قضايا وآراء

لقد رأينا فيهم يوما.. ماذا يعني ذلك؟

1300x600

لطالما سمعت مرارا وتكرارا، أمنية تردّدت على ألسنة كبار السن -رجالا ونساء- وذلك قبل نحو ثلاثين عاما، ونحن نعيد استجماع الرواية الشفوية الفلسطينية، من مصادرها الأولية، وشهودها الأحياء المتبقين، حول حوادث ثورة 1939 وأحداث "سقوط البلاد" أو نكبة 1948. وقد غدا هؤلاء في سوادهم الأعظم أمواتا وفي دار الحق.. سمعتهم وقد وثّقت ذلك، يتمنون على الله أن يحييهم "بَس تَيشوفوا يوم في الصهاينة الغزاة، قبل أن يموتوا". 

 

وها هو قد جاء هذا اليوم، الذي رأى فيه أبناء الجيل الثاني والثالث في الصهاينة والغزاة يوما مشهودا في مواجهة معركة "سيف القدس" الأخيرة، التي خاضها رجال فلسطينيون خُلَّص، بسلاح فلسطيني خالص!! 

 

روت لي ابنة أختي (أم لطفلين، وهي من الجيل الثالث) وتقيم في إحدى أعلى القرى في جبال رام الله، التي يشاهد فيها السهل الساحلي بوضوح، خاصة منطقة يافا -تل أبيب والمحيط الذي يسمونه "غوش دان" وترى أضواء مدنه بوضوح، ويمكن أيضا تمييز خط مياه البحر الأزرق في الأفق البعيد في الأيام والليالي الصافية.. قالت لي تخبرني عن مشاهداتها ومشاهدة جموع أهل القرية لمناظر الصواريخ الفلسطينية وهي تدك ذلك الساحل المغتصَبْ، قالت: كنا نخرج للشوارع المطلة وشرفات البيوت، ونأخذ بالتكبير والدموع تنفجر من عيوننا فرحا وابتهاجا.

 

قال لي صديق فتحاوي في سجن هداريم قبل سنوات: "لو صادفتني قبل سنوات قليلة لأنكرتني الآن، فقد كنت أمقت "حماس" بحكم التربية والتنشئة والتعبئة، ولكن عندما سمعت صواريخ المقاومة من غزة تدبّ من حول السجن الذي كنت فيه، دبّت واشتعلت في رأسي الأسئلة: أليس هذا سلاحا فلسطينيا؛ أليس هذا خلاصة وترجمة لنضالنا الوطني المجيد؟ كيف حدث ذلك؟ يعني غدا لدينا حركة نضالية فلسطينية عنيدة وجادة وتعرف ماذا تريد؟ فهذا نموذج جديد، غير ذلك الذي ألفناه وساد طويلا في الساحة الفلسطينية؟"، إلى غير ذلك من الأسئلة المتناسلة! 

 

حين تكون أسيرا فلسطينيا في سجن صهيوني، وتسمع صفارات إنذارهم، ثم تسمع صوت الصواريخ الباسلة تزلزل الأرض، فإن طيور الحرية في الكون كله تجدها تدقّ باب زنزانتك وحجرتك التي تقيم فيها، وتنظر في عيون القابعين ظلما في السجن من عشرات السنين، وهي تغرّد للحرية، وتسيل دموع الفرح. كانت للفلسطينيين والعرب نكستهم في 1967، والتي نالت من معنوياتهم، وأرست سياسات الاستسلام اللاحقة والقبول بشروط المنتصر، واحتل فيها العدو مقدساتهم وباقي فلسطين وألحقوهما بسيناء والجولان، وذلك كله في ستة أيام بلا حرب ولا قتال، فكانت الهزيمة شاملة ومشهودة وساحقة وماحقة ومذلة وكاسرة للظهر!! وعند مقارنة هذه المواجهة "سيف القدس" بملابساتها الخاصة، وبأيامها الأحد عشر، تمثل بحمولتها المعنوية "نكسة 67" الخاصة بالصهاينة، مثّلت رافعة معنويات هائلة لشعبنا ولأمتنا ولذراري العرب والمسلمين في الأرض، عندما أحيت القضية من جديد، وأطلقت رياح التفاؤل الطيّبة، فمع كل صاروخ دكّ تل أبيب وباقي مدنهم، كان الانعتاق من ذلّ السنين السابقة، ينبعث من نفوسنا بمقدار ذلك الانبعاث الصاروخي. كنّا مع هذه الصواريخ نخلع أبواب وشبابيك ذلّنا وعارنا الذي لحق بنا في نكباتنا ونكساتنا وهزائمنا السابقة.

