فن الممكن، هو التعريف الأشهر للسياسة ولعبتها، حيث يقتضي الحال من السياسيين الحصول على كل ما يريدون بكل الأساليب الممكنة وغير الممكنة.
وبالنظر لهذا التعريف ستجد الكل يستخدمه في تطبيق وبرهنة وجهات النظر، ليس في السياسة العربية وحسب، بل سياسة العالم أجمع، وستجدها تتكرر كثيراً حين ذكرك لـ"القضية
الفلسطينية". وذلك لما لها من ظروف استثنائية الكل يعلمها، من تضييق دولي وعربي، وضعف إمكانيات، وانقسام داخلي، وعزلة مجتمعية، وفارق في القوة العسكرية والمادية والدعم الدولي بين
المقاومة وإسرائيل، وغيرها من المعطيات التي تجبر المتحدث على الاستشهاد بنظرية الحصول على ما تريد بأي طريقة كانت.
التحديات التي تخوض معاركها المقاومة الفلسطينية قبل معاركها مع الاحتلال يأتي على رأسها الاستمرارية في المقاومة، فبقاء المقاومة الفلسطينية ومصطلح "القضية الفلسطينية" ونزاعات القدس والتهجير مرهون ببقاء آخر أمل للفلسطينيين، وهو المقاومة المسلحة تجاه العدوان الإسرائيلي. فصراع البقاء هنا ليس فيه نزاهة اختيار، بل حتمية بقاء واستمرار، رغم انعدام الإمكانيات.
الصراع الأصعب بعد الاستمرارية هو صراع "الاستقلال" وعدم الانصياع لسياسات الداعمين - إن وجدوا - فقواعد اللعبة السياسية تشير إلى أن
الدعم ولو بكلمة أو تأييد يكون بمقابل، وما تتطلع له
إيران من توسع في المنطقة العربية وفرض سيطرتها العسكرية والمذهبية على أراضي الشرق الأوسط، يجعل من دعم إيران لحماس هدفا مذهبيا بحتا، وهو الصراع الأكبر لحماس والأصعب لقياداتها، وكأن العدل بين الأمرين كالعبور من ثقب مَخيط، وفرضية الواقع أجبرت
حماس على العبور من هذا الثقب، وفي رحلة عبور حماس ظهرت تعاونات لها مع إيران.
علاقة حماس مع إيران كانت ضرورية إلى أبعد الحدود وسط ظلمات الصمت العربي، وخذلان المجتمع الدولي، وإن شئت فقل: كانت قشة النجاة للمقاومة وأمل البقاء الوحيد، والسند القويم لصد التمدد اليهودي في الأراضي الفلسطينية.
فما طبيعة العلاقة السياسية بين حماس وإيران؟
وكيف تدير قيادة المقاومة ملف التعاون العسكري بينهما؟
وهل حقاً حماس وقعت في فخ إيران المعروف دولياً والتي لم تنكره يوماً وهو توظيف الكتل والأحزاب للترويج لمذهبها الشيعي؟ وما هو المقابل الذي تنتظره إيران من هذه الدعم؟
بداية.. ما بين إيران وحماس تستطيع أن تُرجعه لعدة عواملِ، منها ما يعود لإيران نفسها وما يدور فيها داخلياً من صراعات وتقلبات وتحديداً بعد نجاح ثورة الخميني عام 1979، وأخرى تعود لحماس ونضالها، وأخيرة تتعلق بالدول العربية وتمحور القضية الفلسطينية بين العرب.
بالتمعن في العلاقة الإيرانية بالقضية الفلسطينية، نجد أن الخميني الذي ثار على نظام الشاة استغل العلاقة الوثيقة بين نظام الشاة وإسرائيل، بل كانت من أهم معاول الهدم الذي استخدمها الخميني في ثورته عليه ونظامه، واستخدم الخميني نفس السلاح الذي هدم به نظام الشاة في بناء نظامه الجديد، كنقيض لما كان.
