نشطت في السنوات القليلة الماضية حركية تأسيس مراكز الأبحاث والدراسات في العالم العربي، وبدأت تتطلع بعضها إلى تحقيق أثر يتجاوز المجتمع الأكاديمي، ويقترب أكثر من مجال التأثير في القرار السياسي، تقديرا منها أنه بالإمكان أن تقوم بالدور نفسه التي تقوم به مستودعات التفكير الأوروبية والأمريكية، وأن تدفع صناع القرار السياسي إلى التفاعل مع تقديراتها واستشرافاتها والسيناريوهات التي تقدمها بين يديه للتعاطي مع السياسات الداخلية أو الخارجية.
بيد أن التراكم الذي حصلته إلى اليوم، سواء على مستوى مخرجاتها البحثية، أو على مستوى علاقاتها بصناع القرار وتفاعلها مع نخبه، لا يسمح بالحديث عن تشكل صناعة بحثية مؤثرة في القرار السياسي في العالم العربي، وأن القرار السياسي، لا يدخل إلى اليوم ضمن أوعية صناعته، المخرجات البحثية لهذه المراكز، ولا ما تضعه بين يدي صناع القرار من استشرافات وسيناريوهات، وأن العلاقة بين الطرفين تأخذ أشكالا أخرى غير الشكل الذي تأخذه في التجربة الأوربية والأمريكية، فهل يرجع الأمر إلى محدودية هذه المخرجات وعدم تحقيقها للتراكم المعرفي الذي يلفت نظر صانع القرار إليها؟ أم أن التجربة البحثية العربية في التعاطي مع المعطيات والمعلومات، بقيت بعيدة عن الأفق الذي بلغته التجربة البحثية الغربية، مما برر عدم الالتفات إلى ما تحققه من تراكم معرفي؟ أم أن الأمر مرتبط بطبيعة القرار السياسي في العالم العربي وخصوصيته، ونوع العلاقة التي يتصورها مع المراكز البحثية فضلا عن الوظائف التي يقدر أن تقوم بها الصناعة البحثية؟
مراكز بحثية أم مستودعات تفكير استراتيجية؟
في البدء لا بد من التمييز داخل الأنوية المنتجة للصناعة البحثية الغربية، بين المراكز ذات الطبيعة البحثية، وبين مستودعات التفكير ذات الطبيعة الاستراتيجية. فالأولى، تضع ثقلها في الاشتغال الأكاديمي، وقصارى ما تتطلع إليه أن تؤثر في المجتمع الأكاديمي، وأن تملك بعض التأثير في الفضاء الإعلامي، بأن تسوق نتائجها وتثبت حضورها الأكاديمي والإعلامي، في حين تتطلع مستودعات التفكير الاستراتيجية، لأكثر من الهدف المعرفي والإعلامي، فهي تروم الاقتراب من مربع الحكم، والتأثير في القرار السياسي، من خلال دراسة الحالة، سواء في السياسة الداخلية أم الخارجية، وتتبع سياقها والمتدخلين فيها، وصراع السياسات حولها، وتقييم سياسة صانع القرار السياسي حيالها، ودراسة السيناريوهات المتوقعة، واقتراح ما يمكن من توصيات على صناع القرار السياسي.
وغالبا، ما تتخصص هذه المستودعات في قضية من القضايا الاستراتيجية التي تشغل اهتمام السياسات الداخلية أو الخارجية، سواء تعلق الأمر بمنظومة الأمن الاستراتيجي، أو السياسات الخارجية وعلاقتها بتحقيق المصالح الاستراتيجية الوطنية.
وتبرر هذه المستودعات الحاجة إليها، من خلال قدرتها على دراسة الحالة وتقييم السياسات ودراسة أثرها، وتقديم تعريف جديد للمصلحة الاستراتيجية الوطنية، ووضع توصيات تقدر الوجه الأفضل لتحقيقها.
إن الإمكانات الضخمة التي توفرها مستودعات التفكير، لاسيما منها الأمريكية والبريطانية، تسمح لها بقدر من المنافسة مع أنوية صانع القرار السياسي في امتلاك المعلومات والمعطيات التي عليها يتأسس القرار السياسي،
ولذلك، تعمل هذه المستودعات على فرض وجودها من خلال قدرتها على المشاركة في النقاش العمومي حول السياسات، وقدرتها على مد الفاعل السياسي، موالاة أو معارضة، بالحجج التي تساعده في بناء منطقه وخطابه السياسي، ووضع الرأي العام أمام الأخطار التي تترتب عن اعتماد هذه السياسة أم تلك، والفرص التي يمكن أن تنتهزها هذه السياسات لو مضت في هذا الاتجاه أو ذاك، فضلا عن التحديات.
