نعم، لقد انهزم الجيش الصهيوني المدجج بأحدث الأسلحة العسكرية والقنابل النووية، وسقطت قبته الحديدية التي كلفته مليارات الدولارات، وقد كان مزهواً بها ظناً أنها تحميه وتردع المقاومة، فأصبحت كهشيم محتظر لا تحمي من القدر، أمام صواريخ المقاومة التي غطت سماء كل المدن الفلسطينية المحتلة، من سديروت وعسقلان إلى أشدود، إلى ديمونا، حيث يوجد فيها مفاعلها النووي، إلى إيلات إلى أم فحم، إلى اللد، إلى نابلس، إلى الخليل، إلى حيفا ويافا، إلى تل أبيب، والتي فرضت المقاومة عليها حظر التجول..
نعم انهزم الكيان الصهيوني، هزيمة استراتيجية كبيرة، لها استحقاقتها الداخلية والخارجية، وهو ما سنشهده في الفترة القادمة.. انهزم رغم كل ما يملكه من أدوات قوة وتكنولوجيا ومال ودعم خارجي منقطع النظير، وتحطمت أسطورة جيشه الذي لا يقهر، عند صخرة معادلة الردع الصاروخي التي فرضتها المقاومة، وفشل في حسم المعركة في ساعات معدودة كما زعم ودخل في مرحلة الاستنزاف، ولم يستطع أن ينفذ تهديده بالاجتياح البري لغزة واحتلالها، رغم حشد دباباته عند تخومها.
نعم لقد مني العدو الصهيوني بهزيمة لم يشهدها منذ زُرع كيانه السرطاني في قلب الوطن العربي عام 1948، ولم يحقق أيا من أهدافه أمام شعب تحتشد ضده كل قوى الشر في العالم وتحاصره براً وبحراً وجواً منذ خمسة عشر عاما، ولا يملك من العتاد العسكري إلا القليل نسبيا مما طوروه بسواعدهم وعقولهم، ولكنه يملك ما هو أهم، وهو الإيمان بوطنه فلسطين وبقضيته العادلة، وهذ ما يجعله يتشبث بأرضه ويصر على تحريرها والحصول على حريته مهما كلفه ذلك من تضحيات وفداء بالنفس والضني.
استطاعت هذه الفئة القليلة أن تطأطئ رأس نتنياهو وتمرغ أنف الصهاينة في التراب..
نعم، لقد انتصرت المقاومة الفلسطينية، باعتراف العدو الصهيوني نفسه، وعلى لسان المسؤولين السياسيين والجنرالات العسكريين، والمحللين الاستراتيجيين والسياسيين الذين كانوا يصرخون على شاشات التلفزة، خوفاً على كيانهم الذي بات أوهن من بيت العنكبوت، وهو ما عبر عنه مانشيت جريدة معاريف العبرية، التي عنونت: "الدولة تحترق"..
لقد كتب الجنرال "يائير جولان"، نائب رئيس أركان الجيش الصهيوني السابق وعضو لجنة الأمن في الكنيست وعضو اللجنة الفرعية للاستخبارات، مقالاً بصحيفة "هارتس" العبرية يوم الاثنين الماضي، أحصى فيه الإنجازات الضخمة التي حققتها حماس في الحرب، وسخر من إعلان نتنياهو النصر في أعقاب العدوان..
نعم لقد انتصرت المقاومة بخنوع نتنياهو واضطراره للإعلان عن وقف إطلاق النار دون قيد أو شرط، هرباً من صواريخ المقاومة، التي جعلت جنوده ينامون على بطونهم، رعباً وفزعاً منها، وجعلت المستوطنين الصهاينة في المدن الفلسطينية المحتلة، يهرعون هلعا وخوفاً إلى الملاجئ يختبئون داخها، وخلت المدن من المارة والسيارات وبدت كمدن الأشباح لا يسكنها إنس ولا جان..
لقد وصلت صواريخ المقاومة إلى مطار بن غوريون وشلت الحركة فيه، وتوقفت معه كل مطارات الكيان الصهيوني والملاحة الجوية فيه تماماً..
وكانت الطامة الكبري لدولة الاحتلال، حينما وصلت
الصواريخ إلى منصات الغاز في البحر المتوسط، وضرب أحد أهم مشاريعها الإستراتيجية؛
خط أنابيب "إيلات عسقلان"، بصواريخ المقاومة المتطورة التى تصل عمقها
إلى 250 كيلومترا، والتي أطلق عليها صواريخ "عياش" (نسبة للقيادي في
كتائب القسام "يحيي عياش" الذي اغتاله الاحتلال سابقا)، ما تسبب في
تعطيل العمل في الخط، وقد كان الكيان الصهيوني يقدمه للعالم كبديل عن قناة السويس،
ولكنهم اضطروا لإغلاقه. كما تم إغلاق بعض منصات استخراج الغاز، مما يقلص رغبة الشركات
العالمية في الاستثمار فى قطاع الغاز والعزوف عنه.
