بلغة السياسة الباردة البعيدة عن المواقف المسبقة والتحيزات الأيديولوجية، يمكن القول إن اللقاء الذي جمع الرئيسين الأمريكي جو بايدن والتركي رجب طيب أردوغان في بروكسل، يشكل نقلة مهمة على صعيد العلاقة بين الدولتين، لأن اللقاء بحد ذاته مؤشر على رغبة الدولتين بعدم ترك العلاقة تنحدر إلى مستويات تنعكس سلبا عليهما.
لا يعني ذلك، أن القمة جبت وطوت الخلافات العميقة بين الجانبين، لكنها وضعت استراتيجية قد تكون طويلة لإيجاد حلول وتسويات من شأنها أن تخفف من تبعات هذه الخلافات على مصالح الدولتين في منطقتي أوراسيا والشرق الأوسط.
ثمة تباينات كثيرة بين الدولتين ظهرت بشكل حاد خلال السنوات العشر الماضية، دفعت كل طرف بعيدا عن الآخر، لكن هذه المشكلات يمكن تلخيصها في ملفين رئيسين:
أولا- التسلح التركي من روسيا
شكل شراء تركيا لمنظومة الصواريخ الروسية "S 400" تطورا مهما لجهة العلاقة التركية مع الغرب، إذ لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تقوم دولة عضوا في الناتو بشراء سلاح روسي متطور.
خطورة الخطوة يمكن توصيفها على النحو الآتي:
ـ تعتبر الخطوة التركية سابقة من نوعها لجهة إدخال منظومة تسلح متطورة في دولة هي جزء رئيسي في المنظومة العسكرية الغربية، وقد تشكل هذه الخطوة مقدمة لدول أخرى لتحذو حذو تركيا، وهذا أمر يشكل تهديدا لبنية العلاقة في المعسكر الغربي.
ـ شراء سلاح روسي متطور، سيؤدي بالضرورة إلى حدوث تعاون عسكري بين أنقرة وموسكو، قد لا ينتهي عند حدود هذه الصفقة، بل يتعداه مستقبلا إلى نواح عسكرية أخرى، وهذا أمر سيدفع تركيا نحو روسيا تدريجيا.
ووفقا للمقاربة الأمريكية، فإن صفقة "S 400" من شأنها أن تعرض أمن التكنولوجيا والأفراد العسكريين الأمريكيين للخطر، وتوفر تمويلا كبيرا لقطاع الدفاع الروسي، يسهم في وصول الروس إلى القوات المسلحة التركية وقطاعها الدفاعي، ويساهم في توسيع نفوذ موسكو، فضلا عن أن المنظومة الروسية قادرة على كشف مقاتلات "F 35" الأمريكية وإسقاطها.
لهذا السبب فرضت واشنطن عقوبات على أنقرة بموجب قانون مواجهة خصوم أمريكا من خلال قانون العقوبات "كاتسا"، الذي ينص على نحو خاص على فرض عقوبات عندما تبرم دولة ما "صفقة مهمة" مع قطاع التسليح الروسي.
حتى الآن، لا يعرف ما إن جرت تفاهامت بين بايدن وأردوغان حيال هذا الملف، وإن كان الرئيس التركي أبلغ نظيره الأمريكي بألا يتوقع من تركيا اتخاذ خطوات مختلفة فيما يتعلق بملفي طائرات "F 35"، ومنظومة "S 400"، وعليه سيبقى هذا الملف نقطة توتر بين الجانبين، في ظل إصرار أمريكي على فرض عقوبات عسكرية واقتصادية على تركيا.
ثانيا- دعم الأكراد في سوريا
يشكل الدعم الأمريكي لـ "قوات سوريا الديمقراطية" نقطة خلاف كبيرة بين الجانبين، ولا يتعلق الأمر بالتهديد العسكري الكردي المباشر لتركيا، فمثل هذا التهديد غير موجود، والعكس هو الصحيح، لكن المقاربة التركية لهذا الملف ذات أبعاد استراتيجية بعيدة المدى، فهي تخشى أن يتحول التقسيم الجغرافي-العسكري الحالي في سوريا إلى واقع قائم، خصوصا لدى الجانب الكردي، وتكرار تجربة إقليم كردستان في العراق.
