لفهم معنى الحوار عند رئيس الجمهورية التونسية، قد يكون علينا أن نبدأ مما غاب عن الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، قبل أن نمر إلى تفكيك خطاب السيد قيس سعيد في هذه المسألة. عندما يدخل أي مواطن تونسي لتلك الصفحة الرسمية، سيلاحظ هيمنة صوت الرئيس - بمنطق أحادية الصوت وما يعنيه من احتكار للحقيقة وللمعنى الصحيح - وغياب أي صوت مخالف، أي غياب تعددية الأصوات.
منذ أيام، قدّم لنا لقاء الرئيس ببعض رؤساء الوزراء السابقين عينة من هذا المنطق، الذي يطرح "الحوار الداخلي" باعتباره حوارا حقيقيا، ويصوغ "التعليمات" في شكل كأنه اقتراحات. فرغم أن الرئيس قد طلب من ضيوفه تقديم تصوراتهم ومقترحاتهم، فإن صفحة الرئاسة اكتفت كالعادة بكلمة الرئيس، وثبّتت الضيوف في دورهم الأساسي ضمن استراتيجيات التواصل للرئيس: دور الجمهور الذي لا قيمة له في إنتاج المعنى المشترك. أما الرئيس، فقد احتل كدأبه مركز الحدث، ليوضّح بلا لبس فهمه لأسباب الأزمة التونسية، وليقدّم شروطه للدخول في الحوار الوطني.
قدّم لنا لقاء الرئيس ببعض رؤساء الوزراء السابقين عينة من هذا المنطق، الذي يطرح "الحوار الداخلي" باعتباره حوارا حقيقيا، ويصوغ "التعليمات" في شكل كأنه اقتراحات
إننا أمام مقترح رئاسي - لحوار انتقالي يُمهد لحوار ثان - يختلف عن مقترح بعض الفاعلين الجماعيين، خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو ما سنشتغل عليه في هذا المقال، من خلال تفكيك منطق هذا المقترح ورهاناته في هذه المرحلة الهشة من التجربة
الديمقراطية التونسية.
هل كان معاديا للجمهورية الثانية؟
منذ أن كان مجرد وجه إعلامي يُستدعى إلى المنابر الإعلامية باعتباره "خبيرا دستوريا"، لم يُخف السيد قيس سعيد موقفه السلبي من منظومة الحكم بأكملها، أي بحكومتها ومعارضتها، ولكن لم يكن معلوما - إلا عند عدد محدود من التونسيين - أنه يحمل مشروعا سياسيا مختلفا جذريا عن الخيارات "التوافقية" الكبرى للنخب التونسية منذ المجلس التأسيسي، بل منذ "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي".
فـ"الخبير الدستوري" كان يقدّم رأيه من داخل الدستور، وكان يعتبر سلوك النخب تلاعبا بذلك الدستور أو انقلابا عليه، كما كان يتدخل أحيانا عند ظهور تنازع بين السلطات لتقديم رأيه من خلال مرجعية النظام البرلماني المعدّل وبما يراه مُعبّرا عن روح الدستور، خاصة عند اشتداد الخلاف بين المرحوم الباجي قائد السبسي ورئيس الوزراء يوسف الشاهد.
ولم يكن تعديل الدستور أو تغيير النظام السياسي أو القانون الانتخابي من النقاط التي طرحها خلال حملته الانتخابية، بل كان يُصرّ على أنه لا يحمل أي مشروع سياسي جاهز، وأنه سيكتفي بالإنصات لإرادة الشعب. ورغم "هلامية" مفهوم الإرادة الشعبية والتباسه، فإنه لم يكن من السهل على الرئيس أن يدّعي أن تلك الإرادة الشعبية تهدف إلى تعديل الدستور أو ضرب النظام البرلماني المعدل أو تهميش دور الأحزاب، رغم أنه قد صرّح أكثر من مرة بأن زمن الأحزاب قد أفل.
ولكن، بين "إيمان" الرئيس بأن زمن الوسائط التقليدية قد اقترب من نهايته، وبين أن يجعل من ذلك مطلبا شعبيا، توجد فجوة حاول الرئيس ملأها باستثمار الأزمتين البنيوية (اقتصاديا) والتأسيسية (سياسيا)، لطرح الخطوط الكبرى لبديله السياسي الشامل.
