مرة أخرى يسجل بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه بني غانتس إنجازاً "متميزا" على غزة، في سياق نفس سيناريو المذابح الأولى التي سار عليها الآباء المؤسسون للصهيونية، سيناريو ظل وما زال معروفاً: محاولة إلحاق الهزيمة بالفلسطينيين عن طريق المذابح وقوة التدمير الهائلة للحياة المدنية.
فبعد وقوع السلطة
الفلسطينية في حبائل أوسلو والانتهاء إلى فشل مريع مع الإبقاء على التنسيق الأمني، وبعد وقوع المنظومة العربية الرسمية في حبائل التطبيع مع المؤسسة الصهيونية، أدى ذلك الى تهالك بعض النظام العربي والتوقيع على اتفاقيات مسوخ مع
إسرائيل، لتبقى أحد أسباب جرأة الوحشية المُستَمد منها التغول في الدم الفلسطيني، مع أسباب أخرى مثل انشغال البعض الآخر في إطباق استبداده وفرض القهر والدمار على مجتمعات عربية غائبة عن التصدي للعدوان والتعبير عن رأيها.
كأن تحطيم غزة بمجازر صهيونية متتالية وجه مستمر من وجوه الوجود الفلسطيني، وكأن هذا الوجود لا يعبر عن فلسطينيته إلا إن سال الدم غزيراً بشكل دوري من الجسد الفلسطيني، سواء كان الزمن صيفاً أو شتاء، أو في شهر له صفة القداسة.. لا ينفصل المكان في الضفة والقدس والجليل والمثلث والنقب عن هذا الزمن الدامي، فسفك الدم الفلسطيني متصل بميلاد الظاهرة الصهيونية وترجمتها لنظام فصل عنصري على الأرض، كانت مدخلاً واسعاً لسلسلة مذابح لا تنتهي، وشكلت أيضاً المفتاح الذهبي للبوابة للصهيونية للانقضاض على الأرض.. من قبية وصليحة واللد وعين الزيتون، وكفر قاسم والطنطورة، الى المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي، مروراً بعشرات المذابح التي حملت أسماء قرى ومدن فلسطين.
في ذروة العدوان على غزة، وعلى عموم فلسطين في الضفة والقدس ومدن وبلدات الـ48، تتشابه مرحلة الهجمة والتصدي لسياسة الاقتلاع والاستيطان والعدوان، من حيث المراهنة السياسية الفلسطينية الرسمية على دور أمريكي أو عربي ودولي مورس لثلاثة عقود وانفضح باصطفافه لجانب المشروع الصهيوني، ودفع لتبلور طبقي للسلطة الفلسطينية بالانفصال التام عن الشارع الفلسطيني الملتهب، ما أدى الى توفير ظروف التفسخ والانقسام الحاد بين دعاة مفهوم "التسوية" أو الاستسلام والتطبيع المفروض بقوة الهيمنة الاستعمارية، وبين دعاة مقاومة المشروع الصهيوني، وهم الشعب الفلسطيني كله والشارع العربي الرافض لقبول وجود الفكرة الاستعمارية الاستيطانية على جزء من الأرض العربية.
وجود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، وفرض حالة اشتباك دائم مع المؤسسة الصهيونية، وتفنيد مزاعم وأباطيل الأسرلة والأساطير التلمودية وفضح المواطنة المزعومة، واستمرار
المقاومة في غزة للتصدي للعدوان الصهيوني.. يشير كل ذلك الى وجود متغيرات مبعثها الصمود والتلاحم الوطني الذي عبر عنه الشارع الفلسطيني من رأس الناقورة حتى أم الرشراش.
هذا الطوفان الفلسطيني في مدن فلسطين الـ48، مع محاولات مدن الضفة الخروج من عباءة القمع والتنسيق الأمني، هي سمة رئيسية وإقرار واضح بديمومة الصراع مع المؤسسة الصهيونية، وفشل صارخ في إحداث عملية فصل وتقسيم بين الفلسطينيين، ضحايا المشروع الصهيوني داخل فلسطين التاريخية، وبين بقية المناطق في الضفة والقطاع والشتات الفلسطيني، وبالتالي يعتبر تأزم المؤسسة الصهيونية في إلحاق هزيمة بالشعب الفلسطيني من العوامل المؤثرة على استمراريته، وأن المواجهة بين القاع الشعبي العربي الفلسطيني والمشروع الصهيوني إلغائية.
ولأن الشعب الفلسطيني الوحيد على وجه البسيطة، يواجه آخر قلعة للعنصرية المستبدة بكل ما للكلمة من معنى، فإن
الأمل القادم الذي سيسجل فيه التاريخ أنه قاهر آخر قلعة للعنصرية في العهد الحديث، وما استغراق غزة في مقاومتها في دمها وحطامها وألمها المفزع، إلا نقطة البدء مرة أخرى، لتغمرنا الثقة بأن شعباً كاملاً من اللد وطبريا وحيفا وعكار ونابلس وطولكرم وغزة لا بد له من صنع أيام للفرح، ومن ظن أنه أنهى فرحه بتجوال مختال في التصهين في عواصم عربية وبين أزقة التشرذم والاحتراب والشماتة، صدمته فلسطين سريعاً، ذلك أن حقائق التاريخ والجغرافيا لا تزال قادرة على تأكيد ذاتها.
twitter.com/nizar_sahli