شارعان صغيران أو زقاقان في
بيروت عُرفا تحت مسمى واحد، هو زاروب الحرامية. الأول يقع في منطقة الخندق الغميق
قرب مقبرة الباشورة، والثاني يقع في التباريس في أسفل الأشرفية. كأن بيروت كانت
واعية لدورها كمكان لقاء و"عيش مشترك" حسب التعبير الرائج في أيام
حضيضنا. فصنعتْ للحرامية زاروبين، أحدهما في بيروت الغربية والثاني في الشرقية،
فكان للصوص المسيحيين زاروبهم، وللصوص المسلمين زاروبهم.
في الأشرفية لا يزال الزاروب على حاله، رغم أن
سوق النجارين المتصل به زال من الوجود. لكن مع طفرة المطاعم، صار زاروب الحرامية
امتدادا لشارع الجمّيزة، ونسي الناس اسمه الأصلي.
أما توأمه في غربي بيروت، فقد اجتاح أتوستراد
فؤاد شهاب الذي يطلق عليه أهل بيروت اسم "الرينغ" نصفه، وصار نصفه الآخر
جزءا من الخندق الغميق، كما أن المتغير الديموغرافي في منطقة الخندق الغميق جعل من
المنطقة التي تقع على حافة الشارع معقلا للثنائي الشيعي. من هنا كانت تخرج
الدراجات النارية التي لعبت دورا أساسيا في قمع شباب انتفاضة 17 تشرين وترهيبهم.
زاروب الحرامية الأول فُقد، والثاني دخل في
النسيان.
صار اللصوص بلا عنوان ولا مخبأ، فجأة فقدوا
زاروبيهما، وتاهوا. واللافت أن زاروبي الحرامية في المنطقتين الشرقية والغربية،
كانا لسانين متصلين بالمدينة القديمة، أي في وسط بيروت. الوسط تغيّر هو أيضا
واستبدل اسمه باسم جديد هو "سوليدير" نسبة إلى الشركة العقارية العملاقة
التي استولت على المدينة القديمة بقوة القانون. هذا القانون قامت دولة اتفاق
الطائف تفصيله على قياس المتمولين الذين شكلوا مع أمراء الحرب حلفا جهنميا استولى
على السلطة والثروة.
المدينة القديمة تغيرت، وفقدت أزقتها، وتحولت
إلى مدينة تشبه مدن الملح النفطية التي استوردت نموذجها المعماري من مدينة هيوستون
-تكساس، وهي مدينة نفطية أمريكية عُرفت ببشاعتها المعمارية.
لم تفقد بيروت زاروبي الحرامية فقط، بل فقدت
أزقتها وأسواقها اللولبية، وصارت مدينة مؤهلة للاستباحة.
والمنطقة القديمة الوحيدة التي حافظت جزئيا
على طابعها كانت منطقة المدوّر- مار ميخايل- الجميّزة، وهي المنطقة التي دمرها عصف
انفجار المرفأ.
لماذا اختفى الزاروبان؟
عندما كنا صغارا كان الكبار يخيفوننا بزاروب
الحرامية الذي كان الدخول إليه أشبه بمغامرة غير محسوبة العواقب. وكان التحدي هو
أن يمتلك أحدنا جرأة الدخول إلى الزاروب بعد الغروب. فالحكايات حول العصابات
والأشباح كانت تستنفر خيالاتنا، وتأخذنا إلى مناخات الرعب.
لكنني أصبت بخيبة أمل حين ذهبت، بعد انقطاع
طويل، إلى زاروب الحرامية مُستطلعا، على أثر انفجار 4 آب- أغسطس الرهيب. كانت
منطقة الجمّيزة التي تعجّ بالمطاعم والمقاهي قد أصبحت ركاما، ولم أعثر في زاروب
الحرامية لا على الزاروب ولا على الحرامية. البيوت البيروتية العتيقة اختفت، ومعها
اختفت حدائقها وأشجار الزنزلخت والتين البقراطي الأحمر والأكدينيا والبُطم.
