توفي قبل أسابيع في مصر كرم محمد زهدي عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية في مصر، وهو واحد من بين الأسماء الإسلامية التي برزت في العقود الثلاثة الأخيرة، وارتبط اسمها بنشأة العمل المسلح في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في مصر، قبل أن يقدم على إنجاز مراجعات فكرية حققت تحولات مهمة في وعي الحركة الإسلامية في مصر.
قضى زهدي 22 سنة في السجون المصرية، منذ العام 1981 إلى العام 2003، قبل أن يقود عملية مراجعات السجون للتخلي عن العنف وحمل السلاح ورفض الصراع مع الدولة. وأدلى بتصريحات صحفية قدم فيها اعتذارا عن العمليات التي تبنتها الجماعة الإسلامية معربًا عن استعدادها لتقديم الدية لضحاياها.
أبو العلا ماضي، القيادي الإسلامي المصري البارز في حزب الوسط، يعيد في ثلاث حلقات تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فتح سيرة الراحل كرم زهدي، منذ انضمامه للحركة الإسلامية وصولا إلى المراجعات مرورا بتبنيه للعمل المسلح في الإصلاح.
(3)
توقفت في المقال الماضي عن أخي المهندس/ كرم زهدي (رحمه الله) عند وعد باستكمال هذه المقالات بالمقال الأخير عن المراجعات
مقدمة المراجعات:
سبق وأن ذكرت أن حادث مقتل د. علاء محيي الدين المتحدث الرسمي باسم الجماعة الإسلامية عام 1990م كانت نقطة تحول للموجة الثانية من العنف والعنف المتبادل، وأذكر أنني شاركت في ندوة في نقابة المحامين بالجيزة نستنكر فيها حادث اغتيال د. علاء محيي الدين مع الأستاذ سامح عاشور والأستاذ مختار نوح (عضوي مجلس النقابة العامة للمحامين في ذلك الوقت)، وبعدها قامت عناصر من الجماعة باغتيال د. رفعت المحجوب عند فندق شبرد بالقاهرة ظنًّا منهم أنه موكب وزير الداخلية الذي يمر في هذا التوقيت، وتوالت الأحداث التي راحت ضحيتها مئات من الضحايا قتلى ومصابين من كل الأطراف من الشرطة والمواطنين (مسلمين ومسيحين) والسائحين وعناصر من الجماعة وكان أكبر ضابط في الداخلية تم اغتياله هو اللواء رؤوف خيرت مسؤول التطرف الديني في مباحث أمن الدولة في عشرية سيئة، كانت أشبه بعشرية الجزائر السوداء.
المبادرة:
وفي يوم 5 تموز (يوليو) عام 1997م وأثناء نظر إحدى القضايا العسكرية التي تحاكم مجموعة من هذه المجموعات التي اشتركت في العنف، وقف أحد المتهمين وأعلن مبادرة وقف العنف موقعة من قيادات الجماعة الإسلامية يعلنون فيها وقف العمليات القتالية (هكذا تعبيرهم) من جانب واحد، ولقد نشرت مقالًا في جريدة "الحياة اللندنية" بعد إعلان المبادرة وشجعتها وطلبت تأصيلها بدراسات فقهية تنقض أفكارهم القديمة، التي تأسست على أسانيد ونصوص دينية.
حادث الدير البحري:
ولكن وقعت حادثة مفاجئة وصادمة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1997م أي بعد أربع أشهر فقط من إعلان مبادرة وقف العنف في الدير البحري بالأقصر أدى إلى مقتل 56 سائحًا أغلبهم من سويسرا، وتم التمثيل بالجثث وهي تصرفات لم نسمع عنها من قبل، وقد سبق وأن قلت في المقال الماضي إن هذه الحادثة أفشلت المبادرة، ولقد تكرم مشكورا أحد أكبر القادة بالجماعة ليبلغني أنها لم تفشل واستمرت وإن كانت قيادات وزارة الداخلية توقفت وانتظرت لترى ولتحكم على المبادرة مع الوقت.