وكثورة بخلفية إسلامية بدأ توثيق العلاقة الإيرانية بالقضية الفلسطينية ونُصرتها. فبعد نجاح الثورة مباشرةً أعلن الخميني تخصيص آخر جمعة من كل رمضان تحت مسمى "يوم القدس"، ليأكدوا رفضهم احتلال إسرائيل للقدس وتضامنهم مع القضية الفلسطينية، ويتم حشد وإقامة المظاهرات المناهضة لليهود في هذا اليوم. فاستطاع الخميني أن يكسب تأييد ثورته والاعتراف بشرعيته عربيا بفضل إعلانه تأييد القضية الفلسطينية من أول أيامه، والهدف الثاني من كل هذا الدعم كان كسب الشعبية والتعاطف الشعبي في كل الدول العربية.
في أواخر الثمانينات وتحديداً سنة 87 تأسست حركة المقاومة الفلسطينية "حماس"، المختلفة تماماً عن حركة "الجهاد الإسلامي" التي لم تنتشر اجتماعيا ولم تتفاعل سياسياً وظلت كما هي منذ نشأتها، حيث ولدت حماس من رحم جماعة الإخوان المسلمين، الجماعة التي تمتاز بالتنظيم الكامل ودقة التنسيق بشهادة الجميع.
وبدأت حماس في التمدد المحلي وبناء الشبكات الاجتماعية، وتأسيس ما يضمن لها الدعم الاقتصادي، ثم الجمعيات الخيرية، واستقطاب الشباب، بالضبط كما يفعل الإخوان.
قوة حماس ظهرت منذ بدايتها وأشار الجميع بأنها هي الوريث الفعلي لـ"ياسر عرفات"، وذلك بعد الشيخوخة التي ضربت حركة "فتح" و"منظمة التحرير الفلسطينية"، بعد الخسارة الشعبية الكبيرة لهما عقب اتفاقية أوسلو سنة 1993، والتي اعتبرها الشعب تفريطا في حقوق الفلسطينيين وتطبيعا مع الصهاينة، فرفض معطياتها ونتائجها وكل الداعمين لها.
وبزغ نجم حماس أكثر وأكثر حين انخرطت في صفوف المقاومة الشعبية المسلحة بشكل لاحظه الجميع، أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر الثمانينات، مما ساعدها على الانتشار السريع وكسب ثقة الفلسطينيين.
ذاع صيت حماس بين الدول والشعوب، وبدأت إيران في التقرب من حماس لتنفيذ أجندتها التوسعية في المنطقة العربية، وتم التواصل مع قياداتها ثم الإعلان عن أول مؤتمر إيراني لدعم القضية الفلسطينية في إيران بحضور القيادي الحمساوي "عماد العلمي"، وأعلنت إيران يومها فتح مكتب لحماس في طهران بقيادة "العلمي"، المُبعد من فلسطين بأوامر إسرائيلية.
بعد تطبيق نظرية "فن الممكن" التي تحدثنا عليها مسبقاً، نجد العلاقة الحمساوية الإيرانية طبيعية إلى أبعد الحدود، بل هي من واجبات الاستمرارية في المقاومة. وبالنظر لملف تعاون إيران مع حماس نجد أن العلاقة بينهما مختلفة تماماً عن المنظمات أو الأحزاب والجماعات والحركات الأخرى التي تدعمها إيران، كحزب الله في لبنان، وجماعة الحوثي في اليمن، اللذين يتحركان ميدانياً وسياسياً بتوجيه إيراني مباشر صريح، وبدافع عقائدي مذهبي معلوم للجميع، فبات عملهما ليس من أجل بلادهما، بل لخدمة الأجندة الإيرانية.
أما عن حماس، فنجد أن التقارب الإيراني والتعاونات بينها وطهران لم تخرج عن ملف المقاومة ضد الصهاينة، ولم يحدث يوماً أن أخذت حماس خطوة واحدة للصالح الإيراني، لا في السياسات العربية ولا غيرها، ولم تدخل في خندق إيران في حروبها مع السعودية والإمارات مثلاً.
