لم تجد إسبانيا بدّا من الاستنجاد بأصدقائها الأوربيين في مواجهة "تصعيد" مغربي، أتى بعد أسابيع من مهلة منحتها الرباط لمدريد لعلها تصلح ما اعتبره المغرب "اختبارا حقيقيا" لصدقية علاقات الجوار الطيبة التي تجمع البلدين. الخطوة الإسبانية تمثلت في استقبال زعيم جبهة البوليسايو، التي تحمل السلاح في مواجهة المغرب سعيا لاستقلال الصحراء، والرد المغربي كان في فتح المجال للراغبين في الهجرة إلى سبتة، المدينة المغربية المحتلة، ومن خلالها إلى "الفردوس" الأوروبي.
ليس من سلاح أشد وطأة على الأوروبيين من سلاح الهجرة غير النظامية وتوقيف التعاون الأمني لدفعها إلى الاهتمام بقضية يعتبرها المغرب "مصيرية" ولا تحتمل اللعب على الحبلين. أردوغان جرب الوصفة قبل سنوات فوجدت أوروبا نفسها أمام جحافل وأفواج من طالبي اللجوء لم تنفعها أسلاكها الشائكة ولا تسييج بعض بلدانها من وقف تدفقها، مع ما حمله ذلك من مخاطر أمنية كبيرة ظهرت نتائجها في عدد من العمليات التي استهدفت مدنها وعواصمها.
إسبانيا التي ظلت لأسابيع تلوك موقفها في أن ليس لديها ما تضيفه من "تبريرات" لاستقبالها "سرا" الانفصالي إبراهيم غالي، أو المواطن الجزائري محمد بن بطوش، كما يشير إليه جواز سفره الذي دخل به الأراضي الإيبرية، أو محمد بن عبدالله الذي سجل به في المستشفى، اضطرت مع الخطوة المغربية إلى الإسهال في تقديم التصريحات من الاستنكار إلى التهديد إلى الحديث عن حلول ديبلوماسية تلوح في الأفق وغيرها.
وبين الخطوتين (الفعل ورد الفعل) يُسجل للرباط ثباتها على الموقف المنادي بمعالجة سبب الأزمة المعلن واعتبارها "خطيرة" وقابلة للتأزيم أكثر إن اختارت مدريد الهروب إلى الأمام وإخراج ابراهيم غالي من المستشفى كما دخله دون محاكمة أو عقاب. الاتحاد الأوروبي، بادر إلى نصرة الأصدقاء الإسبان حيث صرح نائب رئيسة المفوضية الأوربية مارغاريتيس شيناس أن "أوروبا لن تسمح لأحد بترهيبها"، كما حذرت المفوضة الأوروبية للشؤون الداخلية إيلفا جوهانسون، من أن "الحدود الإسبانية حدود أوروبية". حرب البيانات لم تتوقف عند هذا الحد حين بادرت الخارجية المغربية لوصف الموقف الأوروبي بـ "التسلط والغطرسة والدفاع عن الاستعمار".
وفي مواجهة التكتل الأوروبي لم يسمع لـ "الأصدقاء" العرب ولا لجامعتهم صوت يدعم الموقف المغربي ولو ببيان أو تصريح، نعرف مسبقا أن لا قيمة له على الأرض، لكنه قد يكون أضعف الإيمان. بعض العرب اليوم مشغول بمحاولة الاستفادة من نتائج معركة "سيف القدس"، بتقديم الخدمات للتوسط بين المقاومة والكيان، بعد أن كان أقصى أمانيهم تلقي مكالمة من جو بايدن أو وزير خارجيته دون تقريع أو إثارة لمواضيع داخلية متعلقة بحقوق الإنسان، لم تكن الصدور المرصعة بالنياشين العسكرية بقادرة على الرد عليها. والبعض الآخر منشغل باستدعاء سفراء دولة لبنان للاحتجاج على جمل وردت في لقاء تلفزيوني لوزير خارجيتها أعاد فيها الحديث عن اغتيال جمال خاشقجي بعد أن حسبها القوم نسيا منسي.
أما آخرون فمشغولون بحضور مؤتمرات الاسترزاق بسعي البحث عن الشرعية والذريعة البحث عن تمويل اقتصاداتهم المتهاوية. أما الجار الأقرب، فقد أصدر سلطاته العليا تعليماتها للحكومة بوقف العلاقات التعاقدية لمجموعة من مؤسساتها مع كيانات أجنبية، ومنع تحويل الأرباح المترتبة عنها إلى الخارج دون إخلال، مخافة الوقوع في دائرة "الغدر والتواطؤ"، والسبب أن الشركات تلك قريبة من "لوبيات أجنبية معادية للجزائر"، والمقصود كان شركات مغربية تنشط في مجالي التأمينات والإعلان. وإن كان الإسبان والأوربيون للمغرب من "الأعدقاء" فهؤلاء هم الأعداء لا ريب.
