بعد أشهر من الرسائل الضمنية والمباشرة المتبادلة، زار وفد رسمي من الخارجية التركية القاهرةَ بناء على دعوة رسمية من الخارجية
المصرية. وبعد يومين كاملين من المباحثات أصدر الوفدان بياناً مشتركاً وصفا فيه المحادثات بأنها كانت "
صريحة ومعمقة"، دون الحديث عن التوصل لاتفاق ما، وبترك التقرير بشأن الخطوات المستقبلية لما بعد تقييم الجولة الحالية.
بعض المصادر المصرية أشارت إلى أن المحادثات فشلت لأن أهم مطالب النظام المصري، وهو تسليم المعارضين له، لم يلق قبولاً من الوفد التركي، دون تأكيد أو نفي من طرف أنقرة.
فهل ينبغي على
المعارضة المصرية المقيمة على الأراضي التركية أن تقلق أم تطمئن على مستقبلها من مسار الحوار والتقارب المحتمل بين البلدين؟
في الأصل فإن مسار الحوار الحالي بين أنقرة والقاهرة هو من زاوية ما تفاوض قد ينتج عنه اتفاق، وبالتالي فمن الوارد بل من المحتمل تقديم كل طرف للآخر بعضَ ما يمكن أن يرضيه. وعليه، فإن هناك نتائج وارتدادات محتملة على
المعارضة المصرية المقيمة في
تركيا، لكن ما هي؟
مطالبات النظام المصري بتسليم المعارضين المقيمين على الأراضي التركية مبالغ بها، وهي أقرب لرسائل داخلية للاستهلاك المحلي أو بدرجة أقل أوراق ضغط في التفاوض؛ منها كونها شروطاً حقيقية للحوار أو التوصل لاتفاق ما
ينبغي أولاً الإشارة إلى أن مطالبات النظام المصري بتسليم المعارضين المقيمين على الأراضي التركية مبالغ بها، وهي أقرب لرسائل داخلية للاستهلاك المحلي أو بدرجة أقل أوراق ضغط في التفاوض؛ منها كونها شروطاً حقيقية للحوار أو التوصل لاتفاق ما. فلا المعارضة المصرية بكليّتها تشكل اليوم خطراً حقيقياً عليه، ولا هو مطلب واقعي يمكن لأنقرة التجاوب معه.
وعليه، فإنْ كان ثمة عقل سياسي يحكم مسار الحوار الحالي، فإن المصالح الحقيقية التي ينبغي التركيز عليها بعيدة تماماً عن فكرة المعارضة والمعارضين، وتشمل ملفات أكثر أهمية وحساسية مثل شرق المتوسط وليبيا وغيرهما، مما له علاقة بالأمن القومي والطاقة والتحالفات الإقليمية.
أكثر من ذلك، ليس من المقطوع به أن يصل الحوار الحالي إلى مرحلة تطبيع
علاقات كامل بين الجانبين بالضرورة، فثمة عوائق وعقبات كثيرة أمام ذلك، في مقدمتها دور التحالفات والاصطفافات الإقليمية، وكذلك ترقب أي تغيير في الإشارات الصادرة عن الإدارة الأمريكية الجديدة، التي كان لها أثر مهم في مسارات التهدئة والحوار العديدة التي بدأت في المنطقة مؤخراً.
وأخيراً، فإنه حتى لو وصل الجانبان إلى اتفاق يفتح
صفحة جديدة في العلاقات بينهما، فلن يكون أساسها التحالف وإنما الاختلاف/ الخلاف والتنافس، ولكن بعلاقات أكثر هدوءاً وبالتوافق على آليات لحل الإشكاليات وتنظيم التنافس وتجنب الصدام، كحال علاقات تركيا مع أكثر من طرف، مثل روسيا وإيران.
حتى لو وصل الجانبان إلى اتفاق يفتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما، فلن يكون أساسها التحالف وإنما الاختلاف/ الخلاف والتنافس، ولكن بعلاقات أكثر هدوءاً وبالتوافق على آليات لحل الإشكاليات وتنظيم التنافس وتجنب الصدام
وبالتالي، بناء على ما تقدم، فلن يحصل النظام المصري على كل ما يريده أو يطالب به تركيا خلال الحوار الجاري، وخصوصاً ما يتعلق بالمعارضة المتواجدة على أراضيها. لكن ذلك لا يعني أيضاً أنه لن تكون ثمة ارتدادات عليها بالمطلق.
