في مثل هذه الأيام، ولكن قبل عشر سنوات، صادق بشار الأسد على مشاريع قرارات كانت حكومته قد اقترحتها حول رفع حال الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة وتنظيم حقّ التظاهر، وقيل يومذاك؛ إنّ الأسد يستجيب لواحد من أبرز المطالب التي رفعتها جماهير الانتفاضة الشعبية. وتلك خلاصة تردّدت يومها في إعلام النظام، وعلى ألسنة مشايعيه خارج سوريا، وكذلك بعض «المعارضين» الذين كانوا أصلا قد توسموا خيرا في «الرئيس الشاب» منذ مهزلة توريثه وترشيحه للرئاسة، وكانت بمنزلة الحبكة الابتدائية الأولى في سردية «الإصلاح» التي قيل إنّ الأسد الابن يعكف عليها.
أمّا آخر المعنيين بتلك القوانين، سواء لجهة الالتزام بها أو المشاركة على الأقلّ في قرع طبول التهليل لها، فقد كانوا حفنة من أوائل قيادات الاستبداد الذين لا تتسع مؤسساتهم وفروعهم وشُعَبهم لأيّ مستوى تطبيقي يخصّ تلك القوانين؛ أو يتيح أيّ انفكاك عن روحية الطوارئ والقمع والعنف العاري المفتوح. في طليعة هؤلاء كان يسهل على المرء، يومذاك، العثور على اللواء علي مملوك، واللواء زهير الحمد، والعميد ثائر العمر، والعميد أنيس سلامة، والعميد حافظ مخلوف (من جهاز المخابرات العامة/ أمن الدولة)، أو اللواء عبد الفتاح قدسية (المخابرات العسكرية)، واللواء جميل حسن (مخابرات القوى الجوية)، واللواء محمد ديب زيتون (شعبة الأمن السياسي). وأمّا في الجيش، فثمة أمثال ماهر الأسد، وسائر ضباط الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري بصفة خاصة.
وليس الأمر أنّ هؤلاء كانوا أقلّ استجابة لمشاريع قرارات صدرت عن مجلس وزراء النظام، وصادق عليها رأس النظام، وصوّت عليها مجلس شعب النظام؛ إذْ إنهم كانوا، بدورهم، أهل النظام وحرّاسه والمنتفعين الأوائل في مزرعته وبيوتات سلطاته ومكاسبه ومفاسده. الأمر، في المقابل، كان أنهم على دراية تامة بالطابع المسرحي والزائف لتلك القرارات، وأنها لم تصدر عن الأسد الابن إلا على سبيل ذرّ الرماد في العيون على السطح والمظهر، ومواصلة نهج الأسد الأب و«الحركة التصحيحية» في الباطن والعمق.
لهذا، في الآن ذاته، كانت قرية البيضا وقرية بساتين إسلام في ظاهر مدينة بانياس الساحلية، وحيّ رأس النبع في قلب المدينة ذاتها، قد شهدت ارتكاب مجازر بحقّ الشيوح والأطفال والنساء، بعد قصف بالمدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ والهاون.
تقاليد عمل أدوات استبداد ما بعد طيّ الأحكام العرفية لم تختلف في الجوهر عن تقاليد ما قبل قرارات رأس النظام حول الطوارئ والمحاكم والتظاهر، وإنْ كانت الأسابيع المتعاقبة في عمر الانتفاضة السورية قد أضافت طُرزا مختلفة من المهام، بدت أكثر تعقيدا في ناظر أولئك الألوية والعمداء والعقداء وسواهم من ضباط أجهزة أمنية تتوزّع على 17 اختصاصا! صحيح أنّ المهامّ الطارئة لم تكن جديدة عليهم تماما، إلا أنها اكتسبت صبغة مختلفة، واستدعت تقنيات مستجدة لم يكونوا على دراية كافية بها قبلئذ، أيام مجازر حماة وجسر الشغور والمشارقة. لقد توجّب عليهم إحياء أساليب الماضي كافة، واستخدامها في قمع مظاهرة في درعا أو دوما أو اللاذقية او بانياس أو حمص أو دير الزور، من دون حرج في إراقة الدماء. ولكن، بعيدا عن العدسات الصغيرة التي يحملها المواطنون في هواتفهم الجوالة، أو آلات التصوير البسيطة التي صارت في متناول اليد!
ثمة رباط وثيق، متعدد الأوجه والأنساق والوظائف، بين بنية الاستبداد كما ورثها الأسد الابن من أبيه، وصانها وطوّرها وزادها وحشية وعنفا وهمجية؛ وبين استعصاء وظائف الأكذوبة، وما أُريد منها أن تشيعه حول «الإصلاح» و«الحساب» و«القانون»
وبالطبع، كان وأد الصورة، مثل استعادة أساليب مجازر أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات، خيارا مستحيلا ينتمي إلى ماضٍ ولّى وانقضى، ومعه انهارت جدران الخوف، الرمزية المجازية أو الواقعية الفعلية، إزاء شبح عنصر المخابرات، القاهر القاتل المروّع الذي لا يحاسبه قانون، بل تعطيه القوانين ترخيصا بالقتل العشوائي، وتمنحه حصانة من أيّ وكلّ حساب. ولقد اتضح أنّ ثقافة الصورة هذه، واندراجها ضمن ثقافة أخرى في التدوين والتوثيق والتواصل الاجتماعي أوسع نطاقا وأبعد اثرا، باغتت تقنيات الماضي التي اقتاتت عليها الأجهزة طوال عقود، وجبّت ما قبلها من معادلات في التطويع والترويض والقمع.
