في الأشهر الأخيرة، يلاحظ المتتبع للشأن
التونسي تزايد الدعوات إلى "عسكرة" الشأن العام، أي إلى تدخل المؤسسة العسكرية لإدارة الملفات التي عجزت عنها المؤسسات المدنية أو أدارتها بصورة لا تُرضي دعاة تلك العسكرة.
وقد يكون من المبالغة أن نرى في هذه الدعوات ظاهرة سياسية غير مسبوقة، إذ لم تخل تونس منذ الثورة من بعض الأصوات الفردية - وغير المؤثرة - التي لا تخفي مناصرتها لأي انقلاب عسكري في الداخل والخارج، بل لا تخفي ترحيبها بأي تدخل أجنبي مباشر لحماية "النمط المجتمعي التونسي" ومحاربة "أعدائه"، أي الإسلاميين. تكمن خصوصية الدعوات الأخيرة في أنها لم تعد تصدر من مواقع تلفظ فردية، بل أصبحت تصدر من ممثلي مؤسسات وهيئات حكومية، ومن شخصيات ذات ثقل في المحفلَين السياسي والمدني.
وسنحاول في هذا المقال أن نقف عند أهم ما يميز دعوات "العسكرة" في تونس من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية:
- هل إن "الاستقواء" بالمؤسسة العسكرية يعني الدعوة إلى "انقلاب عسكري" بالمعنى المعروف للانقلاب، أم هو ضرب من "تَونسة" المشاريع الانقلابية العسكرية بمراعاة الخصوصية التونسية، خاصةً عقيدة المؤسسة العسكرية البعيدة عن الثقافة الانقلابية؟
- ما علاقة هذه "العسكرة" المطلوبة بـ"مشروع الرئيس" وبكل الدعوات إلى مركزة
السلطة في قرطاج حتى قبل أي تعديل دستوري لنظام الحكم؟
- هل إن رفض "العسكرة" والانحياز للانتقال الديمقراطي - رغم كل هناته - يعني بالضرورة التطبيع مع الفساد أو إنكار "أزمة الثقة" بين المواطنين ومؤسسات "الدولة المدنية"؟
لو بحثنا عن المشترك في الخطابات الداعية إلى "عسكرة" المشهد العام في تونس، فإننا سنجد أنها تصدر جميعا عمّا تُسمى بـ"القوى
الديمقراطية" أو الحداثية أو التقدمية. إن "القوى الديمقراطية" في بلادنا هي في الأغلب الأعم تلك القوى التي لا تستمد هويتها/ شرعيتها من "تحققها" بقيم الديمقراطية الليبرالية، سواء في أدبياتها أو تاريخها أو مواقفها بعد الثورة، بل من ادعاءاتها الذاتية باحتكار الديمقراطية وتعارضها الجذري - المُدار بمفردات النفي المطلق وبروح الحرب - مع "الإسلام السياسي" أو ما تُسمّى بـ"القوى الرجعية الدينية".
ورغم غلبة الوعي الانقلابي على هذه القوى السياسية والمدنية والنقابية منذ المرحلة التأسيسية، فإنها لا تدعو إلى الحكم العسكري - أي تولي العسكريين الحكم مباشرة - بل هي تدعو إلى "الاستقواء" بالمؤسسة العسكرية لكن تحت غطاء سياسي مدني وجدوه في الرئيس
قيس سعيد. إن "العسكرة" في هذا المنظور ليست دعوة للانقلاب على الحكم المدني، بل هي دعوة إلى حكم "المستبد العادل" (الرئيس قيس سعيد) الذي سيوظف المؤسسة العسكرية لتحقيق ما عجزت عنه المؤسسات المدنية (محاربة الفساد والتطرف). وبالطبع، فإن هذه الأطروحة تتأسس على مسلمتين لا تحتاجان للبرهنة:
1- صدق الرئيس وطوباويته بحيث لن يكون في أسوأ الأحوال إلا مستبدا عادلا سيقايض بعض الحريات العامة والخاصة بالرفاه العام، ولكنه لن يتحول إلى مشروع للاستبداد الشرقي أو مدخلا لإعادة تدوير لوبيات الفساد في المنظومة القديمة (على عكس الحزام السياسي لحكومة هشام المشيشي).
2- وطنية الجيش التونسي واستحالة أن يطلب السلطة لذاته، وهو ما يعني أن هذه المؤسسة ستكون أداة في المشروع "الإصلاحي" ولن يكون لها مشروع مستقل أو معارض لإرادة "المستبد العادل".
إن العسكرة - من هذا المنظور - ليست مشروعا للانقلاب على الانتقال الديمقراطي برمته، بل هي انقلاب على بعض مكوّنات النظام التونسي (سلطة مجلس النواب، سلطة القضاء المدني، القانون المنظم للسلطات) من أجل مركزة السلطات وتجميعها بين يدي الرئيس لا العسكر.