شيء من التاريخ
في شهر نيسان (أبريل) من العام 1988، تعرضت طائرة الجابرية الكويتية لعملية اختطاف حول مسارها إلى الجزائر العاصمة، وهناك فُتِحت قنوات التفاوض مع الخاطفين. انتهت العملية بمقتل مواطنين كويتين وباتفاق يقضي بعدم اعتقال الخاطفين. بعد عقود من العملية كشف محمد الطاهر عبد السلام، المكلف وقتها بالتفاوض باعتبارها عقيدا في المخابرات الجزائرية، في فيلم وثائقي بثته قناة العربية قبل أشهر، عن مصير الخاطفين بالقول: "كانوا ضيوفا عندنا. مكثوا في الجزائر مدة شهر ثم غادروا. منحناهم ملابس جزائرية وزودناهم بجوازات سفر. كان يسافر أحدهم كل أسبوع تقريبا إلى دمشق بجواز سفر طالب يرافقه شخصان للحماية إلى أن وصلوا جميعهم إلى لبنان. حتى السوريين لم يكونوا يعلمون أن هؤلاء الشباب هم الخاطفون. دخلوا سوريا على أساس أنهم طلبة جزائريون بغرض الدراسة في لبنان".
وفي 30 كانون الثاني (يناير) من العام 1992، وصل الراحل جورج حبش، زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلى باريس، بشكل "مفاجئ"، وهو في حالة صحية خطيرة بغية العلاج بإحدى مستشفياتها. سبب الحدث وقتها أزمة سياسية عاصفة بفرنسا انتهت بإقالة بعض المسؤولين من الصف الثاني. بعدها بسنوات، كشف ماهر الطاهر، مسؤول دائرة العلاقات السياسية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أن جورج حبش توجه إلى فرنسا للعلاج بجواز سفر جزائري. وفي مذكراته، تحدث جان لوي بروغيير، قاضي التحقيق في قضايا الإرهاب، كيف سعى إلى استنطاق واعتقال الزعيم الفلسطيني، خصوصا وأن تواجده بباريس كان فرصة للوبي الصهيوني للضغط في ذلك الاتجاه.
الأكيد أن الجهات المعنية باستضافة ودعم زعيم البوليساريو لها من الخبرة في تزوير جوازات السفر ما يجعل وصول إبراهيم غالي إلى إسبانيا بجواز "حقيقي / مزور" أمرا طبيعيا ودارجا ولا إحراج فيه لمحتضنيه وداعميه بالعدة والعتاد الحربي. السؤال الذي طرحه كثيرون هو: كيف أمكن لإسبانيا، المرتبطة بالمغرب باتفاقية حسن جوار تعود للعام 1991، أن تغامر بعلاقتها التي بنيت على مدار سنوات، رغم التوجس المستحكم في نظرة البلدين الجارين لبعضهما، بدواع "إنسانية" لا تنطلي على أحد؟ وكيف أمكن للسلطات الإسبانية الاعتقاد بإمكانية تحقيق المهمة بسرية لا يمكن لمخابرات الجار الجنوبي اكتشافها؟
تعلم مدريد، ومعها الاتحاد الأوروبي، أن مسألة المطالبة باسترجاع سبتة ومليلية مسألة وقت ليس إلا. وإن كانت الأولوية لقضية الصحراء، فالسلاح الوحيد للقوة الاستعمارية السابقة هو المماطلة والتنسيق مع دول أخرى، كألمانيا والجزائر، للتغطية على الموقف الأمريكي الذي يبدو أنه مستمر مع إدارة بايدن دون تغيير.
المغرب كان واضحا حين استدعى قدرة مخابراته في كشف المخطط وتحدى سلطات مدريد بالكشف عن الملابسات الكاملة للعملية بل إعطاء أسماء أربعة جنرالات عرب كانوا وراء التخطيط لها وما يتبع ذلك من تواطؤات على أرض مدريد.
التعاون الأمني الذي صار تقريبا "معطلا" جعل إسبانيا، حسب خبراء، بلا عينين ولا أذنين. ولعل تجربة سابقة للمغرب في تعليق تعاونه الأمني مع باريس سنة كاملة انتهت بوقوع البلد تحت طائلة عمليات لم تشهدها في تاريخها، ولم ينقذها من استمرار شبحها غير معلومات دقيقة جنبتها حمام دم، فرضت على من سعوا ذات يوم لـ "اعتقال" مدير المخابرات المغربية إلى توشيحه وتوجيه الشكر للمغرب على ما قدمه من معلومات.
