إرث عمره نحو 104 أعوام ما يزال يثير موجات من الغضب والرفض والانتقاد، ولا يزال العرب يحصدون نتائجه حتى اليوم، خلافات حدودية ونزاعات عرقية وصراعات على السلطة.
العملية برمتها كانت عبارة عن خط على الرمال رسمته القوى الاستعمارية، لكنه خط بقي ماثلا للعيان حتى اليوم، رغم أن تلك القوى لا تسيطر فعليا على المناطق الجغرافية التي قسمت آنذاك، لكنه انتهى في إحدى جوانبه الأكثر ظلما وظلاما في إقامة "الدولة اليهودية".
وقعت اتفاقية "سايكس بيكو" بين فرنسا وبريطانيا في 16 أيار/ مايو عام 1916 في إطار تقسيم أراضي الإمبراطورية العثمانية التي كانت توصف بـ"الرجل المريض"، وكانت عبارة عن تبادل وثائق بين وزارات خارجية الدول الثلاث: فرنسا وإنجلترا وروسيا القيصرية.
مثل الحكومة الفرنسية جورج بيكو مندوبا ساميا لمتابعة شؤون الشرق الأدنى، والمندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى مارك سايكس، بإشراف مندوب روسيا، وأسفرت هذه الاجتماعات والمراسلات عن اتفاقية عرفت باسم "اتفاقية القاهرة السرية".
قال سايكس إنه يريد أن "يرسم خطا يبدأ بحرف الألف (يقصد مدينة عكا، التي تسمى بالإنجليزية acre)، وينتهي بالحرف كاف نسبة إلى كركوك"، كما يروي الكاتب البريطاني جيمس بار في كتابه "خط في الرمال". وهذا الخط الأسود يقسم الشرق الأوسط في منتصفه على خرائط الاتفاق من دون أي اعتبار للتوزيع القبلي والعشائري والانتماءات الدينية.
وأسفرت هذه المفاوضات عن اتفاقية ثلاثية سميت اتفاقية "سايكس بيكو"، لتحديد مناطق نفوذ كل دولة على النحو الآتي:
أولا ـ استيلاء فرنسا على غرب سوريا ولبنان وولاية أضنة.
ثانيا ـ استيلاء بريطانيا على منطقة جنوب وأواسط العراق بما فيها مدينة بغداد، وكذلك ميناء عكا وحيفا في فلسطين.
ثالثا ـ استيلاء روسيا على الولايات الأرمنية في تركيا وشمال كردستان.
رابعا ـ حق روسيا في الدفاع عن مصالح الأرثوذكس بالأماكن المقدسة في فلسطين.
خامسا ـ المنطقة المحصورة بين الأقاليم التي تحصل عليها فرنسا، وتلك التي تحصل عليها بريطانيا تكون اتحاد دول عربية أو دولا عربية موحدة، ومع ذلك فإن هذه الدولة تقسم إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، ويشمل النفوذ الفرنسي شرق بلاد الشام وولاية الموصل، بينما النفوذ البريطاني يمتد إلى شرق الأردن والجزء الشمالي من ولاية بغداد وحتى الحدود الإيرانية.
سادسا ـ يخضع الجزء الباقي من فلسطين لإدارة دولية.
سابعا ـ يصبح ميناء إسكندرون حرا.
خريطة اتفاقية سايكس بيكو
وبقيت الاتفاقية سرية غير معلنة إلى أن وصل الشيوعيون إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917 فكشفوا عن الاتفاقية فثار العرب بقيادة الشريف الحسين بن علي واضطرت بريطانيا إلى إجراء تعديلات عليها، أدت إلى قيام الدول العربية الحالية. لكن بريطانيا نكثت بوعودها، للعرب ولشريكتيها روسيا وفرنسا، وقدمت وعدها الشهير بإقامة "وطن قومي لليهود"، المعروف بـ"وعد بلفور" في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، الذي أسس للصراع العربي الإسرائيلي.
وبموجب الاتفاق حصلت فرنسا على الجزء الأكبر من بلاد الشام وجزء كبير من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل في العراق، أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعة بالاتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية.
وتقرر وضع المنطقة التي اقتطعت فيما بعد من جنوب سوريا "فلسطين" تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا (لاحقا وبموجب وعد بلفور لليهود أعطيت فلسطين إلى الصهاينة).
لكن الاتفاق نص على منح بريطانيا حيفا وعكا على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا بريطانيا بالمقابل استخدام ميناء إسكندرون الذي كان سيقع في دائرة سيطرتها.
بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وإطباق بريطانيا على أراضي فلسطين والعراق تخلت بريطانيا عن فكرة تقسيم أملاك السلطنة وفق مخطط "سايكس بيكو"، واستخلفتها بنظام الانتداب الذي أقره مؤتمر "سان ريمو" الذي عقدته مع فرنسا في نيسان/ إبريل عام 1920 بهدف تحديد مصير ولايات المشرق العربي المحتلة.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى لم يبق من اتفاق "سايكس بيكو" عمليا سوى الترسيم المبدئي لحدود لبنان والعراق والأردن وفلسطين.
وفي 1922، وبعد سحق الثورات في فلسطين وسوريا والعراق، صادقت عصبة الأمم على وضع هذه المناطق تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني، وبدأ نشاط الحركة الصهيونية لتطبيق وعد بلفور بإقامة "الدولة العبرية".
ومع تراجع دور الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية عالميا لصالح الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي انتقلت بريطانيا في الستينيات والسبعينيات إلى تصفية وجودها في شبه الجزيرة العربية فانسحبت من الكويت عام 1965 ومن محمية عدن عام 1967، وتلتها ترتيبات مماثلة في مسقط وعمان (1970) وقطر والإمارات والبحرين (1971).
وبحسب أستاذ التاريخ في معهد "كوليج دو فرانس" هنري لوران، فإن خارطة سايكس بيكو الأولى "لا علاقة لها بالحدود الحالية، ولم يبق منها عمليا سوى الترسيم المبدئي لحدود لبنان والعراق والأردن وفلسطين".
ويرى لوران، أنه يجب "الكف عن لعب دور الضحية"، معتبرا أن القوميين العرب "رغم إدانتهم لهذه الحدود التعسفية، فإنه لم يتم التشكيك فيها بجدية، لأنها كانت تناسب الجميع". ويتابع بأن "عدم الاستقرار الحالي مرتبط بطبيعة الأنظمة السياسية القائمة، وتدخل ومشاركة قوى إقليمية ودولية منذ القرن الثامن عشر".
ويصف جيمس بار اتفاق "سايكس بيكو" بأنه "لم يكن الخط الفاصل بين منطقتي نفوذ بريطانيا وفرنسا عقلانيا، بل كان فكرة بسيطة: كل شيء هنا عبارة عن رمال، لا داعي للأخذ بعين الاعتبار أراضي القبائل ومسارات الأنهار وقنوات الاتصال الجغرافي. إنه خط هندسي خالص، كل شيء تم بشكل عرضي".
ويعتبر المفكر عبد الوهاب المسيري، في موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية"، أن "الهدف من سايكس بيكو كان بالأساس توطين اليهود في فلسطين، إذ ارتبط الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية، وعلى رأسهم ليونيل والتر روتشيلد، بالمصالح الرأسمالية الإمبريالية البريطانية والفرنسية، التي كانت تريد توسيع رقعة نفوذها في الشرق، وكانت تفكر بحماس شديد في التركة التي سيتركها رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية)".
وروتشيلد، هو من وجه إليه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور رسالة تعهد فيها بوقوف بريطانيا إلى جانب الحركة الصهيونية في سعيها لإقامة وطن لليهود في فلسطين.
يقول ماوروس رواينكوفسكي أستاذ العلوم الإسلامية في قسم العلوم الاجتماعية لجامعة بازل السويسرية: "هناك في العالم العربي ما يشير عبر التاريخ الطويل إلى تآمر الغرب على المشرق وعلى الشعوب العربية أو أيضا على العالم الإسلامي. إذن، فاتفاقية سايكس بيكو تدخل في قالب هذا النوع من نظريات المؤامرة، حيث إنها كانت سرية وتخدم فقط مصالح القوى الكبرى".
المراجع
ـ أحمد عبد الحكيم، بعد 103 أعوام على عقدها... سايكس بيكو مشجب المؤامرة الدائم، إندبندنت عربية، 2019.
ـ جيمس بار، "خط في الرمال"، 2011.
ـ الجزيرة نت، سايكس بيكو، هكذا قسمت الكعكة العربية، 2016.
ـ نظير مجلي، 100 سنة على اتفاقية سايكس بيكو.. والتقسيم مستمر، صحيفة الشرق الأوسط، 2016.
ـ دوتشيه فيله الألماني، قرن على سايكس بيكو "رمز تفوق الغرب وتدخله" في الشرق، 2016.
"أبو شوشة".. مجزرة بشعة بحق فلسطين بقيت مجهولة 47 عاما
سلافة جاد الله.. من مؤسسي سينما الثورة الفلسطينية
70 أسيرا فلسطينيا أعدموا في مجزرة "عين الزيتون"