لقد سطرت المقاومة الفلسطينية، ملحمة أسطورية في نضالها ضد الكيان الصهيوني، والتحم الشعب الفلسطيني بكامل طوائفه وانتماءته الدينية والحزبيه حولها، في مشهد فريد لم تشهده فلسطين من ذي قبل، حتى في انتفاضة عام 1936.. مشهد سجله التاريخ في ذاكرة الأمة، وبالتأكيد سوف تبني المقاومة عليه استراتيجيتها فيما بعد، وهو أيضا مشهد لن يغيب عن ذاكرة الكيان الصهيوني، والذي سيجعله يعيش في رعب وفزع دائمين من تصدع جبهته الداخلية والتي قد تؤدي لانهياره..
بعد أن اشتعلت جذوة الانتفاضة في القدس، وامتد لهيبها لكل الآراضي الفلسطينية من النهر إلى البحر، ولم تعد تقتصر على القدس وغزة، بل امتدت للضفة وللأراضي المحتلة عام 1948، وحدث الإضراب العام وزلزلت الأرض من تحت أقدام الصهاينة، لم تستطع سلطات الاحتلال أن تطرد الفلسطينيين سكان حي الشيخ جراح من بيوتهم، كما استطاعوا من قبل في باقي الأراضي الفلسطينية التي احتلوها..
فلأول مرة منذ النكبة، يجتمع النضال الفلسطيني في كل بقعة من الأرض الفلسطينية؛ وذلك لربط المقاومة في قطاع غزة مدينة القدس بقواعد الاشتباك، وهكذا سقطت المؤامرة الصهيونية لفصل غزة عن محيطها الفلسطيني، واستطاعت المقاومة من موقعها في غزة حماية المسجد الأقصى، وأصبحت مدينة القدس تحت وصاية المقاومة، وليس تحت وصاية سلطة التنسيق الأمني العميلة، بل أصبحت كل الأراضي الفلسطينية في حماية المقاومة دون أدنى مبالغة. فقد رأينا في احتفالات النصر، المسيرات الشعبية الضخمة تحمل أعلام حماس وصور شهداء المقاومة تملأ شوارع القدس ورام الله واللد ونابلس وباقى المدن الفلسطينية المحتلة، وسط التكبيرات والهتافت باسم القائدين "محمد ضيف"، "أبو عبيدة"، وهذا لم يكن ليتحقق لولا انتصار المقاومة في معركة "سيف القدس"..
لقد اقترع الفلسطينيون على خيار المقاومة، ووجدوها أسرع وأنجع الطرق لتحرير أرض فلسطين، وأسقطوا خيار السلام الاستراتيجي الزائف، وخديعة أوسلو التي أضاعت القضية الفلسطينية، وأسقطوا رجال أوسلو وسلطة التنسيق الأمني، الذي اختفى رئيسها محمود عباس عن الأحداث، وكأن ما يجري في فلسطين لا يعنيه. وحسناً فعل، فقد كانت الدول الوسيطة تتفاوض مباشرة مع المقاومة، فقد أصبح لها اليد العليا في فلسطين، وفي يدها القرار، وهي القوى المتغلبة على الأرض، ولو كان لدى عباس بعض من الحياء لاستقال على الفور، قبل أن يعزله شعبه..
كل هذا ويجيء حفنة من شذاذ العرب المتصهينين، يتبجحون بأن المقاومة لم تنتصر، وأن الكيان الصهيوني لم يُهزم، بل إنه انتصر وقتل وأصاب من الفلسطينيين المئات وقصف الأبراج السكنية في غزة فوق رؤوس ساكنيها، بينما لم يُقتل من الجانب الصهيوني إلا أعداد قليلة تُعد على الأصابع!!
وهل هذا هو مقياس النصر والهزيمة في المعارك لدى الصهاينة العرب؟!
لا بأس، لأنهم لا يعرفون تاريخ الصراع العربي الصهيوني ولا حيثياته، فلنفهمهم ما هو غائب عنهم.
فمعنى لجوء العدو إلى قصف المباني السكنية وقتل المدنيين أنه هزيمة عسكرية له، فهو لم يستطع أن يوجه سلاحه إلى العسكريين، ولم يستطع أن ينال من قادة المقاومة ويقتلهم كما وعد، ولم تستطع قبته الحديدية أن تمنع صواريخهم، فلما يئس من تحقيق أهدافه العسكرية، وتحقيق أي بند من بنوده في ما يُسمى "بنك الأهداف العسكرية"، من ضرب المواقع العسكرية ومخازن الأسلحة، ومصانع إنتاج القذائف الصاروخية وقواعد التدريب والمواقع القتالية، والمعسكرات والأنفاق، وأماكن تواجد الكوادر العسكرية، وأين ينامون، فقدَ أعصابه واستعمل العمليات القذرة المعتادة في حروبه، والتي تبتعد تماماً عن قواعد وأصول وشروط المعارك الحربية، وشرف الجيوش العسكرية، فاتجه إلى المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، لينال منهم وليُحدث حالة من الرعب بين صفوفهم، كي يكونوا قوة ضغط على المقاومة لتكف عن إطلاق الصواريخ.