ولا شك في أن هذه الدعوات قد تكتسب بعضا من جاذبيتها من تعثّر الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، ومن "سوء سمعة" المجلس النيابي والمؤسسات القضائية على حد سواء. ولكن عوض "تجذير" الانتقال الديمقراطي ومعالجة انحرافاته، تتبنى دعوات العسكرة مقاربات انقلابية تحاول شرعنتها بموضوع محاربة الفساد أو التطرف. إنها مقاربات قد تعبّر في حدها الأدنى عن مطلب مشروع هو العودة إلى النظام الرئاسي، ولكنها في أغلب الأحيان تتجاوز هذا المطلب لتصبح دعوة للانقلاب على بعض السلطات القائمة (تحديدا رئاستي الحكومة والبرلمان) والدعوة إلى فرض واقع سياسي جديد لا علاقة له بصناديق الاقتراع ولا بالقانون المنظم للسلطات.
لا يستطيع أي تونسي أن ينكر وضع الانسداد السياسي والأزمة الاقتصادية والصحية التي تكاد تعصف بالبلاد. ولكنّ ربط هذه الوضعية بطرف سياسي معين - كائنا من كان - دون بقية الشركاء السياسيين والاجتماعيين، ودون استحضار تاريخ الدولة الوطنية وخياراتها الكبرى منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا - هو ضرب من التلبيس والتزييف. فلا الحزام الحكومي يتحمل مسؤولية الأزمة بمفرده، ولا الرئيس وحلفاؤه يتحملون المسؤولية بمفردهم.
إنهم جميعا مسؤولون وإن بدرجات متفاوتة عن "الأزمات الدورية" التي تعرفها تونس، تلك الأزمات التي لا يدخر "الانقلابوقراطيون" جهدا لاستثمارها، لا لتقديم بدائل عقلانية وتوافقية تخرجنا منها، بل لتعميقها قصد هندسة مشهد سياسي جديد. وقد يكون من نافلة القول أن نُذكّر هنا بأن الاستراتيجية "الانقلابوقراطية" تقتضي بناء منظومة حجاجية ذات شقين:
- شق أول تُطرح فيه "العسكرة" باعتبارها مطلبا شعبيا من جهة أولى، ومطلبا نخبويا من جهة ثانية (وهو ينعكس في تواتر الدعوات لتدخل المؤسسة العسكرية أو للالتجاء إليها لحل الخلافات القضائية والسياسية، وآخر تلك الدعوات للعسكرة ما صرح به هشام السنوسي عضو الهيئة العليا المستقلة للاتصال من نية هيئته - وهي هيئة منتهية الصلاحية قانونيا - الالتجاء لمجلس الأمن القومي لفض خلافاتها مع بعض وسائل الإعلام).
- شق ثان يوصم فيه كل المعارضين بأنهم "خوانجية" (إسلاميون)، أو على الأقل مؤيدين للحزام الحكومي"الفاسد"، وهو ما يجعل الانقسام أو الاصطفاف لا يتم على أساس انقلابي/ مؤمن بالانتقال الديمقراطى، بل على أساس ديمقراطي/ خوانجي أو داعم للفساد.
ختاما، من المؤكد أن "الانقلابوقراطيين" ينتمون إلى الطابور الاستعماري الفرنسي كما يسميهم المحلل السياسي والمناضل العروبي أحمد الغيلوفي. ومن المرجح أيضا أنّ الموقف الأقرب للعقلانية والبراغماتية الآن وهنا هو معارضة هؤلاء الانقلابيين في إطار ما يسميه المناضل السياسي الحبيب بوعجيلة بالانحياز التكتيكي (أي الانحياز للقوى التي تضمن الحد الأدنى من شروط الانتقال الديمقراطي وترفض منطق الانقلاب رغم أنها لا تمثل بديلا وطنيا حقيقيا).
ولكنّ الإشكال يكمن في أن أغلب خصوم "الطابور الاستعماري الفرنسي" ليسوا في نهاية التحليل إلا "بنك احتياط" لذلك الطابور الاستعماري، وهو ما أثبتته العديد من الوقائع والمواقف بعد الثورة. كما إن الإشكال يكمن في أن الانحياز التكتيكي ضد القوي الانقلابية سيُقوي خصومهم السياسيين، ولكنه لن يُعجّل - بالضرورة - بخروج البلد من قبضة يدي الاستعمار ووكلائه في تونس. وهو واقع متناقض يُذكرنا مرة أخرى بالغائب/ المغيب الأبرز في تونس: الكتلة التاريخية، تلك الكتلة التي لن يكون خراج الثورة - إن تواصل تغييبها باعتبارها مخرجا من معارك"الوكلاء" - إلا في خزائن "الطابور الخامس للاستعمار" أو في خزائن بنك احتياطه.. ولو بعد حين.
twitter.com/adel_arabi21