وكان وراء حادثة الأقصر أحد القيادات بالخارج وهو رفاعي أحمد طه الذي رفض المبادرة واعتبرها صناعة أمنية وهو الذي وجه الخلايا الهاربة بالداخل للقيام بهذه العملية (عملية الأقصر)، ولكن بعد صدمة هذا الواقعة ـ على قيادات الجماعة بالداخل وبعضهم بالخارج ـ قام د. أسامة رشدي بقيادة التحول إلى مبادرة وقف العنف بالخارج ضد رفاعي أحمد طه وتم عزل رفاعي من القيادة ومن عضوية مجلس الشورى وترأس د. أسامة رشدي المجلس بالخارج وأصدر بيانًا في 28 آذار (مارس) 1999م يؤيد المبادرة بالكامل وإيقاف كل العمليات والبيانات المحرضة عليها.
اللواء أحمد رأفت:
كان الذي يرأس قسم التطرف الديني بجهاز أمن الدولة في ذلك الوقت هو اللواء أحمد رأفت مصيلحي (وإن كان يُعرف نفسه بالإسم الحركي مصطفى رفعت) وقد بدأ بالتواصل مع الأستاذ منتصر الزيات المحامي للوصول إلى حل حول موضوع العنف وتوقفه، وكان الأستاذ منتصر وسيطًا بين الجماعة ووزارة الداخلية، وكان يُسمح له بزيارة قيادات الجماعة بصفته محاميهم وكان يتشاور معهم في ذلك الوقت وتوصلوا لتصورات مهمة حول المبادرة، وبعدها تواصل اللواء أحمد رأفت بالقيادات داخل السجن مباشرة وخاصة الأخ كرم زهدي وقد نشأت بينهم علاقة جيدة جدا، وقد وفر اللواء أحمد رأفت لهم مناخًا مختلفًا عن المناخ القديم داخل السجون، حيث كانوا يعاملون معاملة غير آدمية وخاصة بعد اندلاع موجة العنف الثانية (عام 1990م) وسمح لهم بدخول الكتب والمراجع التي يحتاجونها للمساعدة على المراجعة وتم بلورة عدة دراسات لتلك المراجعة، وسمح لهم اللواء رأفت بالتجول في السجون لتدريس هذه الدراسات وكان يتحرك معهم بأتوبيس سياحي (كما ذكر هو لي لاحقًا في أول مقابله لي معه في نهاية عام 2007م).
المراجعات:
وقد فوجئ الرأي العام في كانون الثاني (يناير) عام 2002م بصدور كتيبات للجماعة الإسلامية في سلسلة عنوانها (تصحيح المفاهيم) وكانت أولًا أربعة كتيبات وهي:
1 ـ مبادرة وقف العنف: رؤية واقعية.. ونظرة شرعية
2 ـ تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء
3 ـ النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين
4 ـ حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين
وقد وقع بعض المحللين في خطأ حين ربطوا بين هذه الكتيبات وأحداث تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001م والتي وقعت بالولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بسبب صدورها في كانون الثاني (يناير) 2002م (أي بعد أربعة شهور من التفجيرات في أمريكا) وإن كنت كتبت في حينها وذكرت أن هذا خطأ لأني أعلم أن المراجعات على الأقل استأنفت من عام 1998م وكنت أعلم بالحوارات والتفاوض مع الأمن من خلال أخي الأستاذ منتصر الزيات ولذلك لا رابط بين هذه المراجعات وأحداث أيلول (سبتمبر) 2001م، وقد استمرت تلك المراجعات واستمر صدور كتب وكتيبات في نفس الاتجاه إلى أن وصلت إلى أكثر من عشرين كتابًا وكتيبًا موقعة من قادة الجماعة داخل السجن وهم ثمانية وكان على رأسهم الإخوة: المهندس كرم زهدي ود. ناجح ابراهيم والمهندس أسامة حافظ والمهندس عصام درباله (رحمه الله).
