أفكَار

هل استنفذت نظرية المقاصد أغراضها لدى الإسلاميين ومفكريهم؟

أولى لوازم الفكر المقاصدي الوظيفي برزت مع الإمام حسن البنا (فيسبوك)

أثار الدكتور وصفي عاشور في إحدى مداخلاته العلمية ملاحظة مهمة بخصوص سياق تشكل نظرية المقاصد أو سياق التداعي إليها في الفكر الإصلاحي، وذكر أن هذا السياق غالبا ما يكون محكوما بالأزمة، فقد تتبع سياق تطور الفكر المقاصدي منذ بداياته الجنينية الأولى، أي منذ لحظة أبي حامد الغزالي، إلى زمن بروز الحركة الإسلامية المعاصرة، ولاحظ أن المشترك الذي يجمع كل المحطات التي وقع فيها التداعي إلى نظرية المقاصد، هو الأزمة، بما في ذلك لحظة الشاطبي، الذي أسس لهذه النظرية، وأرسى قواعدها وأركانها.

لا يهمنا الرجوع بعيدا إلى الوراء، ولا الدخول في مناقشة تختبر صدقية هذه الأطروحة التفسيرية، لكن ما يهمنا بدرجة الأولى، هو وضع وظيفية هذه النظرية ضمن النظر التاريخي، أي اختبار فعاليتها في تدبير الأزمة، والجواب الذي قدمته، على الأقل في اللحظة المعاصرة، وهل مكنت الحركات الإسلامية من إنتاج الجواب الذي يبرر إنهاء الكلام عن الأزمة؟ أي في المحصلة، ما يهم هذا المقال النقدي، هو النظر في أفق هذه النظرية، وهل لا تزال قادرة على القيام بما أنيط بها من وظائف، أم أنها استنفذت أغراضها، وانتقل مفكرو الحركات الإصلاحية عنها إلى غيرها؟

نظرية المقاصد في سياقها المعرفي ووظيفتها الواقعية

يرجع الاهتمام بنظرية المقاصد في الحالة المعاصرة إلى ما تركته الحركة الإصلاحية الأولى من إرث معرفي بهذا الخصوص، فقد برز الاهتمام بهذه النظرية مع الإمام محمد عبده ورشيد رضا، فالأول اهتم بوظيفتها، أي بما تتيحه من إمكانيات للتكيف بين الإسلام وبين المدنية العصرية، بينما اهتم الثاني، بالجهد المعرفي، تعريفا بالنظرية، وبيانا لأسسها وقواعدها، ولفتا للانتباه لأبعادها الأصولية والمنهجية.

لكن، مع التكامل الذي تحقق بين الاشتغال المعرفي (رشيد رضا) والاشتغال الوظيفي (محمد عبده)، إلا أن الاهتمام بالمقاصد في لحظتهما، لم يتعد الجوانب المعرفية المتصلة بالتحقيق والتعريف والشرح والتأصيل وبعض الاستدلال، أي لم يتحقق ما كان يقصده الشاطبي من نظريته، من الانتقال بالعقل الفقهي من مستوى النظر الأصولي التقليدي، الذي يرتهن إلى فهم النص في مستوى الدلالة اللغوية، أو استنباط الحكم في مستوى القياس على النص، إلى النظر الأصولي، الذي يقوم بعملية تنهيج للعقل المسلم، وتملكيه القدرة على مواجهة مشكلات الواقع من منظور التقدير المصلحي.

 

من السابق لأوانه اليوم الحديث عن نهاية نظرية المقاصد، وبداية بروز نظرية أخرى ترتكز على مفهوم القيم، لكن، من خلال دراسة مؤشرات الاهتمام بالبعد المقاصدي في المجال المعرفي وفي الاشتغال الحركي، يبدو أن المساحة بدأت تتقلص، وبدأت في المقابل، مساحة أخرى تمتلئ،

 



وللإنصاف، فقد تحقق قدر مهم من التراكم المعرفي، في المجال التعريفي بالنظرية، بحيث تأمن حضورها بشكل وازن في البحث الأصولي، وصارت ضمن لواحق النظر الأصولي التقليدي، أي مجرد مكمل، أو مسوغ، يضفي للاستدلال الفقهي التقليدي بعض الانسجام المنطقي، ويوفر له نسبة أعلى من المقبولية، والمخاطبة لأوسع نخب المجتمع.

