كما قال بن غوريون فإن المأساة قوة إن استخدمت في اتجاه منتج،
وإن جوهر الاستراتيجية الصهيونية هو معرفتها كيف تحول نكبتها لعين ماء تنضح إبداعاً
وطاقة، فدولة إسرائيل هي وريثة الستة ملايين يهودي الذين ماتوا في الهولوكوست، وعلى
العرب قبول الهولوكوست وحق إسرائيل في الوجود كصفقة واحدة غير قابلة للفصل.
وفي الواقع أن العرب قد رفضوا تلك الصفقة، ومن قبلها هم الغرب،
على المستوى الرسمي الحكومي، ولكنها تخطت ذلك لتؤثر على إنتاج المعرفة والوعي بدولة
إسرائيل والقضية الفلسطينية في الفكر الثقافي الغربي، ونوضح في مقالنا ذلك الابتزاز
العاطفي الذي يمارسه الهولوكوست في إنتاج موقف المثقف الغربي تجاه إسرائيل من خلال
ثلاثة نماذج تتفاوت مواقفها بين التأييد والاعتدال والمناهضة.
حنة آرندت
من البداية وقفت آرندت في مقالاتها السياسية في أربعينيات
القرن الماضي في وجه الحركة الصهيونية الداعية إلى إنشاء دولة يهودية مستقلة في فلسطين،
حيث رأت في هذا المطلب خطورة وخطيئة كبرى لأنها تتجاهل إرادة وحقوق الفلسطينيين، وأن
فكرة الدولة اليهودية بحد ذاتها قد ينتهي الأمر بها إلى أن تعرض وجود اليهود أنفسهم
في فلسطين للخطر.
وكانت آرندت من دعاة الحل لدولة ثنائية القومية، وهو النهج
الذي دعا إليه مجموعة صغيرة من المثقفين الذين أسسوا جمعية "بريت شالوم"
(ميثاق السلام) والتي هدفت إلى التفاوض مع الزعماء العرب حول الاستيطان اليهودي، إلا
أن نشاط الجمعية قد انحسر في مطلع الثلاثينيات، وفي الأربعينيات تجمع مؤيدو الفكرة
لدولة ثنائية القومية في جمعية تدعى "إيحود" (الاتحاد) التي سعت للاعتراف
بحقوق الفلسطينيين، إلا أنها كانت جمعية صغيرة محدودة النفوذ رغم النخب الثقافية التي
كانت تتبناها.
وحينما صدر قرار التقسيم عام 1947 من الأمم المتحدة، اعترضت
آرندت على القرار وحذرت من نتائجه، وآمنت أن من شأن القرار أن يؤدي في النهاية لطرد
الفلسطينيين وانتهاك حقوقهم، وهو ما يؤدي لنشوب حرب تهدد وجود اليهود أنفسهم، وقد تعاونت
مع يهودا لايب مايمون أول رئيس للجامعة العبرية، وكان من الدعاة إلى الدولة ثنائية
القومية، للحيلولة دون قبول خطة التقسيم، ودعمت جهوده غير المؤثرة لطرح وترويج حلول
بديلة تنشد التفاهم مع ممثلي العرب، وحينما وقعت الحرب، أيد الاثنان في مارس من عام
1948 المبادرة الأمريكية التي تدعو لتنصيب مجلس وصاية يتولى الحكم إلى حين التوصل إلى
اتفاق يضمن حقوق السكان.
وفي أثناء زيارة بيغن للولايات المتحدة عام 1948 قام ألبرت
أينشتاين وحنة آرندت بانتقاد الترحيب الذي لقيه بيغن، بينما كان يجمع تبرعات لمجموعته
الإرهابية الإرجون، وفي رسالة بعثا بها إلى رئيس تحرير "النيويورك تايمز"
شددا على أن المجموعة التي يقودها بيغن ليست منظومة شوفينية يمينية إرهابية فحسب، بل
أنها تنظيماً بأساليبه وفلسفته السياسية وجاذبيته الشعبية، يشبه كثيراً الحزبين النازي
والفاشي، والخطاب السياسي الذي يستخدمه بيغن ورفاقه ليس إلا تمويها، تفضحه أفعال الحزب
الذي يرتكبها على الملأ.
ويتجلى الغضب الإسرائيلي تجاه آثر آرندت الفكري في عملها
الشهير "أيخمان في القدس" حيث شرحت الهولوكوست المقدس نفسياً وفلسفياً، ونزعت
الشيطانية عن أيخمان، وقالت إن اليهودي عليه كشخص منبوذ الإحساس بمسؤوليته تجاه ما
فعله المجتمع به، وطالبت اليهود بتحمل مسئولية أعمالهم واستنباط طريقة سياسية مستمدة
من تجربة الضحايا وتحليل عملية التنكيل بهم.
