في رحلة البحث عن الشعراء المؤسسين، لاحظت وجود أكثر من علَمٍ من عائلة الحسيني، وكنت أؤجل الحديث عنهم، غير أن ما لفتني هو أن ثمة عدداً منهم في غزة يشكّلون من عائلة واحدة أسسها في غزة رجل تربى على يدي والده العلاّمة عبد الحيّ الحسيني، وجمع المجد من أطرافه، فكان يخطب ودّه السياسيون والعلماء والفقهاء والأدباء، هو السيد الحاج أحمد محيي الدين عبد الحي الحنفي الحسيني (1223ـ 1295هـ / 1808ـ 1878م).
ستجد ـ عزيزي القارئ ـ عدداً لا بأس به من الشعراء من آل الحسيني، وهم ليسوا عائلة واحدة، فهم مثل آل الخطيب والحاج والإمام والشيخ الذين وجدوا في كل قرية فلسطينية. فقد كان لنقباء الأشراف في فلسطين شأن عظيم، والأشراف هم من يمثلون سلالة المصطفى صلى الله عليه وسلم في فلسطين، وقد تكنّى بالحسيني معظم العائلات المنحدرة من سلالة الإمام الحسين رضي الله عنه، وتكنى بالحسني بعض العائلات المنحدرة من الإمام الحسن رضي الله عنه.
ومن المعروف أن أهل غزة يحملون في صدورهم هذه المحبة للسادة الأشراف من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي المسماة غزة هاشم نسبة إلى قبر جد الرسول هاشم بن عبد مناف ومقامه ومسجده فيها (ولشاعرنا دور أساسي في بناء مسجد هاشم في غزة).
تمسّكت هذه العائلة بالبقاء في غزة وفلسطين، رغم خروج أفرادها منها عدة مرات، إما طلباً للعلم أو نفياً سياسياً.. فقد كان يعودون فور استطاعتهم.
وشاعرنا، هو الابن الوحيد للعلّامة الشيخ عبد الحيّ، انحصرت فيه الوظائف المهمة الثلاث في غزة: الإفتاء والقضاء والخطابة، في الجامع العمري الكبير. تربى في حجر والده ونهل منه العلوم، ثم جاور الأزهر الشريف خمس سنوات درس على كبار علمائه في ذلك العصر. وعاد إلى غزة فتنازل له والده عن الإفتاء، ووفدت عليه الوفود والنبلاء والفقهاء والشعراء والأدباء وطارحوه الأدب والشعر، وعلى رأسهم الشاعر الأديب اللغوي اللبناني إبراهيم الأحدب من طرابلس الشام (أحد شعراء النهضة في لبنان).
وقد أجمل صاحب "إتحاف الأعزة في تاريخ غزة" مكانته بأنه "كان وحيد عصره وفريد دهره". وأنه كان في مقامه وعلمه مثل مفتي الخليل الشيخ خليل التميمي ومفتي دمشق الشيخ محمود حمزة. ووصفه بأنه "كان له معرفة تامة بالتاريخ والأدب، وعنده ملكة قوية في الشعر، واستحضار عظيم في المحاورات والمطارحات..".
بذل جهداً طيباً في بناء مسجد عند مقام هاشم جدّ النبي صلى الله عليه وسلم، وتم توفير معظم كلفة البناء بفضل تواصله مع السلطان العثماني عبد المجيد خان والحصول على معونة كبيرة لبناء المسجد. غير أن شاعرنا اجتمعت عليه عداوات الحساد والطامعين وكادوا له حتى صدر الأمر سنة 1861 بفصله من الوظيفة ونفيه، فاختار النفي إلى القدس، حتى هدأت الأمور وعاد لغزة، لكنه ووجه بحركة ضده لانتقاده السياسة العثمانية الجديدة المُتجهة إلى التمغرُب والمركزية.