مع رواد الحركة الإسلامية، وعلمائها ومفكريها، ستأخذ نظرية المقاصد مكانا أوسع، إذ سيتم الالتجاء إليها لتحقيق وظيفيتين اثنتين: أولهما، هو تبرير المراجعات الداخلية، للانتقال من فكر الصدام والمفاصلة والحاكمية إلى فكر الاندماج والمشاركة السياسية والإقناع بضرورة مشاركة المرأة في الفضاء العام. وثانيهما، إعطاء سعة أكبر للعقل الحركي، للتكيف مع معطيات الواقع السياسي، ومع قضاياه المختلفة، فالعقل الأصولي التقليدي، لم يقدم الإطار الأشمل للنظر إلى هذه القضايا، بل ورث ثنائية انقسامية خطيرة داخل الحقل الإسلامي، تنظر إلى قضايا الواقع السياسي بمنطق التحليل أم التحريم.

والحقيقة أن أولى لوازم الفكر المقاصدي الوظيفي برزت مع الإمام حسن البنا، لاسيما في رسالة التعاليم التي تختصر أصوله وقواعد فكره وحركته، وقد أثمر النظر المقاصدي في لحظة البنا، مواقف عديدة حققت بها الحركة الإسلامية توسعا أكبر، وجنبتها اصطدامات كثيرة، بل وساعدتها في ترتيب جبهات المعركة، بشكل يراعي إمكانات الحركة ومدى جاهزيتها، فقد اتجه نظر البنا إلى بناء مشروعه بالارتكاز أولا على البعد التربوي والدعوي والعلمي، وتأجيل قضية مواجهة الاستعمار البريطاني، مع ما كان يعبر عنه من مواقف واضحة بشأن دور الاستعمار البريطاني في شل حركة الأمة وتدمير مقدراتها وإلزام أهلها عيش الذل والصغار، كما أثمر النظر المقاصدي موقفه من المشاركة السياسية، والذي تأخر إلى الأربعينيات، مع أن شروط التوسع الجماهيري والاستيعاب السياسي بالنسبة إليه، قد بدأت قبل ذلك بكثير.

لكن هذه التأثيرات المقاصدية، سرعان ما ستجمد بعد اغتياله، لاسيما مع الثورة، وبالتحديد عند لحظة  تدبير العلاقة بين الحركة وبين الثورة، وما ترتب عن ذلك من نقل الصراع إلى الداخل الإخواني (خلاف التأسيسية المعروف في الكتابات التأريخية لجماعة الإخوان)، فكان قدر التفكير المقاصدي داخل جماعة الإخوان، أن يتبدد بشكل كامل مع المحنة، التي امتدت لعقد ونصف من الزمن، ليبدأ من جديد التداعي  للفكر المقاصدي مع لحظة السادات، والحاجة للتأسيس لفكر تصالحي مع الدولة، بل وفكر استيعابي اندماجي، يستعيد لحظة ما قبل المحنة، ويخلق شروط التوسع الدعوي والتنظيمي.

في هذا السياق، أي لحظة الثمانينيات ثم التسعينيات، سيعرف الفكر المقاصدي أعلى درجات ألقه، من خلال الجهد المعرفي البارز الذي قام به المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وكذا ما قام به الدكتور يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي وغيرهما من مفكري وعلماء الحركة الإسلامية، فضلا عما أنتجته المدرسة الحركية التونسية، من فكر بهذا الخصوص، لاسيما مع جهود الدكتور عبد المجيد النجار، حيث سيصير الفكر المقاصدي هو الخلفية الأصولية والمنهجية للإسلاميين في التعاطي مع الواقع ومعضلاته المختلفة.