فمن جهة،
تبدو تركيا حريصة جداً على تحسين العلاقات مع مصر، ويتبدى ذلك من خلال التصريحات الكثيرة في هذا الاتجاه، والتي بقي معظمها دون رد أو تعقيب إيجابي من القاهرة. كما يبدو منطقياً في ظل عزلة أنقرة في ملف شرق المتوسط ذي الأولوية والأهمية الاستثنائية المرتبطة بأمن الطاقة والتنافس الجيوسياسي في المنطقة، ورغبتها في خلخلة المحور الإقليمي المواجه لها. وكذلك في ظل بعض المؤشرات المقلقة لها بخصوص مستقبل اتفاقها الموقع مع ليبيا على المدى البعيد، مثل تصريحات وزيرة خارجية حكومة الوحدة الوطنية الليبية مؤخراً، بما يؤكد حاجتها لإبرام اتفاق آخر، وتمثل مصر في هذا الإطار الخيار الأمثل لها.
ومن جهة أخرى، فقد سعت أنقرة لتأطير خطاب الإعلام المصري المعارض الذي يبث من أراضيها كبادرة حسن نية قبل إطلاق الحوار واللقاءات الدبلوماسية، وفق ما ذكرت وسائل الإعلام المعارضة. ولذا، يبدو منطقياً توقع خطوات إضافية محتملة في هذا الاتجاه - أو في تفاصيل أخرى - في المراحل المتقدمة من الحوار، أي حين يكون اتفاق ما على المحك ومشروطاً بخطوات محددة من جانب تركيا.
سعت أنقرة لتأطير خطاب الإعلام المصري المعارض الذي يبث من أراضيها كبادرة حسن نية قبل إطلاق الحوار واللقاءات الدبلوماسية، وفق ما ذكرت وسائل الإعلام المعارضة. ولذا، يبدو منطقياً توقع خطوات إضافية محتملة في هذا الاتجاه - أو في تفاصيل أخرى - في المراحل المتقدمة من الحوار
حسناً، إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يعنيه كل ما سبق عملياً؟
يعني أولاً أن الملف السياسي والإعلامي قد تطرأ عليه خطوات إضافية في المستقبل تسعى لمزيد من التأطير والتحجيم، ونفي صفة التحريض أو الخروج عن السقف المقبول بين الدول.
ويعني أن
تسليم كل المعارضين في تركيا للنظام أمر لا تريده أنقرة، ولا تستطيعه، ولا هو مطلب واقعي أصلاً، لا سيما في ظل ما هو معروف عن أحكام القضاء المسيّسة وعن أوضاع الحقوق والحريات في مصر.
وهناك، بين هذه وتلك، ملف قد يشكل ضغطاً على تركيا في المستقبل، وهو مطالبة النظام المصري ببعض الأفراد الذي صدرت بحقهم أحكام معينة، حيث يتوقع أن يكون الحديث بين الجانبين مستقبلاً أكثر عمقاً وتفصيلاً ويشمل أدلة ووثائق. فإذا ما استطاع النظام المصري إثبات تورط أفراد بعينهم في أعمال عنف، سيكون موقف تركيا حرجاً، وبالتالي قد تحاول إيجاد حلول وسط لهؤلاء، مثل مغادرة هؤلاء أراضيها بخيارهم الذاتي أو بطلب منها، مع العلم أن نفي إمكانية تسليم بعض الأفراد بالكليّة قد لا يكون دقيقاً في هذه الحالة تحديداً.
يبقى أخيراً احتمال في الاتجاه الآخر، أي أن تلعب تركيا في حال تم التوصل لاتفاق ما دوراً إيجابياً لدى النظام المصري فيما يتعلق بمصير المعارضة، من قبيل إتمام مصالحة أو صفقة معينة أو إطلاق سراح بعض المعتقلين أو ما شابه. وهو أمر محتمل بلا شك، وكان وارداً ومتداولاً في السنوات السابقة، لكنه اليوم أقل احتمالاً وليست هناك قرائن قوية تشير إليه في المسار الحالي حتى اللحظة.
وبغض النظر عن مآلات الحوار الحالي بين البلدين، وإذا ما استطاعا فعلاً التوصل لاتفاق ما يضع العلاقات بينهما على سكة جديدة أم لا، إلا أن العلاقات بينهما قد دخلت فعلاً في مرحلة جديدة مع اللقاءات الدبلوماسية الأخيرة وانطلاق الحوار الحالي، لا سيما في ما يتعلق بملف المعارضة المصرية. وفي هذا الإطار تحديداً سيكون من السراب والتحليل الرغبوي توقع عودة عقارب الساعة إلى الوراء، فالسياقات الداخلية في البلدين وكذلك بعض التطورات الإقليمية والدولية تقول بعكس ذلك تماماً، رغم صعوبة تحديد النتائج المتوقعة وجدولها الزمني على وجه الدقة.
twitter.com/saidelhaj