بالموازنة مع تعبير "غير المسبوق"؛ الذي يتردد كثيرا هذه الأيام في وصف حال الإنسانية في مواجهة الجائحة المستجدة، ترد لذهن البعض ضرورة مراجعة بعض التجارب السابقة، وهنا تبرز أهمية تجربة
محمد علي الصحية في مواجهة عدد من
الأوبئة المختلفة؛ شديدة الخطورة، التي واجهت ورافقت محاولاته التحديثية، والتي خرج منها منتصرا بصورة باهرة، على الرغم - بالطبع - من عشرات الآلاف من الضحايا.
التعبير نفسه (غير المسبوق) ينطبق بلا شك على الكثير من مشاريع وتجارب وانتصارات وانكسارات محمد علي. في هذه المقاربة يكتسب سؤال: أيهما أنجح في مواجهة الوباء الأنظمة "الشمولية" السلطوية شديدة المركزية، أم الأنظمة "الديمقراطية" المنفتحة؟ أهمية خاصة، ذلك أن تجربة الباشا في تحديث النظام الصحي في ولايته تزامنت مع بداية ما يعرف بـ"الطِّبُّ المجتمعي" والصحة العامة، الذي عرفته البلدان المتقدمة في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
فكما يذكر ويليام باينَم في كتابه "تاريخ الطب.. مقدمة قصيرة جدا"، فإن "العلاقة بين المريض والطبيب هي الإطار المحدِّد لطب المستشفيات. فالصحة العامة معنِيَّة بالدولة والفرد، وهي أكثر جوانب الطب خفاءً وظهوراً في الوقت ذاته؛ فعندما نذهب إلى المستشفى، لا يلاحِظ كثيرون ذهابنا، ولكن عندما يتفشَّى وباء الإنفلونزا، أو تتلوَّث إمداداتنا من المياه، يكتسب الموضوع أهمِّيَّة إخبارِيَّة".
وإذا يتفق العديد من المؤرخين والكتاب على أن المحور المركزي في تجربة محمد علي هو تحديث المؤسسة العسكرية، وأنه أدرك مبكرا أن ذلك ليس ممكنا من دون تحديث المنظومة الطبية التقليدية، يركز القليلون على الكشف عن ملابسات ومحددات تلك التجربة وعلاقتها بمجالات متنوعة كـ"مرجعية الشريعة"، وتصورات الباشا عن شعبه وسماته الشخصية، وكيفية قيادته.
في فترة مبكرة نسبيا أدرك الباشا الضرورة القصوى لإجراء خطوات "غير مسبوقة"، فقد تزامنت تجربة الباشا مع انتشار عدد من الأوبئة على مستوى الكثير من بقاع العالم، وهدد الطاعون جيشه الناشئ، وغيب الموت نجله طوسون، قائد الجيش، وعددا من خيرة رجاله في إحدى جولاته الباكرة، ووجد لزاما عليه الشروع في استخدام التقنيات الحديثة كالتطعيم والكورنتينة (المحجر الصحي) في مواجهة الطاعون والكوليرا.
في البداية كان الجدري مخيفا؛ فقد كان ضحاياه يقدرون بحوالي 50 ألفا إلى 60 ألف طفل سنويا، وهذا يعني أن الباشا لن يجد في المستقبل شبانا يجندهم، وهكذا طلب في عام 1819 من كتخدا الباشا (نائب الوالي) أن يقوم بوضع برنامج صارم للتطعيم ضد الجدري يتم تنفيذه على مستوى البلاد، وبعد خمس سنوات طلب الوالي من قنصل فرنسا العام "دروفيتي" إحضار عدد من الأطباء الفرنسيين لإدارة نظام التطعيم في الريف
المصري، وجاء منهم ثلاثة وبدأوا العمل في مختلف مديريات الدلتا، وفي العام التالي انتقلوا إلى الصعيد.
وقد قابل المصريين خطط التطعيم؛ الذي توسعت الدولة في تطبيقه عنوة، بحالة رفض شبه مطلق. وتشير فاطمة حافظ، في بحثها "المفتي والتحديث: التقنيات الطبية الحديثة وأثرها على مرجعية الشريعة"، إلى أن خطط الباشا التحديثية قوبلت بالرفض. وتذكر أنه عندما سئل الشيخ عليش، مفتي السادة المالكية بمصر (1882)، عن "شرعية" التطعيم أجاب بتحريم تلك "النازلة التي عمت فيها البلوى وأجبر الظلمة وأعداء الدين العامة عليها".
وتذكر فاطمة حافظ أن "الجبرتي استهجن (1822) ما رآه من اعتقاد محمد علي ورجاله في الكورنتينة وأنها تمنع الطاعون، ونحا باللائمة على قاضي الشريعة "الذي يحقق قولهم ويمشي على مذهبهم"، وفسر مواقفهم بما عرف عنهم من الرغبة في الحياة الدنيا والخوف من الموت". وتبرز أن موقف الأهالي تطابق مع موقف الجبرتي ذاك، فحين أُمهل أهالي الجيزة بضعة أيام للتزود بالطعام والاحتياجات الضرورية لمواصلة الكورنتينة، فر معظم السكان أمام قسوة الحظر المفروض على المدينة. أما أهالي الإسكندرية فقد تحركوا ضد الإجراءات المفروضة على المدينة، ورفعوا خطابا إلى الباشا ذكروا فيه أن الإجراءات المتبعة في الكورنتينة تصادم الشرع، حيث تحرق جثث المتوفين المصابين بالطاعون بالجير، ويقوم الأطباء بفحص أجساد النسوة المتوفيات.