سياق تطور الفكر المقاصدي عند الإسلاميين: المعرفي والسياسي

يمكن أن نلحظ ثلاث مستويات من التطور في الفكر المقاصدي عند الإسلاميين:

المستوى الأول، ويهم البعد الاستراتيجي في الموضوع، أي الطموح لجعل المقاصد حالة فكرية عامة لدى الأمة، إذ كان يحذو الإسلاميين، وبشكل خاص علماءهم ومفكريهم، طموح أن يجعلوا من نظرية المقاصد آلية يتقاسمها الجميع في التفكير في معضلات المجتمع، وقد ترجم هذا الطموح على مستوى معرفي، من خلال توجيه الدراسات الأصولية في الجامعات وشعب الدراسات الإسلامية ودراسات الشريعة، إلى بحث المقاصد عند الأصوليين، والفقهاء، والمفسرين، والكلاميين، ورجال التصوف، حتى أضحت كلمة المقاصد حاضرة في عناوين أغلب البحوث الجامعية.

وقد كان القصد من هذا الاشتغال في هذا المستوى هو تعميق وترسيخ فكرة المقاصد في العقل الإسلامي، حتى تتعمم القناعة بأن المقاصد هي نظرية تخترق كل الحقول المعرفية الشرعية، وأن الحاجة إليها، ليست فقط حاجة فقهية أصولية، وإنما هي حاجة حيوية تتعلق بحياة الإنسان وسلوكه ومنهج تفكيره وشكل تعاطيه مع واقعه.

المستوى الثاني، ويهم الجانب المعرفي، لكن من زاوية تحقيق التراكم، وتطوير النظر إلى المقاصد بحيث، يتم إنتاج مفاهيم أصولية عملية، تنقل المقاصد من بعدها النظري الأصولي المجرد إلى بعد عملي واقعي. وقد تم الاشتغال في هذا المستوى على واجهات متعددة، منها ما يرتبط ببحث انسداد النظرية أو انفتاحها، وهل نظرية الشاطبي، تحتاج إلى استدراك، أم أنها مكتملة، لا تحتاج إلا إلى تنهيج العمل، ويمكن في هذا السياق أن ندرج الجدل الأصولي داخل مدارس علماء ومفكري الإسلاميين، حول الضروريات الخمس، وهل هي خمس، أم أكثر من ذلك، وهل تتسع لإضافة ضروريات أخرى، أم لا، وهل مقصد الحرية، حاضر في الضروريات الخمس، أن يحتاج أن يستقل بذاته في الموضوع.

ومع أن هذا الموضوع، قد سبق إليه العلماء الأصوليون من قبل، لكن طرحه داخل الفضاء الحركي، كان له أبعاد أخرى مرتبطة أكثر بحقل الاندماج السياسي، وربما بحقل التأصيل لرؤى ما في العمل السياسي.

ومن هذه الواجهات أيضا، ذلك التوجه الذي ضاق ذرعا بجعل المقاصد من لواحق ومكملات النظر الأصولي التقليدي، فسعى هذا التوجه إلى تحقيق هدفين اثنين، أولهما التأسيس لاستقلالية هذا العلم عن علم الأصول. وثانيهما، طرح فكرة تفعيل المقاصد كما هو الأمر عند جمال عطية، فالرجل أدرك بعد مرحلة طويلة من التأصيل للنظرية المقاصدية، أن السائد في الممارسة الأصولية، هو التعليل بالوصف الظاهر المنضبط، أي أن كل الجهد الذي بذل على مستوى تسويغ الحاجة إلى المقاصد، لم يزح العقل الأصولي التقليدي من مكانه ومن هيمنته على الممارسة الفقهية، ولذلك طرح فكرة تفعيل المقاصد.

ومن الواجهات أيضا ضمن هذا المستوى، ما طرح الشيخ القرضاوي، ضمن مشروعه لفقه الموازنات، وفقه الترجيحات، وفقه  الأولويات والجهد النظري الذي قام به، حتى يعيد ترتيب العقل الإسلامي بهذا الخصوص، ويمكن أن ندرج في هذا السياق، أيضا ما قام الدكتور أحمد الريسوني، وذلك في جهدين منفصلين، انصرف الأول، إلى الانتقال من  نظرية المقاصد إلى البحث عن كليات الشريعة الأساسية، واستقرائها في نصوص القرآن، ومحاولة ربط العقل المسلم بها، وتحكيمها كأصول ضابطة وحاكمة لما عداها من الجزئيات، كما انصرف الثاني إلى الانتقال بالمقاصد من مجرد نظرية أصولية إلى آلية منهجية لحل المشكلات، وذلك من خلال استقراء وتأصيل "نظرية التقريب والتغليب" في نصوص الشرع، حيث حاول البحث عن تطبيقاتها في مختلف  العلوم الإسلامية.