ولكن هذا جاء بنتائج عكسية، إذ ازداد التفاف الأهالي حول المقاومة، وزاد دعمهم لها لتواصل القتال، وتحولت بيوت الشهداء لأفراح توزع فيها الحلويات، وتنطلق منها الزغاريد. فلقد شهدنا الأم الثكلى تفتخر بأنها قدمت أبناءها الثلاثة فداءً لفلسطين، وتزف ابنها الشهيد وسط موجة من التكبيرات والزغاريد، وتتوعد الصهاينة بابنها الرابع، كما أننا شهدنا صاحب البرج المهدم يقف مع بناته، وسط ركام البرج شامخين.
وهل قتل النساء والأطفال والشيوخ، وهدم المباني السكنية على رؤوس ساكنيها يُعتبر نصراً في عُرف الصهاينة العرب؟! أم خسة وعارا وإجراما، على مرتكبيها وعلى مَن يناصرهم؟!
عذراً، فالمطبعون العرب قد فقدوا أعصابهم من القدرات المُذهلة للمقاومة، ومن التطور الهائل لأسلحتها القتالية، وصواريخها التي وصلت إلى عمق فلسطين المحتلة، فاختل توازنهم مثل حليفهم الصهيوني، حتى وصل الأمر لمذيعة قناة "العربية" الناطقة بالعبرية، وهي قناة سعودية تبث من دبي، أن تصرخ وتتساءل بحنق: كيف سمحوا لحماس أن تطور صواريخها إلى هذا الحد؟ وأين كانت السلطة الإسرائيلية، ولماذا لم تمنعها؟! ويجيبها المحلل السياسي العربي المتصهين بأسى وحزن، ويضع اللوم على نتنياهو لعدم قضائه على حماس مبكراً وتركها لحين تطوير قدراتها القتالية، ويزيد من صراخه وتحريضه على المقاومة.. إلى آخر تلك الصرخات التي لم يستطيعوا كتمانها أو إخفاء غيظهم في صدورهم بعيداً عن الأنظار، كي لا نشمت في حسرتهم من ضياع الأموال والشرف والسمعة بعد تطبيعهم، لكنهم هم مَن فضحوا أنفسهم بمواقفهم المخزية والمشينة أثناء المعركة!
لقد أسقطت معركة "سيف القدس"، الأنظمة العربية المتصهينة في بئر الخيانة، وأسقطت معها اتفاقيات أبراهام، التي عبرت عنها صحيفة "الإندبندنت" البريطانية بأنها "تبدو اليوم كأنها حاشية في التاريخ ولا تستحق الورق الذي كتبت عليه"، وأضافت أن مجموعة الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، بدت في موقف حرج مع تدهور سمعة إسرائيل في جميع أنحاء العالم بعد هجومها على قطاع غزة ومعاملتها السيئة للفلسطينيين..
لقد أسقطت معركة "سيف القدس"، أيضا صفقة القرن وكل المشاريع الاستعمارية من استيطان وتوطين وما شابهما..
لقد أنعشت معركة "سيف القدس" قلوب الشعوب العربية، بعدما أثقلتها الأحزان من كثرة هزائم الأمة، وبعثت الأمل في نفوس كسرتها روح الانهزامية التي أشاعها الإعلام العربي الانهزامي، وأعادت الثقة بالمقاومة وقدرتها على النصر، وأحدثت نقلة نوعية في العقل الجمعي العربي تجاه فلسطين، وأحيت الوجدان العربي من جديد، بعد أن ردمه غبار أنظمة الاستبداد، وظهر معدنه الحقيقي ورفع البوصلة مجدداً ناحية فلسطين.. وأعادت للمقاومة وجهها الحقيقي، كحركة تحرر وطني ضد المحتل، وفق جميع الشرائع والمواثيق الدولية، بعد محاولات خبيثة لشيطانتها إعلامياً ونعتها بالإرهاب.
لقد أعطى الشعب الفلسطيني، المدافع عن أرضه وكرامته وحريته، درساً للعدو لن ينساه، فهنيئاً له بنصره المؤزر، وهنيئاً لكل أمتنا العربية والإسلامية، بل وهنيئاً لكل أحرار العالم الذين خرجوا بعشرات الآلاف في العديد من عواصم الدول الغربية، رافعين الأعلام الفلسطينية مناصرين وداعمين للفلسطينيين ومنددين بالمحتل الصهيوني، وهو مشهد كان غائباً عنا منذ زمن ليس بالقصير، ولكنه عاد بفضل معركة "سيف القدس".
twitter.com/amiraaboelfetou
المواجهة الشاملة مع الاحتلال وقدرتها على عرقلة مشاريع التهويد