أحس بنيّة النفي مرة أخرى فتسلل إلى مصر حيث مدح الخديوي بقصيدة طويلة وأقام عنده، فتوسط له للعودة إلى غزة. ووجه مرة ثالثة بمكيدات جديدة ونفي إلى دمشق وأقام ببيت الأمير عبد القادر الجزائري هناك مدة من الزمن وعاد أخيراً إلى غزة، ولم يعمّر طويلاً، وتوفي سنة 1878 عن سبعين عاماً. ورثاه كبار شعراء غزة مثل الشيخ أحمد بسيسو وغيره.
وأورث علمه لأبنائه الخمسة، أما شعره فحمله إثنان من أبنائه، هما حسين وعبد الحي (سيكونان معاً في الحلقة المقبلة من هذه السلسلة إن شاء الله)، لمزيد من توضيح انظر شجرة عائلته التي تفرعت عنه، حسب الصورة التي نشرها موقع "مؤسسة هوية" لشجرات العائلات الفلسطينية.
دُفن في غزة وكُتب على قبره: إن هذا قبر نجل المصطفى محي دين الله مفتي العصر أحمد.
ليس له ديوان، وشعره منتشر في كتاب "إتحاف الأعزَّة في تاريخ غزة".
قصيدته التي رفعها إلى الخديوي إسماعيل فيها تدفق وسلاسة يدلان على قدرته وملكته في الشعر، وسلاسة الدخول إلى نفس مخاطبه بأيسر سبيل (حسب معجم البابطين). وهي تشبه في أغراضها بعض قصائد النابغة الذبياني الاعتذارية والاستجارية، وقصائد المتنبي التي مدح بها كافور، حيث كتب قصيدة طويلة مدح فيها الملك، وفي ختامها أظهر طلبه:
غَوثاً لِعبدٍ كانَ في أَوطانِهِ ... يَنمى لِدولةِ عزِّكُم وَسَناها
مَكَرت بِهِ أعداؤُهُ حتى احتمى ... فِي حُرمةٍ لا يُستباحُ حِمَاها
فَانظُر إلى المَلهوفِ مَن عَن أرضِهِ ... أَقصَتهُ عَن أعدائِهِ بَأسَاها
وَأَغِثهُ إذ عَن بُعدِ دَارٍ رَامَكُم ... وَأَتى لِدار الالتِجَا وَنَحاها
وله قصائد منظومة لجامع هاشم الذي ساهم ببنائه في غزة، ومنها قصيدته "نور الرسالة" التي جاء فيها:
بِجَدِّ رسولِ اللَّه يُسْتَسْهَلُ الأمرُ ... ومن بابه يُرجى به الفتحُ والنصرُ
ويُمحى عن الزوّارِ أوزارُهم بهِ ... ويُحمى به الرَّاجي ويُهمى له الأجرُ
ولا غَروَ إذ فخْرُ البريَّةِ فرعُهُ ... فكلُّ كمالٍ أصلُه ذلك الفخرُ
ومن بيتِهِ ضاءَ الوجودُ بأسرهِ ... فللَّه بيتٌ دونه الشمسُ والبدرُ
وقد أَرِجتْ أرجاءُ غزَّةِ هاشمٍ ... مَعالي ضريحٍ فاحَ من نشرِها النَشْرُ
وله شعر غزلي مقطّع على الطريقة الأندلسية، ومنها:
وافى الجميلُ وفوقَ صفحةِ خدِّهِ ... سَطرُ العذارِ ونُقطةُ الشّامات
فكأنهُ بصحيفةٍ قد ذُهّبَتْ ... وَبَدَتْ لَنا مِن فَوقِها الآيات
وافى الجميلُ وفوقَ صفحةِ خدِّهِ ... خَطٌّ بِهِ أعطى الأمانَ مِن الجَفا
وَرَوَى لنا عَن درِّ ثَغْرٍ بَاسِمٍ ... خَبَراً عَلِمْنا أَنّه خَبَرُ الشِّفا
* كاتب وشاعر فلسطيني
الحناشي لـ "عربي21": التونسيون أدركوا خطر الصهيونية مبكرا
"دير ياسين".. الجرح النازف في فلسطين رغم مرور 73 سنة
الثوب الفلسطيني عمره 3 آلاف سنة ولا يزال رمزا للهوية العربية