موقفي من المراجعات:
لقد تلقيت هذه المراجعات بعد المبادرة حين تم النشر عنها بالترحيب المعلن والمشجع وكتبت عدة مقالات ودراسات (نُشرت في كتاب لي عام 2006م)، ودراستين نُشرتا في كتابين أحدهما أصدرته مؤسسة الفرقان في لندن التي كان يرأسها المرحوم (أحمد زكي يماني) ونشرت دراستي مع دراسات الأساتذة د. محمد سليم العوَّا ود. بشير نافع والشيخ راشد الغنوشي وأ. ضياء رشوان ود. قدري حفني (رحمه الله) والأستاذ محمد السماك وهي أعمال ندوة عُقدت في لندن في آذار / مارس 2004م)، والكتاب الثاني نُشرت فيه الدراسة الثانية مع عدة دراسات حررها د. الطيب زين العابدين الأكاديمي السوداني (رحمه الله) وصدرت في كتاب مع كل من المستشار طارق البشري (رحمه الله) ود. محمد سليم العوّا ود. عصام البشير والشيخ راشد الغنوشي ود. مهدي رزق الله) والكتاب صدر في 2009م، وكذلك مشاركات تليفزيونية لشرح هذه الكتب وتوجيه نقد لبعض ما فيها بدافع تطويرها واستكمالها من وجهة نظري، وقد بلغني من الأخ الأستاذ/ منتصر الزيات عتاب من الأخ كرم زهدي (رحمه الله) عن ملاحظاتي النقدية وقد بلغته بنيتي وحبي لهذا الوطن الذي يفوق حبي لأي شخص.
والطريف حين قابلت اللواء أحمد رأفت ( تُوفي إلى رحمة الله في آب / أغسطس 2010م وهو نائب رئيس مباحث أمن الدولة) أول مرة كما ذكرت في كانون الأول / ديسمبر 2007م، ذكر لي أنه استفاد مما أكتب وكان يعود إليهم بهذه الملاحظات بغية أن يطوروا هذه الدراسات (فعلمت لماذا كان أخي كرم زهدي عاتبًا)، وعلمت أيضا بعد ذلك من بعض إخواني في الجماعة أنهم اعتبروا أن نقدي لهذه المراجعات يؤخر خروجهم من السجن وهو طبعا لم يخطر على بالي مطلقًا.
وقد حدَّثني اللواء أحمد رأفت في هذا اللقاء الأول عن ملابسات هذه المراجعات وعرض لي تسجيلات مصورة لهذه الحوارات الخاصة وليست اللقاءات التليفزيونية التي تمت إذاعتها.
وقد خرج الجميع من السجن بعد انتهاء هذه المراجعات عدا الأستاذ عبود الزمر ود. طارق الزمر اللذين قبلا فكرة المراجعة ولكن لم يقبلا طريقة التعامل مع الأمن واستمرا حتى ثورة كانون الثاني (يناير) 2011م حين خرجا بعد أن أتما ثلاثين عامًا متصلة في السجن.
واستمرت علاقة الأخ كرم زهدي المميزة مع اللواء أحمد رأفت مما جلب له ولزميله د. ناجح إبراهيم (والذى يكتب دائما مدافعا عن السلطة) غضب معظم قيادات الجماعة وأعضائها، ولعل ذلك يشرح لماذا بعد ثورة يناير مباشرة ثم اختيار قيادة جديدة للجماعة وتم إبعاد الأخ كرم زهدي ود. ناجح إبراهيم.
الخلاصة:
بالرغم من هذه العلاقة الخاصة بين أخي كرم زهدي واللواء أحمد رأفت إلا أنه (أي أخي كرم رحمه الله) لم يستفد شيئا شخصيًا لا ماليًا ولا أدبيًا فلم يظهر في التليفزيون ولم يكتب بالصحف حتى مات فقيرًا.
وكذلك بالنسبة للمراجعات التي هي أهم بل هي المراجعات الوحيدة التي تمت من قبل جماعة إسلامية خلال المائة عام الماضية، وهي ليست مراجعات شخصية كما فعل البعض من قبل، ولكن مراجعات جماعية توافقت عليها الأغلبية الساحقة من قيادات الجماعة ونجحت في إقناع الأغلبية من أعضائها بها، وهي شجاعة وجرأة تستحق عليها التقدير والاحترام ولعلها تكون درسًا لجماعات إسلامية أخرى لم تقم بهذه المراجعات أبدًا.
رحم الله أخي كرم زهدي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وغفر له ذنوبه كلها... اللهم آمين.
إقرأ أيضا: أبو العلا ماضي يروي قصة نشأة الجماعة الإسلامية في مصر
إقرأ أيضا: أبو العلا ماضي: هكذا تعاملت الجماعة الإسلامية مع كامب ديفيد
أبو العلا ماضي: قصة حزب العمل ورواية "وليمة لأعشاب البحر"
أبو العلا ماضي: هذه حقيقة علاقة إخوان مصر بحزب العمل
أبو العلا ماضي يروي قصة تحالف الإخوان وحزب العمل اليساري