وفضلا عن هذا وذاك، فإن الإمكانات الضخمة التي توفرها مستودعات التفكير، لاسيما منها الأمريكية والبريطانية، تسمح لها بقدر من المنافسة مع أنوية صانع القرار السياسي في امتلاك المعلومات والمعطيات التي عليها يتأسس القرار السياسي، فهي من خلال الفعاليات التي تقوم بها، ومن خلال دينامية باحثيها، وقدرتها على فتح جسور التواصل مع المجتمع الحزبي ونخب السلطة، والنخب الدبلوماسية، فضلا عن النخب الاقتصادية والهيئات النقابية والجمعوية، وأيضا من خلال استطلاعات الرأي الضخمة التي تقوم بها، تملك القدرة على تجميع كم هائل من المعطيات الإمبريقية التي تساعدها في منافسة صانع القرار في حقله الحصري، أي حقل تجميع المعلومات والمعطيات المؤثرة في صناعة القرار السياسي.
هذه الطبيعة والخصائص التي تتميز بها مستودعات التفكير الأمريكية والأوربية، رجحت لدى صانع القرار السياسي الغربي التعامل معها، وإحداث جسور للتواصل وإنتاج صيغ للإفادة من مخرجاتها البحثية والسماح لها بقدر مهم من التأثير أو التوجيه للقرار السياسي
ماذا يحتاج صناع القرار عربيا: رجل الإعلام أو الاستخباري أم مراكز الأبحاث؟
في العالم العربي، كما في مختلف المجتمعات، تدور المعركة كلها حول امتلاك القدر الأكبر من المعلومات التي تسدد وترشد عملية صناعة القرار السياسي. فالعملية البحثية ليست مهمة في ذاتها، ولا في المنهج الذي توفره للتعاطي مع القضايا، بل المهم قبل هذا وذاك، هو امتلاك المعطيات، فدونها لا تكون هناك أي قيمة لتأثير المراكز البحثية في القرار السياسي.
في العالم العربي، ثمة خصوصية شديدة، لا بد من التعريج عليها، وهي أن نخب الحكم، لا ترى بديلا عنها في تحليل المعطيات وتقدير المواقف واتخاذ القرار، ومن ثمة، فما يهمها في عملية صناعة القرار بدرجة أولى، هو المعلومات والمعطيات، ومن يبذلها، ومن يوفرها.
وفي هذه الحالة، فإن الأداتين المهتمين لتحصيل ذلك، هما الاستخباري، والإعلامي.
وإذا كان الاستخباري، هو رجل السلطة، ويشتغل لحسابها، فإن التعدد الذي يطبع طبيعة الإعلامي، تجعل السلطة السياسية دائما في علاقة ملتبسة معه، محكومة في الغالب بمنطق الولاء والبراء، أي تقريب الإعلامي الذي يشتغل لأجندتها، وخوض معركة مع الذي لا يشتغل لأجندتها، حتى ولو كان في مربع الحياد، فلا حياد في معركة حيازة المعلومات، لأنها قضية حيوية في صناعة القرار، بل قضية حيوية في صراع الإرادات.
في العالم العربي، ثمة خصوصية شديدة، لا بد من التعريج عليها، وهي أن نخب الحكم، لا ترى بديلا عنها في تحليل المعطيات وتقدير المواقف واتخاذ القرار، ومن ثمة، فما يهمها في عملية صناعة القرار بدرجة أولى، هو المعلومات والمعطيات، ومن يبذلها، ومن يوفرها.
لا تمتلك مراكز الأبحاث في العالم العربي قدرات ولا إمكانات مهمة تعينها على المنافسة في مجال امتلاك المعلومات والمعطيات، فاشتغالها في هذا الحقل وثائقي (الاعتماد على الوثائق)، يعتمد التعامل مع المعطيات التي توفرها الدولة بمصالحها المختلفة، لا إنتاج معلومات خاصة لا تتوفر الدولة عليها، أو حصلت عليها بطرقها الخاصة.
