قبل أيام قام أنتوني بلينكن، وزير خارجية جو
بايدن، بشن حملة على محكمة الجنايات الدولية (International Criminal Court)، وعلى المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودة (Fatou Bensouda)، والسبب عزم المحكمة ليس التحقيق مع جنود أمريكيين، فالأمريكيون - من وجهة النظر الأمريكية - فوق القانون الدولي ابتداء، ولكن عزمها التحقيق في جرائم محتملة ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، علما بأنّ المحكمة لم تختص الاحتلال الإسرائيلي بالاتهام، بل تعاملت مع الجاني (الاحتلال الإسرائيلي) والضحية (المدنيين الفلسطينيين) بالمعيار نفسه، ولكن كما يقول المثل العربي "كاد المريب بأن يقول خذوني".
يأتي ذلك في أثناء تصريحات وتصريحات مضادة بين الرئيس الأمريكي بايدن وموظفيه من جهة، والرئيس الإيراني روحاني وموظفيه من الجهة المقابلة، والسبب أنّ بايدن الذي زعم أنه سيصحّح أخطاء
ترامب ويستعيد ثقة العالم بالولايات المتحدة الأمريكية، مبتدئا بالعودة إلى اتفاق باريس للمناخ، لم يعد إلى الاتفاق النووي مع إيران بالسرعة والسلاسة نفسها، علما أنّه قد أمضى وحلفاؤه الأوروبيون أعواما من التفاوض حتى يصل إليه، بل آثر التحدث عن مزيد من التفاوض وسط العقوبات التي فرضها سلفه "المتهور" ترامب. فأين التصحيح في سياسات بايدن وما هو الجديد فيها؟ كذلك فعل الشيء عينه بالاتفاقية التي وقعها سلفه مع حركة طالبان الأفغانية، والتي أعلن أنّه سيعيد التفاوض عليها هي الأخرى.
أمّا في موضوع اغتيال الصحفي السعودي "جمال خاشقجي"، فبعد الكثير من قنابل الصوت والدخان، لم تسفر التهديدات الأمريكية بنشر تقرير وكالة المخابرات المركزية (CIA)، الذي من المفترض أنّه يدين ولي العهد السعودي بالجريمة؛ سوى عن تقرير باهت لم يضف كثيرا إلى ما كان معروفا عن القضية، الأمر الذي فسّره كثير من المراقبين على أنّه امتداد لسياسة الابتزاز و"الحَلْب" التي مارسها ترامب مع السعودية. وهذا يضعنا أمام الخشية من أن يكون بايدن ظلا لترامب، وليس ظلا لأوباما، كما كان يتخوّف الكثيرون في أثناء ترشحه للرئاسة.
لا يبدو للمتابع لسياسات بايدن أنّه يدرك أنّ العالم يتغير بسرعة، أو ربما قد تغيّر بالفعل، فهو ما زال يريد ممارسة السياسات الأمريكية القديمة نفسها وبالأساليب نفسها، وهو أمر أثبتت الأيام أنّه لم يعد فعّالا كما كان بالأمس.
كما لا يبدو للمتابع لسياسات بايدن أنّه يدرك أنّ العالم يتغير بسرعة، أو ربما قد تغيّر بالفعل، فهو ما زال يريد ممارسة السياسات الأمريكية القديمة نفسها وبالأساليب نفسها، وهو أمر أثبتت الأيام أنّه لم يعد فعّالا كما كان بالأمس. فالقوة التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية بفعل الحرب العالمية الأولى والثانية إلى سدّة العالم، وعزّزت موقعها عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، آخذة بالتلاشي.
وها هو المسرح الدولي يدفع بقوى إلى الخلف ويدفع بأخرى إلى الواجهة، فأوروبا التي كانت بالأمس القريب تحكم العالم، أصبحت اليوم دولا محدودة التأثير لأسباب ذاتية، ولأسباب أخرى بعضها يتصل بالسلوك الأمريكي ذاته، كما أنّ بعض القوى الإقليمية التي خسرت كثيرا من نفوذها خلال الحربين العالميتين، آخذة بالتعافي وتطمح إلى أداء أدوار أكبر، ولعل هذا من أهم أسباب الانزعاج الغربي من كل من إيران وتركيا، وخصوصا هذه الأخيرة. بل إنّ هذا الانزعاج يكاد يصل إلى الهستيريا؛ كلما شاهدت أوروبا تحرّكا تركيّا يمكن أن يوحي ولو من بعيد بزيادة القوة التركيّة أو زيادة دورها في المنطقة، فهو فضلا عن أنّه سيكون على حساب الاحتلال الإسرائيلي بالضرورة، فإنّه يعني أنّ
تركيا ستصبح القوة الأكبر في البحر الأبيض المتوسط، خصوصا مع تراجع الدور المصري، لتصبح أوروبا بين فكيّ كمّاشة؛ روسيا من الشمال وتركيا من الجنوب.