من هنا كان استمرار بنية الاستبداد التي شيدتها «الحركة التصحيحية» يقتضي أيضا استيلاد أكاذيب «الإصلاح» على شاكلة إلغاء الأحكام العرفية، و«الحساب» على مقياس مهازل إقالة الرائد أمجد عباس مسؤول الأمن السياسي في بانياس وبطل تلك الجرائم الهمجية، وتمكين «القانون» على غرار تكليف وزير العدل الإمّعة تيسير القلا عواد برئاسة ما سُمّيت «لجنة التحقيق في أحداث درعا واللاذقية»، ومحاسبة عاطف نجيب ابن خالة رأس النظام وبطل مجازر درعا.
فإذا افترض امرؤ أنّ إلغاء الأحكام العرفية سوف يجد أيّ مستوى من التطبيق (كما استبشر البعض هنا وهناك، وبينهم نفر من «المعارضين» إياهم)، فما الذي كان سيتبقى من «واجبات» أمام اللواء عبد الفتاح قدسية، رئيس إدارة المخابرات العسكرية؟ هل كان سيكفّ عن اعتقال المعارضين المدنيين، ويتفرّغ مثلا لكشف ألغاز ملفّ اغتيال العميد محمد سليمان، على شواطئ طرطوس، وإماطة اللثام عن الأسئلة الكثيرة التي اكتنفت العملية: مَن، وكيف، ولماذا؟ وزميله في الاستبداد اللواء جميل حسن، رئيس مخابرات القوى الجوية، هل كان سيتنطح لكشف أسرار قصف موقع «الكبر» العسكري السوري، في ظاهر مدينة دير الزور، وسيكاشف السوريين بحقائق ما جرى، فيجيب على أسئلة مماثلة: مَن، وكيف، ولماذا؟ والزميل الثالث، اللواء محمد ديب زيتون، كيف سيفهم وظائف شعبة الأمن السياسي إذا كان إلغاء قوانين الطوارئ سيسمح بحرّية الرأي والمعتقد والتنظيم والتظاهر، وما الذي سيتبقى من علّة وجود هذه «الشعبة» أصلا؟
ثمة رباط وثيق، متعدد الأوجه والأنساق والوظائف، بين بنية الاستبداد كما ورثها الأسد الابن من أبيه، وصانها وطوّرها وزادها وحشية وعنفا وهمجية؛ وبين استعصاء وظائف الأكذوبة، وما أُريد منها أن تشيعه حول «الإصلاح» و«الحساب» و«القانون» طوال عشر سنوات من المجازر والتدمير والتهجير والتطهير الديمغرافي والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية والجرثومية، فضلا عن تسليم سوريا إلى احتلالات إيرانية وروسية وتركية وأمريكية، انضمت إلى الاحتلال الإسرائيلي، وهو رباط وثيق لا يلغي ذلك التطوّر الطبيعي المتمثل في إحالة بعض اولئك الضباط، بقرارات من رأس النظام ذاته، إلى مزابل تاريخ «الحركة التصحيحية»؛ إمّا لأنّ أدوارهم انتهت على طريقة البطاريات التي نفد شحنها ولم تعد تقبل أيّ تجديد، فباتت أقرب إلى العبء منها إلى المعونة، أو لأنّ عشر سنوات من اهتلاك آلة القمع ومنظومات الاستبداد تكفلت باهتراء أطقمها أيضا، أو لأنّ سلطات النظام الأمنية والعسكرية باتت بيد الضباط الروس في قاعدة حميميم وضباط «الحرس الثوري» الإيراني هنا وهناك على أرض سوريا.
وليست المصائر المتغايرة الراهنة لأمثال مجرم حرب مثل حافظ مخلوف، أو شقيقه في السلاح العسكري سهيل الحسن، أو قدوتهم في احتساء دماء السوريين جميل حسن، سوى أمثولة الأسد الابن لمصائر مماثلة سبق أن آل إليها أمثال رفعت الأسد وعلي دوبا وعلي حيدر وشفيق فياض وناجي جميل، في عقود الأسد الأب. وتلك المصائر تنفع، أيضا، في استقصاء المزيد من خصائص «الحركة التصحيحية» البنيوية التكوينية التي تأصلت أكثر من ذي قبل، في ظلّ الشعار المبكّر الذي رفعه الوريث: حافظ الأسد يحكمنا من قبره! ولم يكن عجيبا أنّ عبد الحليم خدام، أكذب «منشقّ» عن النظام، لم يطرب لإلغاء الأحكام العرفية، فأطلق الهرطقة التالية: ليست الأحكام هي التي تعتقل الناس!
وكيف لا، وهو أحد صنّاع البنية ذاتها، وممّن استعصت عليهم شتى الطرائق في تمرير أكاذيبها.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
بشار الكيماوي وانتخاباته الرئاسية