أما المستوى الثالث، فوظيفي، يرتبط بالأفق الذي أرادت الحركة الإسلامية، أن تمده لنظرية المقاصد، ويمكن أن ندرج ضمن هذا المستوى جهود كل من الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور أحمد الريسوني، إذ أن كل منهما اشتغل على جانب. فالشيخ القرضاوي، أراد بشكل عملي فقهي، أن يجعل من المقاصد حالة فكرية عامة تخترق عقل الأمة، بينما اهتم الريسوني، بالجانبين معا، أي التنظيري، من خلال كتابه "مقاصد المقاصد"، الذي اهتم بتأصيل هذه الوظائف وتجديرها في العقل المسلم، ثم جهد آخر، اشترك فيه مع الشيخ القرضاوي، وهو ربط كل مواقفه وفتاويه وكتاباته بالنظر المقاصدي.

هل استنفذت المقاصد أغراضها في فكر الإسلاميين؟

من الصعب الحكم على مستقبل المقاصد في فكر الإسلاميين، وذلك لتباين تجاربهم، ولعدم التساوي بينهم في تشغيل العقل المقاصدي، فضلا عن تسويغ الحاجة للنظر المقاصدي. لكن مع ذلك، يمكن أن نرصد بعض العلامات الفارقة في توجهات الإسلاميين المنهجية والأصولية، سواء على مستوى معرفي، أو على مستوى حركي سياسي.

فعلى المستوى المعرفي، بدأ يتحقق قدر من التراكم على مستوى الانتقال من المقاصد إلى القيم المقاصدية، فقد أنتج كم وازن من الكتابات الإسلامية حول موضوع القيم الحاكمة (قيم قرآنية، قيم مقاصدية، قيم كلية، رؤية كونية)، ووقع قدر مهم من الاختلاف حول القيم المركزية، وما إذا كانت محصورة في قيم التوحيد والتزكية والعمران، كما هو التأصيل عند الدكتور طه جابر العلواني، أم أن الأمر يتسع لأكثر من ذلك، كما وقع التباين أيضا على مستوى تأطير العلاقة بين المقاصد وبين القيم.

وإذا كان الكسب المعرفي في موضوع القيم، لم يفصح فيه عن المغزى من ذلك، وهل يقصد منه جعل القيم الإسلامية بديلا عن المقاصد الشرعية، إذ تكثف الاشتغال أساسا على التأصيل والاستقراء والتخريج والتعريف والإشعار بالأهمية، فإن الكسب الحركي والسياسي، أبان عن جزء أساسي من هذا المغزى، بعد أن  بدأت بعض قيادات الحركة الإسلامية، التي دخلت مربع المشاركة في الحكم، تطرح فكرة القيم الإسلامية الناظمة، وأنه بدل الحديث عن الشريعة الإسلامية ومقاصدها، فالأنسب الحديث عن المرجعية الإسلامية والقيم المركزية التي حرص الإسلام أن يجعلها حاضرة في سلوك الفرد وفي ممارسته، بما في ذلك ممارسته السياسية، من قبيل الاستقامة، والنزاهة، والمصداقية، والإحسان في العمل، وخدمة الناس، وغيرها من القيم التي يرتفع بها السهم الشعبي للفاعل السياسي الإسلامي.

من السابق لأوانه اليوم الحديث عن نهاية نظرية المقاصد، وبداية بروز نظرية أخرى ترتكز على مفهوم القيم، لكن، من خلال دراسة مؤشرات الاهتمام بالبعد المقاصدي في المجال المعرفي وفي الاشتغال الحركي، يبدو أن المساحة بدأت تتقلص، وبدأت في المقابل، مساحة أخرى تمتلئ، ولو بدراسات وأفكار غير مكتملة وغير مؤسسة بشكل كامل حول منظومة القيم، وأشكال تفعيلها في المجتمع والسياسة.