شعبيا، توجد فجوة حاول الرئيس ملأها باستثمار الأزمتين البنيوية (اقتصاديا) والتأسيسية (سياسيا)، لطرح الخطوط الكبرى لبديله السياسي الشامل
الاستثمار في الأزمة بين المشروعية السياسية والإشكال الأخلاقي
لقد اخترنا تعبير"استثمار الأزمتين البنيوية والتأسيسية" عن قصد، وذلك لتجنب تلك الأطروحات التي تحاول أن تُظهر الرئيس باعتباره سببا للأزمة الحالية، أي تلك الأطروحات التي تتغافل - بجهل أو بسوء نية - عن الطبيعة الدورية للأزمات التي عرفتها تونس منذ الثورة، أي قبل أن يصبح السيد قيس سعيد فاعلا أساسيا في الحقل السياسي التونسي.
وبصرف النظر عن التوصيف الأخلاقي لاستراتيجية رئيس الجمهورية في "الاستثمار في الأزمة"، وبصرف النظر عما يمكن لمشروعه أن يقدمه للتونسيين واقعيا، فإن منطق السياسة "البراغماتية" - ذلك المنطق الذي لا يمكن للرئيس أن يخرج منه رغم كل ادعاءاته الطهورية -، يعطيه الحق في توظيف الأزمة لخدمة مشروعه السياسي، كما فعل خصومه ويفعلون حتى لحظة كتابة هذا المقال.
السياسة "البراغماتية" - ذلك المنطق الذي لا يمكن للرئيس أن يخرج منه رغم كل ادعاءاته الطهورية -، يعطيه الحق في توظيف الأزمة لخدمة مشروعه السياسي، كما فعل خصومه ويفعلون
هل مشكلته مع الأشخاص والإيديولوجيات أم مع الديمقراطية التمثيلية؟
منذ وصول الرئيس قيس سعيد إلى قصر قرطاج وانتقال مبادرة اختيار رئيس الوزراء إليه، كنا من أوائل الذين نبهوا إلى أن مشكلة الرئيس ليست
مع حركة النهضة بل مع الوسائط الحزبية كلها. فالنهضة باعتبارها الحزب الأغلبي والأكثر عمقا شعبيا، كانت هي "الموضوع المتاح" وليست هي "الموضوع المقصود".
فالمقصود هو مجمل النظام السياسي، بل الجمهورية الثانية كلها. ولو افترضنا جدلا أن الحزب الأغلبي بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة كان حزبا يساريا أو قوميا أو تجمعيا جديدا ، فإن سلوك الرئيس لم يكن ليتغير إلا من جهة مفردات الجملة السياسية، لا من جهة طابعها الصِّدامي القائم على التنافي.
المقصود هو مجمل النظام السياسي، بل الجمهورية الثانية كلها. ولو افترضنا جدلا أن الحزب الأغلبي بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة كان حزبا يساريا أو قوميا أو تجمعيا جديدا ، فإن سلوك الرئيس لم يكن ليتغير إلا من جهة مفردات الجملة السياسية
ولم يكن اختيار السيد إلياس الفخفاخ أو السيد هشام المشيشي - رغم توفر أسماء حزبية وازنة وغير معادية للرئيس - ولا الاعتراض على تعيين بعض الوزراء أو رفض ختم مشروع تعديل قانون
المحكمة الدستورية؛ إلا تفعيلا للخطة "أ" القائمة على تحويل النظام البرلماني المعدل إلى نظام رئاسي واقعيا، أي جعل رئيس الوزراء وزيرا أول أو "رجل قش" خاضعا لتعليمات الرئاسة لا لسلطة مجلس النواب.
وعند فشل تلك الخطة، انتقل الرئيس إلى الخطة "ب" التي تعلن صراحة "موت الجمهورية الثانية" بدستورها ونظامها السياسي. وهو ما حصل عندما أعلن الرئيس شروطة لدخول "الحوار الانتقالي"، أي شروطه للخروج من الأزمة بعد الدفع بها إلى نهاياتها المنطقية: تأسيس جمهورية ثالثة.
من الخطة "أ" إلى الخطة "ب"
بعد أن استيأس من نجاح الخطة الأولى (تحويل النظام إلى نظام رئاسي واقعي دون الحاجة إلى أية مبادرة تشريعية أو استفتاء)، يبدو أن الرئيس قيس سعيد قد اختار منطق "المرور بقوة"، من خلال ما اشترطه لدخول ما أسماه بالحوار الوطني الحقيقي (فكل الحوارات السابقة لم تكن حسب رأيه حوارات ولم تكن وطنية).
