمقراطية في كل مكان. فالإبادة الجماعية ليست مجرد ثورات مفاجئة للعنف، بل يقع تنظيمها بدقة.
وخلصت المجلة إلى أن أفكار وخطابات زعماء الإبادة الجماعية في البوسنة مترسخة بالفعل في الغرب، ما أدى إلى سقوط العديد من القتلى. لذلك، فإن عدم الاعتراف بهذا الأمر يعرضنا لخطر السماح لماضي البوسنة بتشكيل مستقبلنا الجماعي.
التايمز: ثورة سوريا أججت اليمين المتطرف والاستقطاب بأوروبا