الأرجح أنّ المصادفة (انعقاد قمة مجموعة السبع) لم تكن وحدها باعث الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى أن تكون أوروبا هي مسار جولته الخارجية الأولى، أو أن تتضمن زيارة إلى بروكسيل بما تعنيه من دلالة للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في آن معاً؛ أو، أخيراً، أن يكون الختام اجتماعاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، بما قد يحمله المكان من مغزى الحياد.
الإدارة الجديدة في حاجة ماسة إلى ترميم الخرائب التي خلفتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، على هذه المستويات خاصة، وثمة حاجة ماسة إلى ملاقاة العالم الخارجي مباشرة وعبر منصات ومنابر ذات امتياز؛ إذْ ليس كافياً أن يوقّع بايدن قرارات من المكتب البيضاوي، حول العودة إلى اتفاقية المناخ مثلاً.
ولقد استبق بايدن جولته بمقالة شاء أن ينشرها في صحيفة «واشنطن بوست» وليس «نيويورك تايمز» وفي هذا الخيار غمزة خاصة بالطبع، صنّف فيها جولته الأوروبية تحت شعار أوّل عامّ وتعميمي هو الدفاع عن «قِيَم الديمقراطية» وشعار ثانٍ لا يقلّ عمومية وتعميماً هو واجب الولايات المتحدة، العتيق الدائم المتكرر، في قيادة الكون: بصدد إنهاء جائحة كورونا في طول العالم وعرضه، أو معالجة أزمة المناخ ومقتضياتها، أو (لا بدّ مما ليس منه بدّ!) مواجهة أنشطة الصين وروسيا؛ يقع على الولايات المتحدة أن «تقود العالم من موقع قوة».
على مستوى الحكومات والزعماء الأوروبيين والحلفاء، ربما، وأمّا على مستوى الشعوب فإنّ استطلاع رأي مؤسسة «غالوب» الشهيرة الرصينة يستقبل بايدن بإحصائيات تقول إنّ معدلات القبول الشعبي لسياسات الولايات المتحدة وصورتها العامة لا تتجاوز 15٪ في بريطانيا؛ والأرقام الأوروبية الأخرى تقول التالي:18!، في فرنسا؛ 14 في الدانمررك؛ 12، في النروج والبرتغال وبلجيكا؛ 11، في السويد؛ 9، في النمسا؛ 6، في ألمانيا؛ و… 5، في إيسلندا.
ولا تُذكر حكاية القيادة الأمريكية للكون إلا ويستوجب المنهج، إنْ لم نقل التاريخ صانع الدروس، استذكار زبغنيو بريجنسكي؛ أحد أشهر مستشاري الأمن القومي الأمريكي، والأب المؤسس لفكرة منظمة «القاعدة» التي ستفرّخ «جبهة النصرة» و«داعش» و«بوكو حرام» و«حركة الشباب المجاهدين» وسواها في عشرات البلدان؛ والمهندس الأبرز وراء إطلاق تلك «الصناعة الجهادية» التي أعطت «الطالبان» و«الأفغان العرب» وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري والزرقاوي والبغدادي. إنه أيضاً (وفي مناسبة التلازم بين جولة بايدن، والانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ولقاء بايدن- بوتين) «البروفيسور» الذي فتح علبة باندورا الأسطورية الشهيرة، أو أطلق المارد من القمقم كما نقول، متوهماً أنّ الأذى الجهادي سوف يصيب السوفييت وحدهم، ولن ينقلب السحر على الساحر.
معضلات علاقة الولايات المتحدة بالعوالم ما وراء المحيط، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى جانب أوروبا، تظلّ حتى إشعار آخر رهينة نسبة الـ20٪ من رضا العالم عن سلوك القوة الكونية العظمى الأولى، وعن سياساتها بصفة إجمالية
وفي كتابه «فرصة ثانية: ثلاثة رؤساء وأزمة القوّة العظمى الأمريكية» 2008؛ استخدم بريجنسكي تعبير «القيادة الكارثية» في وصف حال الشرطي الأمريكي الذي يتنطع، أو يتنطح بالأحرى، لإدارة الكون فلا يخلّف مآلاً أشدّ وضوحاً من تقويض الموقع الجيو – سياسي للولايات المتحدة. العلاج شاقّ وطويل الأمد، يتنبأ بريجنسكي، وعناوين الفصول، المخصصة للرؤساء الثلاثة، اختصرت نقاط جوهر الملامة التي ألقاها على كاهل كلّ منهم: «جورج بوش الأب، لجهة الخطيئة الأصلية و«شِراك المخيّلة التقليدية»؛ بيل كلنتون، بصدد عجز النوايا الطيبة و«ثمن التورّط الذاتي»؛ و«جورج بوش الابن، بسبب القيادة الكارثية إياها و«سياسة الفزع».
ونفهم أنّ الخطيئة الأصلية هي فشل إدارة بوش الأب في إضفاء أي معنى ملموس على شعار «النظام الدولي الجديد»؛ وعجز كلنتون عن ترجمة الشعار، واغتنام ما خلقت سياسات الشعار من متغيّرات على الأرض؛ وقصور بوش الابن عن فهم البرهة التاريخية بين المخيّلة التقليدية والنوايا الطيبة… وبريجنسكي، الذي رحل عن عالمنا وعن أوهام وخرافات ومَرَدة القيادة الأمريكية سنة 2018، لم تكتحل عيناه برؤية الرئيس الرابع والأربعين باراك أوباما يتفادى تقصير أسلافه الرؤساء الثلاثة، أو يُصلح ما أفسدت سياساتهم، أو يغتنم فرصة كونه أوّل رئيس أفرو ـ أمريكي في تاريخ البلد كي يجترح هذه أو تلك من مبادرات القيادة الكونية.
على العكس، مات بريجنسكي وهو يتابع انحطاط المكانة الأمريكية بأيدي ترامب، والنهوض الشعبوي، وانفتاح أكثر من صندوق باندورا أمريكي على أكثر من مارد عنصري متشدد متطرف. لكنه أبصر، مفتوح العينين على اتساعها كما للمرء أن يتوقع، انتقال «الصناعة الجهادية» إلى سوية التوحش الداعشي، ومفاوضات البيت الأبيض مع الطالبان؛ فضلاً عن انتشار المارد الشعبوي العنصري في مختلف أرجاء «الغرب» بما في ذلك أمريكا معقل الرأسمالية وموئل «القِيَم الديمقراطية».
وبمعزل عن تشاؤم واشنطن وموسكو، معاً، بصدد نتائج قمة جنيف بين الرئيسين الأمريكي والروسي؛ أو التوقعات المعتادة، المزمنة المخيّبة، حول ما يمكن لقمم مجموعة السبع أن تنجزه، في ضوء حصيلتها التاريخية الهزيلة؛ فإنّ معضلات علاقة الولايات المتحدة بالعوالم ما وراء المحيط، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى جانب أوروبا، تظلّ حتى إشعار آخر رهينة نسبة الـ20٪ من رضا العالم عن سلوك القوة الكونية العظمى الأولى، وعن سياساتها بصفة إجمالية. من جانبه فإنّ القمقم، أو صندوق باندورا لمَن يشاء، سوف يواصل استيلاد هذا المارد أو ذاك، ومتلازماتها من أشباح وكوابيس و… فيروسات، أيضاً!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس