دخلت
مصر موجة جديدة من الطوارئ، بعدما أعلنت الصحيفة الرسمية فرض
حالة الطوارئ - المستمرة منذ عقود - لمدة ثلاثة أشهر، وكأن المحروسة مصابة بمتلازمة "الخطر" التي لا يصلح معها إلا علاج الطوارئ، وما تلبث أن تتعافى من المرض حتى تصاب به مجددا، لتستمر في تلك الدائرة المغلقة إلى ما لا نهاية.
على مدار عقود، سعى من امتلك زمام الأمور في مصر إلى تخويف المواطنين من الخطر المحدق بالبلاد، والمؤامرات الكونية التي تتعرض لها من الداخل والخارج، والتي لن يتم التصدي لها إلا عبر طريق الطوارئ، دون الالتفات إلى أبجديات التنمية، أو بديهيات رفع المستوى المعيشي للمواطن، من أجل تحقيق الحد الأدنى من الأمن والاستقرار، كمن داهم بيته سيل فعزم على الانتقال إلى كوخ صغير حتى يجد موقعا مناسبا لبناء بيت جديد وتأسيسه على طراز حديث، ثم طاب له المقام في الكوخ ونسي أمر البيت، وكلما أبدى الأبناء تذمرهم من ضيق الحال وشظف العيش ذكرهم بخطر السيل والمصير المجهول الذي ينتظرهم إذا فكروا في العودة إلى بيتهم مرة أخرى.
فكرة الطوارئ ليست حديثة، فقد تلقفها العسكر من الإنجليز الذين اعتادوا إعلان "الأحكام العرفية" في مصر إبان الاحتلال، وما لبثوا حتى سعوا جاهدين إلى تطويرها لتتيح للحاكم صلاحيات مطلقة، وسيطرة كاملة على مقاليد الأمور، وتحكم تام في كل شيء تحت مسمى جديد هو " قانون الطوارئ"، وهي فكرة تستهوي الحاكم بطبيعة الحال، كطفل صغير يمسك بيده هاتفا ذكيا ويتنقل بحرية من تطبيق إلى آخر دون رقابة من الوالدين أو ضوابط تحد من صلاحياته.
ومنذ ذلك الحين والفكرة مطروحة بقوة حتى تمت شرعنتها في عام 1954، ثم ظهر القانون رقم 162 لسنة 1958 ليضع قواعدها التفصيلية، إلى أن جاء عصر مبارك، ليتم تعميمها طوال فترة حكمه، ولتعيش البلاد تحت مظلة الطوارئ خلال الفترة الممتدة من أوائل الثمانينات وحتى حقبة المجلس العسكري، الذي اضطر إلغاء العمل بقانون الطوارئ تحت وطأة الضغط الشعبي الهائل قبل إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية بفترة وجيزة.
لم تسلم مصر من تبعات الطوارئ إلا في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، باستثاء واقعة واحدة، حدثت في كانون الثاني/ يناير 2013 بعد إعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال في محافظات بورسعيد والسويس والإسماعيلية، تزامنا مع وقوع عدد كبير من القتلى في اشتباكات مع الشرطة إثر أحكام الإعدام التي صدرت بحق 21 من مشجعي فريق المصري البورسعيدي، ورغم ذلك تعمد البعض خرق حظر التجول لإظهار الرئيس بمظهر الضعيف العاجز.
وبعد انقلاب تموز/ يوليو ٢٠١٣ وتعطيل العمل بالدستور، لم تتوقف حالة الطوارئ لحظة واحدة، إلا أنها أعلنت نظريا في نيسان/ أبريل 2017 إثر تفجير كنيستين، ثم أقر ما يعرف بـ"البرلمان المصري" تعديلات اقترحتها الحكومة على قانون الطوارئ لعام 1958 في نيسان/ أبريل 2020، تمنح الجنرال وأجهزته الأمنية سلطات لا حصر لها، ليتم إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر ثم تمديدها، ومن ثم إعلانها مجددا بعد مرور عدة أيام، تفاديا لتطبيق النص الدستوري الذي يفرض إجراء استفتاء عند التمديد لأكثر من مرة.
نص القرار المنشور في الجريدة الرسمية مؤخرا؛ أرجع فرض الطوارئ إلى الظروف الأمنية والصحية "الخطيرة" التي تمر بها البلاد، والتي تحتم اتخاذ هذه الخطوة، لتتولى القوات المسلحة والشرطة اتخاذ ما يلزم من إجراءات لمواجهة تلك الأخطار، وحفظ الأمن بجميع أنحاء البلاد، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وحفظ أرواح المواطنين.
لا شك أن إعلان حالة الطوارئ أو تمديدها يستهدف حماية النظام ولا يعنيه أمن المواطن أو سلامته على الإطلاق. بل على العكس من ذلك، فهو بمثابة عقاب جماعي للشعب، ويشبه إلى حد بعيد ما يعانيه المحبوسون احتياطيا من تعسف في التجديد الدوري لهم على ذمة قضايا ملفقة لا يعلمون عنها شيئا، فلا تملك النيابة حيال هذا ذلك إلا تلاوة نص التجديد تلقائيا وفقا لما ورد من صاحب الأمر. ربما لا يلتفت المواطن العادي كثيرا إلى ما قد يشكله فرض الطوارئ من خطر، ولا يدري أن زيارة عائلية أو مشاركة في مناسبة مجتمعية أو حتى الاحتفال بعيد الفطر القادم قد يوقعه تحت طائلة المادة الثالثة من قانون الطوارئ، والتي تضع قيودا على حرية الأفراد في التنقل، وتحظر التجمعات والاحتفالات والمظاهرات.
للأسف الشديد، عودتنا الحكومات المتعاقبة في مصر، في ظل الحكم العسكري، أن المواطن ليس على سلم أولوياتها، فلا مجال للحديث عن فرض الطوارئ من أجل التصدي لفيروس "
كورونا" وما يمثله من تهديد، لأن الجائحة أظهرت بوضوح عدم استعداد الحكومة للتعاطي الجاد معها، أو حماية المواطنين والأطباء من تداعياتها. كما أن الحديث المستمر عن خطر
الإرهاب لن يجد آذانا صاغية، بعد سنوات من الهدم والاعتقال والقمع والتشريد، وتغييب عشرات الآلاف خلف القضبان، وإصدار أحكام الإعدام بالجملة، دون نتيجة تذكر، إلا مزيد من الانقسام المجتمعي والتدهور الاقتصادي. وبينما يتشوق الشعب إلى رؤية الجنرال وهو يطلب تفويضا لهدم سد النهضة وإنقاذ بلاده من خطر المجاعة، على غرار ما فعله سابقا في حربه المزعومة على الإرهاب، تقف حكومته موقف المتفرج أمام الملء الثاني للسد، الذي يمثل تحديا وجوديا لمصر الجغرافيا والتاريخ، لتتضح صورة بلاد الطوارئ لكل ذي عينين.