وفي الحقيقة، فإن شروط الرئيس لدخول "الحوار الوطني" تنسف منطق الحوار ذاته. فهو وإن تحدث عن "التفكير" الجماعي في ما يقترح، فإنه لا يفترض وجود أية معارضة "وطنية" له. فلا يعارضه إلا "المندسون والخونة والعملاء واللصوص ومن أرواحهم نتنة"، وهو ما ينزع أية مشروعية عن كل معارضة لمشروعه السياسي، ويجعل من الحوار الوطني المقترح مجرد "تفويض" للرئيس كي يُشرعن ما يشاء: تعديل الدستور (تأسيس جمهورية ثالثة تقطع مع الجمهورية الأولى وقد شكك في أرقامها ومنجزاتها الاقتصادية، والجمهورية الثانية التي هي عنده منظومة فساد شامل)، تعديل النظام السياسي (نظام رئاسي يهمش دور الأحزاب والبرلمان)، تعديل القانون الانتخابي (لا في تجاه رفع السقف وتجاوز قانون أفضل البقايا، بل في تجاه قانون انتخابي، أساسه "سحب الوكالة" من النواب دون أي ذكر لإمكانية سحبها من الرئيس).
ماذا بقي من شرعية الرئيس "حامي الدستور"؟
كيف يمكن تصديق الرئيس عندما يعتبر نفسه مؤتمنا على الدستور، بل عندما يضع نفسه سلطة تفسيرية وحيدة لدستور لا يؤمن به ويعلن صراحة رغبته في تعديله؟
إذا ما جمعنا هذه الشروط التي تُخرج الحوار الوطني الذي يقترحه من منطق الحوارات السابقة (وهي عنده ليست حوارات وليست وطنية)، فإن الأسئلة التي تفرض أنفسها هي التالية: كيف يمكن تصديق الرئيس عندما يعتبر نفسه مؤتمنا على الدستور، بل عندما يضع نفسه سلطة تفسيرية وحيدة لدستور لا يؤمن به ويعلن صراحة رغبته في تعديله؟ أليست كل حجج الرئيس لمنع إرساء المحكمة الدستورية و
تعطيل عمل الحكومة، مجرد تبريرات لخلق الشروط الملائمة لتقديم مشروعه السياسي، بعيدا عن رقابة المحكمة الدستورية ودون الحاجة إلى مبادرات تشريعية؟ هل فشلت الديمقراطية التمثيلية فعلا، أم إن ما فشل هو النظام البرلماني المعدل الذي قد يحتاج إلى تعديل صوب نظام برلماني حقيقي، وليس صوب نظام رئاسي يمركز السلطة في يد شخص واحد؟ هل "الديمقراطية المجالسية" مطلب شعبي حقيقي، وهل تحتاج إلى استفتاء شعبي عام أم إلى مجرد حوار وطني يريد الرئيس أن يفرض مخرجاته السياسية قبل انطلاق الحوار ذاته؟ كيف يمكن بناء "المشترك الوطني" أو "الكلمة السواء" بمنطق يحكمه أمثلة الذات وشيطنة الخصوم؟ أو كيف يمكن أن نبنيَ الحقيقة الجماعية "معا" في ظل خطاب لا يعترف بأن الحقيقة لا تسبق الحوار بل تنبثق منه؟
قيس سعيد أو التوصيف الجيد والبديل السيئ
إن نقطة القوة الأساسية في الجملة السياسية للرئيس، هي أنه يشير إلى مشاكل حقيقية ("أقفال الدستور" أو ما أسميناها بالألغام التي وضعها الآباء المؤسسون بحكم منطق التوافقات الانتهازية أو إكراهات السياق، أزمة النظام البرلماني المعدل الذي يعطي الرئيس شرعية شعبية بآلية الانتخاب المباشر ثم يختزل صلاحياته بصورة كبيرة، فشل القانون الانتخابي القائم على اعتماد أفضل البقايا، فساد بعض النخب السياسية، عجز الحكومات المتعاقبة عن تحقيق أي إنجاز حقيقي.. إلخ إلخ)، ولكنّ هذه القوة لا تقابلها قوة اقتراح حقيقية، بل تنسفها بعض خيارات الرئيس وتقاطعاته السياسية محليا وإقليميا ودوليا.
ولعل انحصار مقترح الرئيس في المستوى السياسي وتجنبه أية مقترحات اقتصادية واجتماعية؛ يدلان على هشاشة ذلك المقترح واشتغاله بمنطق "التأجيل" المتعمد للقضايا الحقيقية للفئات المسحوقة، التي جعل الرئيس نفسه ناطقا أوحد باسمها. ونحن نرجح فشل المبادرة الرئاسية إلى أنها هذه المرة تضع نفسها في تقابل صريح مع كل الفاعلين الجماعيين (المنتظم الحزبي، الاتحاد العام التونسي للشغل، ورثة المنظومة القديمة)، بحيث يصعب أن تجد دعما حقيقيا خارج أروقة القصر الرئاسي أو عند بعض الوظيفيين الحالمين بالعودة إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011، وإن بشرعية "ثورية" زائفة.
twitter.com/adel_arabi21