في السياق نفسه، يبدو أنّ التعويل الغربي الذي استمر طويلا على التناقضات بين كل من تركيا وروسيا وإيران، لم يعد سياسة ناجعة، فتركيا إنّما تعرّضت لظل العقوبات الأمريكية الثقيل من أجل علاقة أفضل مع روسيا، متمثّلة بإصرارها على شراء منظومة أس 400 الصاروخية الروسيّة للدفاع الجوي، ولو كلّفها ذلك مشاركتها في مشروع طائرة أف35. أبعد من ذلك، منذ أيام -على سبيل المثال-، صرّح الرئيس التركي في قمّة منظمة التعاون الاقتصادي، بأنّ "رفع العقوبات عن إيران سيسهم في إنعاش اقتصاد المنطقة"، علما بأنّ تركيا كانت قد عارضت من قبل فرض العقوبات الأمريكية على إيران، كما أصبحنا نسمع تصريحات تركيّة يُفهم منها إمكانية أن تحوّل تركيا أشرعتها باتجاه الصين، وربما تأتي زيارة وزير الخارجية الصيني "وانغ يي" إلى أنقرة، في 25 من هذا الشهر، في هذا السياق.
هل سياسة واشنطن باستخدام هراوة العقوبات سياسة ذكية وفعّالة، أم إنّها تنبع من تقدير مبالغ به للذات؟؟
وهنا يبرز سؤال مهم للغاية هو: هل سياسة واشنطن باستخدام هراوة العقوبات سياسة ذكية وفعّالة، أم إنّها تنبع من تقدير مبالغ به للذات؟ فالولايات المتحدة التي فرضت العقوبات على إيران، فرضتها أيضا على كل من تركيا وروسيا والصين، وإن كان ذلك لأسباب مختلفة. كما أنّ السلوك الأمريكي النفعي تجاه اتفاقية الدوحة للسلام في أفغانستان، ووقوفها ضد صفقة بقيمة 1.5 مليار دولار، مكوّنة من 30 طائرة هليكوبتر هجومية تركية من نوع أتاك (ATAK) إلى باكستان، يمكن أن يُعد ضربة للمصالح الباكستانية، فهل يعني ذلك أنّ العقوبات والإجراءات الأمريكية ستدفع هذه الدول إلى التقارب بعضها مع بعض ربما باتجاه "تحالف المتضرّرين"، وعندها يمكن لنا أن نتخيل "المنافس الصيني" مسلحا بعلاقات مميزة مع كل من باكستان، وروسيا وإيران وتركيا؟ إن حصل هذا بالفعل، فكيف ستواجه واشنطن هذا الوضع؟ ثم من هم حلفاء واشنطن المحتملون، وقد تلقت ضربة مؤلمة على صعيد المصداقية في أثناء دورة ترامب، خصوصا أنّ سلوك بايدن - كما رأينا - لا يعكس حتى اليوم اختلافا جذريا عن سلفه، هل هي دول القارة العجوز، كما دأبت الولايات المتحدة الأمريكية على تسمية أوروبا؟ وهل الهند التي تقبع بين فكي الكماشة الصينية الباكستانية، قادرة على الدخول بمواجهة من هذا النوع من أجل واشنطن؟!
بالعودة إلى "مقبرة الإمبراطوريات" أفغانستان، التي خاضت فيها أمريكا حربا لمدة 19 عاما، أنفقت خلالها مبالغ تقدّر على الأقل بتريليون دولار أمريكي، فضلا عن سقوط عشرات الآلاف الجنود الأمريكيين بين قتيل وجريح، غير خسائر حلفائها من قوات حكومة كابل، وجرّبت فيها كل الأساليب التي أبدعتها أفضل العقول الأمريكية العسكرية والسياسيّة، ثم وصلت إلى قناعة بأنّ إنهاء "الحرب اللانهائية" (The Endless War)، كما وصفها ترامب، هو الحل الذي لا حل غيره، ولو كان ذلك على حساب كرامتها وعلى حساب حلفائها في كابُل.
الحديث اليوم وكأن إدارة بايدن لديها حلول أكثر نجاعة وذكاء من تلك التي وصلت إليها إدارة ترامب، فهو من باب التذاكي و"تجريب المجرّب"
إنّ هذه النتيجة لم تأت كصدقة أمريكية على الشعب الأفغاني، أو في لحظة حماس ترامبيّة عابرة، بل بعد تجرّع السم الأفغاني لمدة 20 سنة تقريبا، حتى غدت الحرب الأطول في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، والأكثر كلفة. ولذا، فإنّ الدبلوماسيّة الأمريكية تسير في ممر إجباري يمر مُكرها بإسلام أباد والدوحة وحتى أنقرة، ويحاول جرّ قوى الرفض الأفغانية وعلى رأسها طالبان، إلى حل يمكن ابتلاعه أمريكيا، ولو بتنازلات على حساب حكومة كابُل الحليفة.
وأمّا الحديث اليوم وكأن إدارة بايدن لديها حلول أكثر نجاعة وذكاء من تلك التي وصلت إليها إدارة ترامب، فهو من باب التذاكي و"تجريب المجرّب"، ويمثّل مزيدا من الخوض في المستنقع الأفغاني الخطر. ويأتي ذلك في مرحلة حسّاسة من عمر الولايات المتحدة الأمريكية، اختلّت فيها موازين
السياسة الخارجية والاستقرار الداخلي، ويمكن أن يجرّ أمريكا إلى "مقبرة الإمبراطوريات" حيث ستأخذ مكانا مميزا إلى جوار الاتحاد السوفييتي و"الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، وأخرى لم يعد التاريخ يلقي لها ذكرا، وكم من خصم سيكون سعيدا بانزلاقها نحو هذا المصير.