نال السودان استقلاله في مطلع عام 1956 وآلت مقاليد الحكم فيه إلى حكومة منتخبة، ولكن وقبل أن تكمل عامها الثالث انقض قادة الجيش على الحكم وانفردوا به لست سنوات تنازلوا خلالها عن آلاف الكيلومترات المربعة في أقصى شمال البلاد ليتم إغراقها بمياه السد العالي في مصر، وقضوا بذلك على معظم آثار الحضارة النوبية وهجروا أهل تلك المناطق إلى وسط السودان.
ثم سقط حكم أولئك العسكر في أواخر عام 1964 بانتفاضة شعبية وجاءت حكومة منتخبة، ثم وفي أيار (مايو) من عام 1969 استلم عسكريون بقيادة العقيد جعفر نميري الحكم، وقفز نميري بالزانة إلى رتبة لواء ثم فريق ثم مشير، وبقي في الحكم حتى عام 1985 عندما أطاحت به انتفاضة شعبية، وآل الحكم إلى حكومة منتخبة سرعان من لقيت حتفها على أيدي عسكريي الجبهة الإسلامية القومية بقيادة العميد عمر حسن البشير، الذي سرعان ما صعد إلى رتبة مشير وأطاحت به ثورة شعبية في نيسان (أبريل) من عام 2019.
استغرق الحراك الشعبي لإسقاط نظام البشير خمسة أشهر من الكر والفر بين الجماهير الناشدة للتغيير والأجهزة الأمنية، وبلغ ذروته في 6 نيسان (أبريل) من عام 2019 عندما اعتصم آلاف الثوار أمام القيادة العامة للجيش لاستمالته للانحياز إلى الثورة وحماية الثوار، ولم يخيب رجال الجيش رجاء من استنجدوا بهم فحملوا السلاح في وجه كل من حاول سحق ذلك الاعتصام وقدموا الشهداء والجرحى، فاستشعر قادة الجيش والأجهزة الأمنية الخطر، فقرروا أن يتغدُّوا بالعسكريين الموالين للحراك الشعبي قبل أن يتعشُّوا هم بهم، من زاوية أن أولئك القادة كانوا يعرفون أنهم جزء من النظام المراد الإطاحة به، وأن الضباط في الرتب الصغيرة والوسيطة سينظمون أنفسهم ويتحركون لنصرة الحراك الشعبي، مما يعني ضمنا الإطاحة بتلك القيادة مع النظام.
وهكذا انقلب كبار الجنرالات على حكم البشير بقيادة النائب الأول لعمر البشير الفريق أول عوض بن عوف، مما سبب غضبة شعبية عارمة، من منطلق أن ابن عوف والجنرالات الذين ضمهم إلى المجلس العسكري الذي تقرر أن يحكم البلاد ما هم إلا نسخة طبق الأصل من النظام المراد إسقاطه، وهنا وجدها الفريق عبد الفتاح البرهان ونفر من خلصائه من الجنرالات فرصة لتحقيق طموحاتهم الشخصية والظهور كمنحازين للثورة الشعبية فانقلبوا على ابن عوف، وحسبوا أنهم من القوة بحيث يحكمون البلاد منفردين، ولما أدركوا رغم كل البطش الذي مارسوه بحق الثوار أن المطالبة بنظام حكم مدني أمر لا يقدرون على الالتفاف عليه، توصلوا إلى تسوية مع القوى المدنية بحيث يكون للجنرالات سهم كبير في مجلس السيادة (الرئاسة الجماعية) وليس الحكومة التنفيذية.
التربية العسكرية الحقة تنص على الابتعاد عن الأضواء والعمل في صمت، ولكن العسكري المخضرم الذي يجد نفسه في دائرة الضوء سرعان ما يغتر ويصبح عاشقا للمايكروفون والكاميرا، وهكذا صار عسكر مجلس السيادة السوداني يتغولون على اختصاصات الحكومة التنفيذية، واختاروا مجال السياسة الخارجية ساحة لذلك التغول، ابتداء بالاستئثار بملف تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ثم مغازلة دول الجوار الأفريقي والعربي بالزيارات المتكررة، وكل ذلك وهم لا يملكون صلاحية إبرام أي اتفاق مع أي طرف خارجي، بل وغير ملزمين بإبلاغ مجلس الوزراء بما يقولون ويفعلون خلال زياراتهم الخارجية، مما يشي بأنهم معنيون فقط بالظهور بمظهر رجالات الدولة، دون أن تكون لديهم سلطات رجال الدولة.