وعن ملف المقاومة في الداخل الفلسطيني، نجد حماس أيضاً هي المهيمنة على قراراتها، ومستمرة في تنفيذ أهدافها، دون أهداف الداعمين، ولم تنصع يوماً لأي مطلب إيراني، فتجد إيران لا تتدخل في أجندة المقاومة السياسية، ولم تسمح لها حماس في فرض ونشر دعواتها المذهبية داخل فلسطين.
ومن أكبر دلائل استقلال حماس داخلياً وخارجياً، تضييقها وحظرها لأي نشاط شيعي داخل قطاع غزة، بعكس ما تسعى له إيران من نشر للتشيع في الدول العربية والأفريقية. فنجد مثلاً تحركات حماس السريعة بالتضييق ثم حل وحظر حركة "الصابرين" الشيعية، بعد أقل من عام من تأسيسها في غزة، وبعدها تم نزع السلاح من الحركة وتسليم قائدها "هشام سالم" للسلطات الفلسطينية.
كذلك موقف حماس من الثورة السورية، فقد رفضت حماس تأييد بشار وأفعاله الإجرامية تجاه شعبه، وأعلنت رفضها واستنكارها لتحركات النظام السوري أمام الثوار، برغم أن المقر الرئيسي لحماس حين اندلاع الثورة السورية كان في دمشق، وكذلك مكتب رئيس المكتب السياسي لحماس حينها خالد مشعل كان في سوريا. وقد انتقلت قيادات حماس من سوريا إلى قطر، بسبب ذلك. وتأثرت علاقة حماس بحليفتها الوحيدة - إيران - بسبب مموقفها من الثورة السورية، وعرّضت علاقتها بأهم داعميها في الوقت الذي لا يوجد أي بديل للمقاومة لضمان بقائها على قيد الدفاع عن الأراضي الفلسطينية.
كل هذه المواقف وأكثر تدل على سيادة حماس لقراراتها، وانفرادها في التدبير والتحرك السياسي، وعدم الرضوخ أمام تطلعات إيران برغم أنها من أهم الدول التي ساندت حماس في الحصار على غزة عام 2006، وكونها من أهم الداعمين للبرامج العسكرية لحماس وتحديداً صواريخ المقاومة التي أصبحت حديث العالم بعد هدمها لأسطورة القبة الحديدية الإسرائيلية، وبرغم حاجة حماس لإيران ودعمها المادي والعسكري، إلا أن المقاومة وفقط هي الهدف الأسمى لها.
وبعد كل هذه المواقف التي ترفع الحرج عن حماس وتبعد الشكوك والأكاذيب التي تدعي بيع حماس نفسها وسيادتها لإيران مقابل دعمها، نجد من يخرج بعد انتهاء الحرب الأخيرة على فلسطين لينتقد شكر حماس لإيران على دعمها في الحرب، وإمدادها بالأسلحة والأموال. والحقيقة أن حماس والمقاومة الفلسطينية استفادت من إيران في استمرارية المقاومة والصمود أمام الفارق المادي والعسكري الإسرائيلي.. وفي الوقت الذي تخلت أنظمة عربية سنية عن القضية الفلسطينية، كان القائد العسكري الإيراني "قاسم سليماني" الذي اغتالته أمريكا مطلع عام 2020، يخصص وحدة كاملة من قواته لدعم تطوير أسلحة حماس، ولهذا نعته حماس في بيان لها يوم اغتياله.
فما كان شكر حماس لإيران إلا اعترافاً بدعمها القديم منذ الثمانينات والمستمر حتى اليوم، والفارق بشكل كبير بل هو أهم عوامل استمرار الحركة في المقاومة ضد المحتل الصهيوني، والمتابع للأحداث سيفهم طبيعة هذا التعاون وما تفعله حماس للحفاظ على استقلاليتها وتوحيد هدفها، وعدم الحياد عنه، والعمل لصالح المقاومة ضد المحتل، وصالح الشعب الفلسطيني.
ولا ينبغي أن ننسى أن السياسة هي فن اللعب بالمعطيات للتحكم في النتائج، وفي ظل ما تعانيه حماس من ظروف ذكرنها مسبقاً، لا تستطيع أن تلومها على هذه التعاون، ولكن ما نؤمن به هو أن حماس تجيد ممارسة "فن الممكن".