جلست وحيدا في بار صغير يقع وسط الشارع. كان
البار شبه محطم مثل باقي مباني الحي التي عصفت بها نيترات الأمونيوم. استُبدل
زجاجه بأوراق النايلون، ووضعت طاولاته وكراسيه المحطمة في ركن جانبي من القاعة.
قلت هذا مكان شجاع، هذه بيروت، تنهض في الركام وتستمر فيها الحياة. جلب لي النادل
لائحة المشروبات التي كتبت باللغة الفرنسية، كان الساقي شابا في العشرينيات فسألته
على سبيل الحشرية "ماذا حلّ بزاروب الحرامية".
"ماذا"؟ قال.
"هل تعرف أننا الآن في زاروب
الحرامية"؟
"ما هذا الحكي" قال "هذا
الشارع الصغير اسمه شارع لبنان".
"شارع شو"؟
"من أين أنت؟ انظر إلى اسم الشارع
المكتوب على الحائط" قال.
نظرت ورأيت وقرأت. "شارع لبنان"
هكذا تحوّل زاروب الحرامية من زقاق متعرّج يشبه لسانا ينحدر إلى قاع المدينة إلى
لبنان بأسره.
شعرت في البداية بالغضب، مَنْ سمح لهم بتغيير
اسم الشارع الذي انحفر في ذاكرتنا؟ كيف يعني، هل يُعقل أن يفقد لصوص لبنان زقاقهم
الذي كانوا يلجأون إليه فيحميهم من الشرطة؟ لكن سرعان ما تبدد غضبي ورأيتني أغرق
في الضحك.
"كوميديا، إنها كوميديا" قلت.
قلت لروحي إن انفجار المرفأ كان إعلانا بأن
اللصوص خرجوا من زقاقهم واحتلوا لبنان بأسره. فنحن نعيش في بلاد الحرامية، كل
شوارع بيروت يجب أن يكون لها اسم واحد: شارع الحرامية، وهذا سيعقّد حياتنا بالطبع،
لكن يمكن حل هذه المشكلة عبر وضع أرقام إلى جانب الاسم، فيصير اسم الشارع زاروب
الحرامية 1 و2 و3 وإلى نهاية الأرقام، وصولا إلى الرقم السحري 10452. هذا هو
لبناننا، اسم واحد لشوارع شتى تحتفي بعصابة اللصوص التي تحكمنا وتتحكم بنا. بل سرح
بي الخيال إلى افتراض أن هذا الاسم يمكن تعميمه على جميع مدن المشرق العربي.
استيقظت من شرودي على صوت النادل وهو يسألني:
"شو طلبك مسيو".
طلبت كأسا من العرق.
"sorry" قال وهو ينظر إليّ بدونية
"نحن لا نقدّم العرق".
وشرح لي بأن المكان متخصص في الكوكتيلات، وبدأ
يعدد أسماء كوكتيلات لم أسمع بها في حياتي.
"اختر لي كوكتيلا على ذوقك"
قلت.
"أنا لا أشرب الحرام" قال.
أردت أن أقول له وماذا تفعل هنا يا ابن
الحرام؟ لكنني انفجرت بالضحك.
وطلبت زجاجة بيرة.
"عندنا فقط بيرة مكسيكية" قال.
جلب قنينة بلا كأس، رأيت على فم القنينة قطعة
ليمون صغيرة موضوعة فوق الملح، وقبل أن أشرب انتبهت إلى أن اسم البيرة المطبوع على
الزجاجة هو كورونا. نعم كورونا! دفعت الزجاجة بيدي ورأيت نفسي أصرخ في الساقي
"تريد أن تسقيني الكورونا؟ لم يعد ينقصنا سوى أن نشرب الوباء".
قال الشاب وهو يغالب ابتسامته "هذه بيرة
ولا علاقة لها". "طوّل بالك يا أستاذ".
"ما تقلّي أستاذ، أرجوك".
أزحت قنينة البيرة جانبا، وغادرت زاروب
الحرامية هاربا، لأجد نفسي في مدينة الحرامية.
سيطرة النظام الإيرانيّ على مفاصل السياسة والمجتمع في لبنان