السودان يشهد من مركزه إلى أطرافه انفلاتا أمنيا غير مسبوق، فالدم ما زال يسيل بغزارة في دارفور، ولاجئو دارفور يعلنون صراحة أنهم لا يطمئنون للقوات السودانية بديلا للقوات الدولية حراسا لأمنهم وسلامتهم، وشوارع العاصمة الخرطوم تعج وتضج بسيارات ودراجات نارية بلا لوحات تمارس أبشع جرائم النهب والقتل
ولعل أكثر الجنرالات السودانيين ولعا بالظهور الإعلامي هم الدخلاء على المشهد العسكري، أي رجال المليشيات القبلية التي احتضنها نظام عمر البشير ثم أسبغ على قياداتها الرتب العسكرية بسخاء، وسخر لها موارد البلاد الاقتصادية فصارت لها عضلات مالية توازي عضلاتها العسكرية، ثم جاء الزعم بأنها جزء أصيل من القوات المسلحة النظامية، وهكذا نال آل دقلو، وبالتحديد محمد حمدان الشهير بحميدتي، وأخوه عبد الرحيم، وهما قائد أول وقائد ثاني قوات الدعم السريع، رتبتي فريق أول وفريق على التوالي.
وما من ضيف أجنبي يزور البلاد ويلتقي برئيسي مجلسي السيادة والوزراء إلا وحرص حميدتي طالما كان موجودا في الخرطوم على اللقاء به! لماذا؟ فقط لإثبات "الوجود" لأنه لا يملك صلاحية التفاوض والحوار والتوصل إلى قرار مع أي طرف خارجي أو داخلي، ولكن ما من شأن داخلي إلا وأفتى فيه الأخَوان دقلو، بلهجة الآمر الناهي: لن نسمح بهذا، ولا نسكت على ذلك. وكأن الحل والعقد بيديهما.
كل هذا والسودان يشهد من مركزه إلى أطرافه انفلاتا أمنيا غير مسبوق، فالدم ما زال يسيل بغزارة في دارفور، ولاجئو دارفور يعلنون صراحة أنهم لا يطمئنون للقوات السودانية بديلا للقوات الدولية حراسا لأمنهم وسلامتهم، وشوارع العاصمة الخرطوم تعج وتضج بسيارات ودراجات نارية بلا لوحات تمارس أبشع جرائم النهب والقتل ولا تجد الردع ـ دعك من الاجتثاث.
وكانت حجة الجنرالات في الانفراد بالسلطة ثم المشاركة في قمة هرمها هي أنهم الأقدر على ضبط الأوضاع الأمنية، واحتكروا لأنفسهم وزارتي الدفاع والداخلية وجهازي الأمن والمخابرات، ورغم كل ما تملكه تلك الكيانات من كوادر بشرية وعتاد، إلا أن المواطن صار مهددا في سلامته حتى داخل بيته في المدن الكبرى، وثلثا إنتاج البلاد من الذهب يجد طريقه إلى الخارج لحسابات شخصية.
في خرطوم اليوم جيوش متعددة الأزياء تجوب الشوارع مدججة بالسلاح وكل ذلك باسم "السلام"، فقد دخلت القوات التابعة للحركات المسلحة في دارفور الخرطوم كما الفاتحين، ووجدوا في عبد الرحيم دقلو نائب قائد قوات الدعم السريع التي تحتل سلفا ومنذ عامين مفاصل مهمة في الخرطوم؛ وجدوا فيه السند المعنوي عندما قال إن من حق تلك القوات التواجد في أي بقعة من بقاع البلاد، ولم ولن يكلف نفسه مشقة الإجابة على السؤال: كيف يخدم دخول قوات مسلحة من أطراف البلاد إلى عاصمتها سلام تلك الأطراف؟
ولكن الإجابة معلومة: تلك القوات جاءت إلى الخرطوم لانتزاع، ومن ثم حماية حصة قادتها من مغانم السلطة، وكما صمت جنرالات القوات المسلحة (الأصل) على احتلال قوات الدعم السريع لعدد من الساحات والمباني كمقار لها، فإنهم يصمتون على وجود جماعات مسلحة في شوارع الخرطوم وأطرافها، على أمل ان تكون سندا لطموحاتهم الشخصية ـ كما الدعم السريع ـ في الظفر بسلطات وصلاحيات أُرغموا تحت الضغط الشعبي على تركها لمجلس وزراء مدني.
وهكذا فإن الدفعة الرابعة من جنرالات الحكم في السودان تتماهى مع إرث فشل الأسلاف، وتثريه بالمزيد من الإخفاقات وكأنما هذا أمر يتعلق بـ "الجينات".