 

"سيف القدس" بملابساتها الخاصة، وبأيامها الأحد عشر، تمثل بحمولتها المعنوية "نكسة 67" الخاصة بالصهاينة 

 

نعم، لقد رأينا في الصهاينة يوما مشهودا وأي يوم! أين أنت يا جمال عبد الناصر لترى أبناء أبناء الفلسطينيين وهم يغسلون آثار خيبتك؟ أين أنت يا أمين الحافظ ويا نورالدين الأتاسي ويا حافظ الأسد، ويا حسين بن طلال ويا فيصل بن عبد العزيز ويا معمر القذافي ويا الحسن الثاني.. أين أنتم جميعا لتقوموا من قبوركم وتشاهدوا يوم الفلسطينيين المشهود.

 

وأين أنتم أيها المبدعون العرب، الذين أصيب كثير منكم بالصدمة، والبعض بالانهيار العصبي، والبعض الآخر بالبكاء المرير.. أين أنت يا سعد الله ونوّس، ويا توفيق الحكيم، ويا محمد حسنين هيكل، ويا محمد الماغوط، ويا نزار قباني، ويا محمود درويش ويا سميح القاسم ويا نجيب محفوظ، وأين أنت يا مظفر النواب يا كاشف عورات المهزومين لترى هذا اليوم الذي غنّيت له؟

 

لعلّ بعضكم بقي حيّا، ليرى عودة الروح التي استعادتها المقاومة الفلسطينية الجديدة. لا ندري ماذا ستقول يا فيصل حوراني، فقد أخبرتنا في مذكراتك عن حفلة البكاء التي طالتك أيضا، يوم الهزيمة في دار الإذاعة السورية من حزيران 1967، وأين أنت أيها العفيف الأخضر الذي كنت لا تخفي اشمئزازك من جيلنا نحن أبناء الانتفاضتين الفلسطينية (جيل الإسلاميين الفلسطينيين المقاومين) وتأخذ عليها وتعيّرنا بما تعتبره نقيصة فينا "إرادتنا المتضخمة"، وأين أنت يا نايف حواتمة وأنت تصوغ نظرياتك عن "السلام المتوازن". وأين أنت يا صادق جلال المعظم ومناهجك المغرقة في التحليل المجنّح عن صراع الطبقات؟!

 

وأين أنتم يا معشر المؤرخين والفلاسفة والمفكرين الذين كتبتم لنا عن "معنى النكبة" وعن شروط النهضة؟ أين أنت يا شيخ مؤرخينا الأستاذ وليد الخالدي؛ ابن المربي أحمد سامح الخالدي وشقيق ووالد العلماء والمؤرخين؟! أين أنت يا سيدة فيروز والرحابنة الكرام، وأنتم تغنون وتلحنون للبراءة وللقدس، لزهرة المدائن، وأجراس العودة، والشوارع العتيقة ويافا وبيسان والسنونو.. فلقد "غاب نهار آخر" وجاء "نهار ساطع جديد آخر".

 

أين أنتم أيها الحالمون بتحرير فلسطين، أين أنت يا حاج أمين الحسيني، أين أنت يا شيخ حيفا، يا عزالدين القسام وأين أنت يا أبا إبراهيم الكبير، ويا فرحان السعدي.. أين أنت يا خليل الوزير ويا أبا علي إياد، ويا وديع حداد ويا جورج حبش ويا حنا ميخائيل ويا أبا حسن قاسم ويا حمدي سلطان ويا علي أبو طوق.. وأين أنتم يا زارعي البذار.. الشيخ أحمد ياسين، ويا الصوت الحر عبد العزيز الرنتيسي ويا فتحي الشقاقي ويا يحيى عياش ويا صلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وأحمد الجعبري والرهط الكرام.. أين أنتم أيها الرجال.. هاهم أبناؤكم وإخوانكم وأحفادكم يضيئون ليل فلسطين ببأسهم وقوتهم وشكيمتهم، ونبرة صوتهم الجديدة غير المألوفة سابقا. يهدون أمتهم أجمل هدايا: الإرادة، الثقة، المعنويات العالية، التواضع، والاعتماد على الله. ثم الانتصار لكل ما هو حق وجميل الانتصار لقدسنا ومسجدنا وأهلنا وشعبنا. الانتصار لأنفسنا ولقضيتنا، لشعبنا ولأمتنا.

 

جاء في سفر الجامعة من توراتهم: "لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت: للولادة وقت. للموت وقت. للغرس وقت، ولقلع المغروس وقت. للقتل وقت وللشفاء وقت. للهدم وقت وللبناء وقت. للبكاء وقت وللضحك وقت. للنوح وقت وللرقص وقت. للكسب وقت وللخسارة وقت. للصيانة وقت وللطرح للتمزيق وقت، وللتخييط وقت. للسكوت وقت وللتلكم وقت. للحب وقت وللبغض. وقت للحرب وقت وللصلح وقت..." وهاهو وقتنا قد جاء ووقتكم يشارف على الانتهاء.. ها هي بدايات طي صفحتكم السوداء في بلادنا تؤذن بالاقتراب.