تتبع حافظ بعضا من جدل تحديث الباشا وموقف المُفتون منه، فقد اختلفوا بشأن جواز الكورنتينة. فالشيخ محمد سليمان المناعي (1832) ذهب إلى عم جوازها ووضع رسالة في ذلك، لكن الشيخ محمد بيرم الثاني (1831)، مفتي السادة الحنفية في تونس، نقض ما ورد فيها في رسالة أسماها "حُسنُ النبأ بجواز التحفظ عن الوبأ"، وأثبت فيها صحة العدوى وجواز العمل بالكورنتينة، معللا ذلك بأنه مما يدخل في "الأمور العادية" وليس شأنا دينيا، وأن تعاطيها لا ينافي مبدأ التوكل، بل هو "الكمال في الأمور العادية التي أثبتتها التجربة". لكن "الغلبة كانت لتيار الرفض الذي نظر إلى هذه التقنيات بوصفها منتجا غربيا لا يتوافق مع عقيدة أهل الإسلام، بل يراد إقحامه على يد النخب الحاكمة قسرا".
في مواجهة إصرار "رجال الشريعة" على رفض خطط التحديث في مجال
الصحة العامة، يبدو أن موقف الباشا والنخبة الحاكمة كان خطوة للأمام، لكن بعض التقصي يكشف عن طبيعته، فقد كان الباشا على قناعة بأن رفض الأهالي للتطعيم والكورنتينة ناشئ عن كونهم "عديمي الإدراك" و"حيوانات لا يفرقون الخير من الشر"، وبالطبع لم يبذل هو ورجاله الكثير في إقناعهم بضرورة وجدوى تلك الإجراءات.
وينبه خالد فهمي في كتابه "كل رجال الباشا" إلى أن الباشا "لم يخف رأيه تجاه سكان مصر الذي كان في غاية السلبية، إذ كان يحتقر الفلاحين ولم يكن يحترمهم إلا من حيث هم مصدر لقوة العمل الشاق الرخيصة. فذات يوم أمر بترجمة قانون معين من لغة أوروبية بحيث يمكن أن يطبق في مصر، غير أنه أمر المترجم بألا ينسخ القانون الأوروبي بلا تبصر، لأن القانون يناسب "الأوروبيين (وهم) شعب متنور متحضر. أما شعبنا فمثل بهائم البراري، فلن يكون هذا القانون بالبداهية مناسبا لهم". وفي مناسبة أخرى قال: "إن سكان ولايتنا (مصر) من ثلاثة أنواع؛ أولها أناس لا يعنيهم سوى أنفسهم، وثانيا أناس وإن كان من الممكن أن يكونوا مخلصين وطيبين، فإنهم يفتقرون لأي قدرة على التحفظ، أما أفراد النوع الثالث فلا يختلفون عن الحيوانات".
أما مسألة أهمية توعية السكان بضرورة إجراءات الصحة العامة فتبرز عندما يستعرض فهمي آراء الباشا في رعاياه المصريين، والمنطق الكامن خلف سياساته في التعليم. "فالباشا بالرغم من تمجيده في كثير من الأحيان لقيامه بنشر التعليم، كان يحتفظ مع ذلك بتحفظات قوية تجاه تعليم العامة. ففي خطاب إلى ابنه إبراهيم يجيب فيه على طلبه بفتح مدارس جديدة وإدخال المزيد من السكان المصريين المحليين فيها، قال إنه لا ينوي مطلقا أن ينشر التعليم بين العامة في مصر، ولفت نظر ابنه إلى ما حدث لملوك أوروبا حين حاولوا أن يعلموا الفقراء، وأضاف إن عليه (إبراهيم) أن يقنع بتعليم عدد محدود من الناس يستطيعون أن يتولوا مناصب رئيسية في الإدارة، وينبذ فكرة التعليم العام. وحتى بعد أن أنشأ هذه المدارس كان كثيرا ما يعبر عن استيائه لأنها ممتلئة في معظمها بطلاب مصريين يتحدثون العربية".
وتبدو معضلة الباشا هنا مزدوجة؛ فهو إذ أدرك ضرورة التعليم والصحة لبناء جيشه يصطدم بعدد من المحددات، فالجاهزون لرفد آلته العسكرية والتعليمية في أغلبهم هم من المتخرجين من الأزهر؛ لأنهم يشكلون الفئة الوحيدة من الرجال غير الأميين في البلاد، وهؤلاء مشحونون بطاقة ما آلفوه من معتقدات. ثم إنه بإدراكه أن الحصول على قوات عسكرية تتمتع بالصحة يتطلب العناية بالوضع الصحي العام للسكان ككل؛ مدفوع للمضي فى أكثر من اتجاه، لكنه لم يتخل لحظة عن رأيه في المواطنين الذين يفرض عليهم برنامجه وخططه ومشاريعه، وتلك بعض أوجه المعضلة المستجدة مع جائحتنا الراهنة وإن بصور أكثر مخاتلة.