وإذا كانت أنقرة تتحمل إقليما شبه مستقل في شمال العراق، فإنها لا تتحمل إقليما مشابها في الشمال السوري بحكم الجغرافيا، فالتضاريس الجبلية الوعرة في شمالي العراق تحول دون حدوث تأثير كردي مباشر في الداخل التركي، بعكس الوضع في سوريا، حيث الحدود الجغرافية البالغ طولها نحو 900 كلم، هي حدود منبسطة ومفتوحة بين الجانبين، ما يجعل عملية الاختراق أسهل.
للقاء الذي جمع الرئيسين الأمريكي جو بايدن والتركي رجب طيب أردوغان في بروكسل، يشكل نقلة مهمة على صعيد العلاقة بين الدولتين، لأن اللقاء بحد ذاته مؤشر على رغبة الدولتين بعدم ترك العلاقة تنحدر إلى مستويات تنعكس سلبا عليهما.
لا يوجد لدى إدارة بايدن كمثيل الإدارات السابقة ما يقدمه لأردوغان في هذا الملف، فواشنطن غير قادرة على وقف دعمها لـ "قوات سوريا الديمقراطية"، لأن التواجد الأمريكي في الشرق السوري مرتبط بالمشروع العسكري الكردي.
وكل ما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة لتركيا هو تطمينها بأن "مشروع الإدارة الذاتية" لن يتحول إلى كيان ذاتي مستقل، وعليه سيبقى هذا الملف مفتوحا بين الجانبين، لكن مع الهدوء الاستراتيجي القائم في الشمال السوري، فإنه يمكن للدولتين تجاوز هذا الملف مؤقتا للبحث عن أوجه تعاون أخرى.
ساحات إقليمية
الانفتاح التركي على اليونان وفرنسا وأوروبا من جهة، وعلى مصر والسعودية من جهة أخرى، من شأنه أن يعيد لتركيا دورها الكبير في المنطقة، وهي مساحة قد تكون فرصة للتلاقي مع الولايات المتحدة.
ما يهم الولايات المتحدة الآن ثلاثة دول، هي في الأهمية على النحو التالي: أفغانستان، العراق، ليبيا، وفي هذه الدول الثلاث لتركيا دور كبير.
مع إعلان إدارة بايدن عن انسحابها من أفغانستان، لما يشكله استمرار وجودها من تهديدات طرحت الإدارة التركية إمكانية أن تساهم في تسوية الأزمة، في ظل علاقتها الجيدة مع مختلف الأطراف الأفغانية، وقدرتها على إدارة التفاوض فيما بينهما.
ومع أن طالبان ترفض أي دور عسكري تركي، لكن التواجد العسكري التركي في أفغانستان، والعلاقة العميقة مع قطر، صاحبة الحضور القوي في هذا الملف، قد يجعل من أنقرة المكمل العسكري للدور السياسي القطري، وهذه ساحة ذات أولوية أمريكية.
لن تكون قمة بايدن-أردوغان قمة إنهاء الخلافات بين الجانبين، فهذه مسألة معقدة وتحتاج إلى حدوث متغيرات عديدة، غير أن رغبة البلدين في الالتقاء ووجود بعض الملفات المتقاطعة، قد يمهد الطريق لإنهاء الخلافات بين الجانبين، وعودة تركيا للعب الدور الكبير بين الشرق والغرب، دون أن تخسر أيا منهما.
*كاتب وإعلامي سوري
أنقرة والقاهرة مسيرة التنافس والتعاون
إلى أين تقود معضلة وقف تصعيد الكيان الإسرائيلي؟