يواصل الكاتب والشاعر الفلسطيني ياسر علي التأريخ لفلسطين من خلال استعراض سير ومآثر كتابها وشعرائها وعلمائها. ويتوقف اليوم عند سيرة المفتي الشيخ الأديب الشاعر محمد بن أحمد ساق الله الحنفي الخليلي الغزي الأزهري، وقصته مع وظيفة الإفتاء ثم القضاء.
هو المفتي الشيخ الأديب الشاعر محمد بن أحمد ساق الله الحنفي الخليلي الغزي الأزهري، المولود في مدينة غزة عام 1812م. أخذ العلم عن مشايخها، وبعد المرحلة التحضيرية بين الكتاتيب والمساجد، انطلق في العشرين من عمره إلى القاهرة ملتحقاً بالجامع الأزهر سنة 1833م، ومكث في أروقتها وصفوفها سبعة أعوام يدرس على مشايخها الأعلام، ومنهم شيخ الإسلام إبراهيم الباجوري (تولى مشيخة الأزهر سنة 1847م)، ومفتي الحنفية في الديار المصرية الشيخ أحمد بن محمد التميمي الخليلي (ذكرناه في مقال سابق وهو والد الشاعر محمد بن أحمد التميمي كاتب أول رواية عربية)، والشيخ خليل بن إبراهيم الرشيدي (حسب عادل مناع في أعلام فلسطين أواخر العهد العثماني).
عاد شاعرنا إلى غزة سنة 1840م وتصدر للتدريس في الجامع العمري الكبير مدة، وأقبلت عليه الناس واعتنى بالعلم، واشتغل بالفقه. ثم اشتغل في التجارة والمرابحة حتى اتسعت تجارته وعظمت ثروته.
عُين سنة 1876م في وظيفة الإفتاء في غزة، بعد عزل مفتيها الشيخ أحمد محيي الدين الحسيني. وكان انتخابه من ذوات غزة بمضابط رفعت إلى شيخ الإسلام، وجاءه كتاب التعيين من متصرف القدس.. مكث في وظيفة الإفتاء نحو عامين، ثم رُفعت منه وأُلغيت في غزة حتى عُين لها نجل المفتي السابق، حنفي أفندي. وأكثر الشيخ محمد من التشكي، وطلب إرجاعه إلى وظيفته، حتى سافر إلى الآستانة من أجل ذلك سنة 1892-1893م.
وخلال وجوده في الآستانة قابل الصدر الأعظم والعلماء، وقدم لهم قصائد المديح. كما أنه مدح السلطان عبد الحميد بقصيدة طويلة هناك.
وكتب التماساً إلى شيخ الإسلام هناك على شكل قصيدة، أثبتها محمد عمر حمادة في موسوعة أعلام فلسطين، جاء فيها:
شرف العلـوم وجوهر الآراء .. رفعاك فوق مراتب الجوزاءِ
يا أعلم الثقلين يا من حكمُـهُ .. عارٍ من الأغراضِ والأهواءِ
أنت الملاذُ إلى الأنامِ جميعِهم .. فلذاك أمَّ حماك طيرُ رجائـي
مسترحماً أمراً سما شرفاً بأن.. تُبقي عليَّ وظيفة الإفتاء
كما أنه أرسل قصيدة أخرى، يقول في مطلعها:
العدلُ والحلمُ والإنصافُ والنظرُ .. في دولةِ الصدر مجموع ومنحصرُ
ثم يعرض مظلمته بقوله:
يقولُ ناظمُها من فكرِهِ درراً .. محمدٌ مَن بساق الله مشتهرُ
مع أن سنّي ثمانوناً متممةً .. من السنين بِدرسِ العلمِ أفتخرُ
أرجو الإغاثةَ في أمرٍ بُليتُ به.. مالي سواكَ لهذا الأمرِ ينتصرُ
وهو انفصالي عن الإفتا بلا سببٍ .. ولا أتيتُ بذنبٍ منه يُعتذرُ
فامنُنْ عليَّ بإرجاع الوظيفةِ لي.. يا خيرَ منتصرٍ بالحقِّ مدّثرُ
ولا تردّنّ آمالي مخيّبةً .. إذ طبق ما تشتهي يأتي به القدر
ورغم الطابع الوظيفي للقصيدة وسطحيتها وخلوّها من الخيال، حيث جاءت كأنها رسالة منظومة، كانت نتيجة ذلك أن أرضاه شيخ الإسلام بوظيفة القضاء بدل الافتاء، كما سعى إليه بأخذ نيابة يافا. (يراودني سؤال هنا: إلى أي حد كان العثمانيون ولغتهم غير عربية معجبين أو متأثرين بالشعر العربي؟ خصوصاً أن هذا ليس الشاعر الوحيد الذي راسلهم بالقصائد، بل زِد على ذلك أن الشعراء العرب كانوا يُدعون إلى احتفالات الآستانة لغرض إلقاء الشعر في المناسبات هناك).
وله قصيدة في ذمّ بعض القضاة المرتشين في عصره جاء فيها:
للهِ نَشْكو قَاضِياً.. هُوَ فِي القَضَا سُوءُ القَضَا
مُتَجَنِّبـاً فِي فِعْلِهِ .. مَا فِيهِ للهِ الرِّضـا
ما فِيه مِن حُسْنٍ سِوى .. بَسْطُ الأَكُفِّ لِيَقْبَضَا
لَمْ يَبْقِ مِن حُكمٍ بَدا .. إِلا وَفِيهِ تَعَرَّضَا
وفي حزيران (يونيو) 1894م، تسلّم كتاب تعيينه قاضياً في يافا. وتوجه إلى يافا، وباشر العمل في منصبه هناك. ثم عاد إلى غزة، وبقي فيها إلى أن توفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1896م. ودفن في أعلى تربة باب البحر، ورثاه العلامة الشيخ إبراهيم أبو رباح الدجاني اليافي وغيره من العلماء.
وحسب عثمان الطباع في كتابه "إتحاف الأعزة في تاريخ غزة" قال: "كان ذكي الفطنة، ذا وجاهة وجرأة، طلق اللسان، فصيح العبارة، حسن الهيأة، وله ملكة قوية في الشعر وذهنه سيال به، وأكثر شعره في المدح والذم.. وهو مبعثر لم يُجمع".
بلدية غزة من كبرى بلديات فلسطين الصامدة أمام التحديات
كيف يساهم التراث الشعبي الفلسطيني في ترسيخ الوحدة؟
البهائيون في فلسطين.. حيفا تضم رفات المبشر وعكا قبلتهم