ولذلك، تنظر السلطة إلى المخرجات البحثية لهذه المراكز نظرة براغماتية، فما كان يدعم وجهة نظرها، وما اتجهت إليه سياساتها، يتم توظيفه باعتبار ما يقوم به من دور الدعم والإسناد والشرعنة، وما يتعارض مع سياساتها، فيتم التعاطي معه بالإهمال، أو بالنظر إليه باعتبار مجرد منتج أكاديمي، بعيد عن الحثيات والشروط التي تتطلبها عملية صناعة القرار.
تجليات ذلك، أن شخصية السفير في السياسات الخارجية، أو شخصية الوالي والعامل والمحافظ في السياسات الداخلية، هي ذات تأثير لا يقارن بشخصية مراكز الأبحاث، كما أن شخصية الملحق الإعلامي بالسفارة أو غيره من رجال السفارة الذين يبذلون الجهد في تحصيل المعلومات في الخارج، وكذا الجهات الإعلامية التي تشتغل لأجندة السلطة في الداخل، هي في نظر صانع القرار السياسي، أهم بكثير من أي جهد أو مخرجات بحثية يمكن أن تبذلها مراكز البحث.
صانع القرار السياسي والصيغة الجديدة للانفتاح على الصناعة البحثية
بيد أن ذلك لا يعني بالضرورة أن المراكز البحثية تأخذ مكانة دنيا في تمثلات صانع القرار السياسي في العالم العربي، فالدينامية المسارعة التي عرفتها عملية تأسيس المراكز البحثية في العالم العربي، وتركز اهتماماتها في مجال السياسات الخارجية والقضايا الاستراتيجية والأمنية، تؤشر على شعور صانع القرار السياسي بضرورة الانفتاح على هذه المراكز، بل ضرورة إيجاد صيغة ما للتعامل معها وتوظيفها.
فالانفتاح على هذه المراكز يعطي صورة عن الطبيعة العقلانية للقرار السياسي، وأنه ليس قرارا مزاجيا، ولا سلطويا، وإنما هو قرار ناتج عن مدارسة وتفكير وتفاعل مع معطيات الصناعة البحثية.
ومن جهة أخرى، فالقدرات المعرفية والأكاديمية التي تمتلكها المراكز البحثية تمكنها من تفسير السياسات والمواقف والقرارات بنحو لا تستطيعه السلطة نفسها المنتجة للقرار.
وفضلا عن هذا وذاك، فالسلطة لا تريد دائما أن تكون في واجهة تبرير سياستها ومواقفها، فهي تحتاج في كثير من الأحيان لواجهات بحثية تكف عنها معركة التواصل الإعلامي مع المجتمع الأكاديمي والإعلامي، بل وتعينها في معارك كثيرة مع خصومها.
من هذه الزاوية، اختار صناع القرار السياسي طرقا متعددة للتعاطي مع مراكز الأبحاث، فمنهم من اتجه منحى التوظيف، أي تشغيل هذه المراكز كواجهات لشرعنة المواقف والسياسات والدفاع عنها أكاديميا وإعلاميا وحتى سياسيا. ومنهم، من اتجه منحى، وضع هذه المراكز البحثية في الصورة، وتوجيه بوصلتها لخدمة أجندة السلطة في مخرجاتها البحثية.
ومنهم من اتجه منحى تشغيل هذه المراكز البحثية، كأدوات لتقوية دور واجهات أخرى في مجال توسيع دائرة المعطيات والمعلومات التي يريدها صانع القرار السياسي، لكن دون أن تبذل هذه المراكز جهدا في تحليل هذه المعطيات ووضع خلاصاتها في شكل توصيات بين صانع القرار، فهذه العملية، هي اختصاص حصري له دون غيره. ومنهم من اتجه في منحى آخر، قريب من المنحى الذي اتخذته بعض المراكز البحثية الغربية ذات الطبيعة التجارية، أي وضع المراكز البحثية في خدمة التسويق للسياسات التي ينتجها صانع القرار السياسي، أو محاولة إخراج هذه السياسات ضمن قالب فني يتمتع بالمقبولية الداخلية أو الخارجية.
هذه الأشكال من التعاطي من قبل صانع القرار السياسي، فضلا عن محدودية هذه المراكز في بذل المعلومة وتوفير المعطيات اللازمة لبناء القرار السياسي وترشيده، جعلت منها مراكز للإسناد والدعم والتسويغ، أكثر منها مراكز موجهة ومؤثرة في القرار السياسي العربي.