عبد الحميد أباعود، الذي كان مهندس تفجيرات باريس تسلل مع أفواج المهاجرين الذين فتحت لهم تركيا الحدود وكانت سلطات باريس الأمنية تعتقده موجودا بـ "دولة الخلافة" بالشام . ولعل تأكيد المغرب على هذا المعطى في بيان لخارجيته يفسر أسباب استدعائه لسفيرة المملكة من برلين، قبل أن تلحق بها السفيرة بمدريد، وحصرها في ثلاث من بينها تسريب معلومات سرية كانت الأجهزة المغربية قد سربتها لنظيرتها الألمانية قبل أن تجدها متداولة في فيديوهات محكوم سابق في قضايا الإرهاب يتخذ من ألمانيا قاعدته لقصف المغرب ومؤسساته بشكل يكاد يكون يوميا. تأكيد على أن الشراكة لا تستقيم إلا إذا شملت مختلف المجالات وابتعدت عن الإضرار بالمصالح الاستراتيجية للشركاء.
"المساعدات" التي تعلن أوروبا ودولها عن تقديمها للمغرب بين الحين والآخر لم تعد محددا لدوره الذي أريد له أن يقتصر على وظيفة "دركي" الحدود. لقد صار بإمكان البلد أن يعلن عن نديته في علاقاته الدولية، والمواجهة في هذا الإطار غير مرهونة بحسابات الربح والخسارة المادية بل بأهمية الدفاع عن الخيارات الإستراتيجية واستقلال القرار الوطني. وفي مواجهة وباء كورونا أظهرت البلد كيف أمكنها تحقيق قدر لا يستهان به من النجاح في احتواء التداعيات الاقتصادية وفي تأمين اللقاحات دونما حاجة لاستجداء "الأعدقاء" الأوربيين. لأجل ذلك آن له، كما كتب وزير الدولة المغربي المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، أن"يمد رجليه"، كما آن للأصدقاء والأعداء أن يعلموا أن كل "فعل له عواقب" كما صرحت سفيرة المملكة بمدريد.
تعلم مدريد، ومعها الاتحاد الأوروبي، أن مسألة المطالبة باسترجاع سبتة ومليلية مسألة وقت ليس إلا. وإن كانت الأولوية لقضية الصحراء، فالسلاح الوحيد للقوة الاستعمارية السابقة هو المماطلة والتنسيق مع دول أخرى، كألمانيا والجزائر، للتغطية على الموقف الأمريكي الذي يبدو أنه مستمر مع إدارة بايدن دون تغيير.
ففي 22 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، استدعت إسبانيا سفيرة المغرب لتقديم توضيحات على خلفية تصريح تحدث فيه رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، عن إمكانية أن "يُفتح الملف (سبتة ومليلية) في يوم ما". وذكرت وكالة الأنباء الإسبانية، أن كاتبة الدولة المكلفة بالشؤون الخارجية، كريستينا غالاش أخبرتها أن الحكومة تتوقع من جميع شركائها احترام سيادة ووحدة أراضي إسبانيا". يأتي هذا في وقت أغلق فيه المغرب المعابر مع المدينتين المحتلتين إيذانا بخنقهما اقتصاديا وهو ما تسبب في احتجاجات متتالية من الإسبان.
للجغرافيا حقائقها التي لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها، وللتاريخ سطوة تسيطر على الأذهان. سبتة ومليلية جزء لا يتجزأ من التراب الجغرافي المغربي، أكثر من جزيرة ليلى التي كادت تشعل حربا بين البلدين في شهر تموز (يوليو) من العام 2002، والمسيرة الخضراء حدث تاريخي تمكن المغرب من خلالها من دحر الاحتلال الإسباني للصحراء دون حاجة لجيش نظامي. اليوم، تتوجس اسبانيا خيفة من مسيرة قادمة ولو كانت سباحة في اتجاه الجيبين المحتلين حتى حين.
معاهدات الصداقة وحسن الجوار لا تلغي "العداء" الكامن في حقائق الجغرافيا وثنايا التاريخ. المغرب وصف مواقف ألمانيا بـ "العدائية"، واعتبر الرئيس الجزائري المغرب "كيانا معاديا". أما وزيرة الدفاع الإسبانية فوصفت المغرب، في سابقة تعني ما تعنيه، بالعدو الخارجي قبل أن تحاول تدارك الموقف بالحديث عن وضعية جيوبوليتيكية أكثر منها دولة. تلك هي العلاقات بين "الأعدقاء".
التقارب بين تركيا ومصر.. الظروف والمصالح
مخاطر المُغالاة في قراءة التحوّلات الإقليمية