من أكثر السياسات الحاضنة لنظرية
المؤامرة في صميمها، سياسات الدول المنتمية إلى العالم الثالث، وتعرف هذه النظرية بـأنها تحليل موقف أو حدث ما، وتفسيره بناءً على فرضيات تآمريّه لا تمت بالغالب للواقع بشيء.
وهذه النظرية ما إن سيطرت على بلاد حتى أفقدتها حضورها، وما إن سيطرت على عقلٍ حتى أفقدته توازنه، فـهي في جوهرها تعمل كرد فعل انتقاصي هدفه التبرير اللا منطقي للوقائع، وذلك عن طريق اختلاق عدوٍ وهمي ومنحه كفة القوة الغالبة ليخدعوا به أنفسهم وشعوبهم إن اقتضى الأمر، لا سيما وأن هذه النظرية قد أخذت بعداً أعمق من السياسة ومن التناظر بين الدول، فتجسدت بحضورٍ قويٍ وجلي، واتخذت مُنحنى آخر في كلٍ من سوق العمل والحياة الاجتماعية وكذلك الأسرية، فبرزت وأسفرت عن دلالتها ومفهومها الصحيح، في وبمعناها الرزين وغير المعقد أقرب لنظرية الدمى منها للمؤامرة، فـيغدو الفرد منا دميةً في مسرح الحياة، والذي تم صياغته وتشكيله بناءً على الوعي الفردي والمجتمعي العام، فـما تراه وتسمعه وتؤمن به يشكل واقعك الخاص.
فترى
الصراعات والمكيدة قد ازدهرت وتشعبت على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية منها، وتراشق الاتهامات علا صوتها واشتد عودها بكونها الدليل الافتراضي الوحيد الذي يدعم صحة هذه النظرية ولا يجعل للشك مكاناً فيها.
فـتنطلق دائرة الشك والمنازعة من القاعدة السياسية بكونها المنشأ الأم لهذه النظرية، حيث تتوجه الجهود نحو خلق عدو افتراضي. ليس بالضرورة أن يكون ذلك صحيحاً، فيتم إمداده بالكذب والخداع إلى أن يتخذ شكلاً مادياً في ذهن ونفوس عامة الناس، وذلك بهدف تبرير حالة العجز السياسي أو الاقتصادي وغيرها، لإشغال عامة الناس عن الالتفات إلى الواقع المعاش.
وتتخذ نظرية المؤامرة شكلاً آخر بوصولها إلى القاعدة الصناعية والاقتصادية والمتمثلة بـسوق التجارة والعمل، فـغدا الارتياب حاضراً وبشكلٍ خفي في ظل الانشغال العام، ويبرز من منطلق تنافسي يحمل بجعبته أفعالاً وتصورات مؤذية وفي بعض الأحيان غير قانونية، مبنية على قناعات بأن "الغير" يمثلون قوى متآمرة ومتضادة هدفها الإطاحة بمن حولها والسيطرة على بيئة العمل، انطلاقاً من فكرة البقاء لـلأكثر حنكةً ودهاء.
وتستمر هذه النظرية بالتوسع، فـترى لها حضوراً خاصاً في وسط البيئة التعليمية، ابتداءً من مراحل التعليم المبكرة ووصولاً إلى ما أبعد من ذلك، فقد تبرز تارةً في كفة العلاقة بين المدرسين وتارةً أخرى تنعكس بين زملاء الفصل الدراسي الواحد. فروح التنافس قد تم غزوها بأفكارٍ مشوهة، فأصبح التنمر هو السمة الأبرز والأكثر انتشارا في أواسط البيئة التعليمية. فالصراع المبني على الشك بالطرف الآخر أدلى بصبغته وأثر بشكل مباشر على المقومات السلوكية للطلبة، وحوّر المسار الأخلاقي لديهم وجعل منهم دمىً تنطق وتتصرف بما تراه وبما يُملى عليها في حياتها اليومية، فينمو جيل من الشباب بأفكار ومفاهيم مغلوطة تحد من قدراتهم وإمكاناتهم في فهم وتطبيق فن العمل الجماعي؛ بوصفه أقل أهميةً وأكثر مكراً من العمل الفردي، فتبعدهم عن الثقة "بالآخر مهما كان"، وهذا من شأنه أن يتخذ شكلاً أبعد من ميدان العمل أو التعليم، فـيتجه هذه الشباب على أثر ذلك نحو التراجع الـلا ملحوظ، متناسين أن كلا منا قد خلق ليقدم للآخر شيئاً فريدا.
وتنعكس هذه النظرية في بنيتها حتى تشمل أفراد الأسرة الواحدة نواة المجتمع البشري، وأساس تقدمه وتطوره، فيأخذ التنافس فيها مكانته خالقاً العديد من المشكلات والنزاعات، كالخلافات المالية وإهمال المسؤوليات وقلة المودة والاحترام إضافةً إلى صراع المواريث. وهنا وبدلاً من تقديم أفراد قادرين على المساهمة في تنمية ونهضة المجتمع، تقدم شباباً يتمتعون بثقافة الرفض والتمرد، غير مدركين لمصفوفة القيم الخاصة بهم، عاجزين عن اتخاذ دور حقيقي وفعال في مسيرتهم نحو النمو.
وصفوة القول، كل شيء في الكون ميّال نحو النمو، سواءً كان بالإيجاب أو العكس، واختيار ما ينمو عائد لنا، فوراء كل حقيقة نعرفها تكمن حقيقة أخرى، وللسؤال أبواب عدة.