ورغم أن آرندت كانت قد مدحت حركة الكيبوتس الاشتراكية في
مناسبات عدة، إلا أنها انتقدت المستوطنين الصهاينة بسبب لا مبالاتهم السياسية الكاملة
وإقصائهم للفلسطيني من الصورة وعدم إحساسهم بعواقب المشروع الصهيوني على الواقع الاقتصادي
الفلسطيني، وأدانت مفهوم العمل العبري الذي يستثني العمال العرب، ولامت الحركات اليسارية
التي تجاهلت التضامن مع الفلسطينيين.
ولكن كانت آرندت في النهاية تؤمن بوطن لليهود في إسرائيل،
بشرط التفاهم مع العرب.
مارلون براندو
تقدم إسرائيل نفسها للعالم بصفتها دولة معادية للكولونيالية،
لذلك تحتفل بحرب تسميها "التحرير" 1948، وذلك الأمر لا يؤثر فقط في الجدل
السياسي والأكاديمي في الغرب، وإنما يذهب تأثيره أبعد من ذلك إلى كافة حقول الثقافة
الغربية كذلك، ويؤكد ذلك الممثل مارلون براندو في أفكاره السياسية، فيبدو موقفه تجاه
إسرائيل مناقضاً لحراكه السياسي المعروف في الغرب كمدافع عن حق السكان الأصليين من
الهنود الحمر والملونين من الأفارقة في الولايات المتحدة.
منذ العام 1947 يكتب براندو لعائلته بفخر أنه الآن جزء نشط
لا يتجزأ من منظمة سياسية تهدف إلى جمع التبرعات لإنشاء دولة لليهود في فلسطين، فبعد
الفظائع التي عانى منها اليهود خلال الحرب، اعتقد براندو أن التعويض الأخلاقي الوحيد
هو دولة يهودية مستقلة يتوجب على الاستعمار البريطاني "الظالم" لأراضي اليهود
في فلسطين أن يعيد اليهود إليها ويرحل، وفي هذا السياق ينظر إلى الفلسطينيين باعتبارهم
محتلين استولوا على أرض إسرائيل القديمة، ففي مقابلة صحفية سئل فيها عما يريده الهنود
من الحكومة الأمريكية أجاب براندو قائلاً إنهم لا يريدون أقل أو أكثر مما لدى اليهود
في إسرائيل.
ويحرف براندو المنطق الذي يروج له الذين يعدون معادون للسامية
باعتقادهم أن اللوبي الصهيوني يسيطر على الحكومات الغربية والأمريكية، فيرى أن الفلسطينيين
يسيرون شؤون الشرق الأوسط، وكان هذا في عام 1982 حيث كان الفلسطينيون واللبنانيون يذبحون
بالآلاف في اجتياح إسرائيل للبنان، وهكذا ظل براندو وفياً لحق إسرائيل في الوجود في
نقيض ساخر لدعمه لحقوق السكان الأصليين، حتى مماته.
روجر ووترز
يضرب لنا الموسيقي الإنجليزي روجر ووترز عضو فرقة "بينك
فلويد" سابقاً، مثلاً نادراً في الفكر الثقافي الغربي حول القضية، فمناهضة روجر
لإسرائيل هي مناهضة راديكالية لا تقبل هوادة ولا تخشى اتهامات المعاداة للسامية، ولا
يتوانى عن الظهور بأقمصة العلم الفلسطيني إعلامياً كلما تصاعد العنف الإسرائيلي ضد
الفلسطينيين.
ويتجلى موقف روجرز الصلب في مناهضة إسرائيل من خلال عضويته
النشطة في حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد إسرائيل (BDS) منذ عام 2011، بالإضافة لدعوته الفنانين
الغربيين إلى مقاطعة ثقافية شاملة وعدم تقديم عروض في إسرائيل.
يبدو من مواقف ووترز أنه لم يصبه إشعاع التأثر بالهولوكوست
والبروباجندا الصهيونية في الغرب، بل إنه على وعي بتلك الحملة الإعلامية لغسل الأدمغة
الغربية تجاه فلسطين، فقد شارك معلقاً صوتياً في فيلم The
Occupation of the American Mind الذي صدر عام 2016، ويحكي فيه كيف تعرض الجمهور الأمريكي
للخداع بشكل تدريجي مدرب للغاية منذ عام 1947 فيما يتعلق بالواقع على الأرض في إسرائيل
وباقي بلاد المنطقة العربية.
على النقيض من براندو، يرى ووترز أن العالم الغربي فشل في
إدانة فظائع إسرائيل، بسبب شعورهم بعبئ هائل من الذنب من ماضي الهولوكوست الذي فعلوه
في ألمانيا النازية، ويوجه سهام النقد تجاه التناقض الغربي في الموقف ضد فلسطين، فحزب
العمال الانجليزي الذي يناهض للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة وحقوق الإنسان في كل أنحاء
العالم بغض النظر عن العرق والدين والجنسية، أين هو من الدفاع عن الفلسطينيين؟ بالطبع
لا، فهذا هو الخط الأحمر الذي لا يتخطاه الحقوقي الغربي.