القراءة المنحرفة والعدوانية للتاريخ والذاكرة، كثيرا ما تحيلنا إلى صراعات صاخبة، وما أثير في الجزائر في الأيام الأخيرة من اتهامات خطيرة للبطل القومي والإسلامي الكبير الأمير عبد القادر الجزائري، الذي دوخ فرنسا الاستعمارية 17 عاما وأذل أعناق عشرات الجنرالات الفرنسيين، انطلاقا من كونه المؤسس الحقيقي للدولة الجزائرية الحديثة، وليس مجرد ثائر كبير، بعد اتهامه بالخيانة من طرف نجل الشهيد الجزائري عميروش، والضجة الكبيرة الحاصلة اليوم في الجزائر بسبب تلك الاتهامات، قد أعادت الرّمزيات التاريخية المشَكِّلة لخيال الأمّة وأحلامها ومجال آدابها وفنونها إلى دائرة الشك بل والاستقطاب الأيديولوجي وحتى العرقي الذي تتحرك من خلالها تلك الاتهامات والاتهامات المضادة.
وإذا كانت ظاهرة التخوين للشخصيات التاريخية التي تحمل رمزية هائلة في وجدان الأمة، قد مست الكثير من الأبطال والرموز والقامات الدينية والثقافية والعسكرية العربية على مر التاريخ، إلا أن دراسة الأنموذج القادري الجزائري الذي نحن بصدده، مثير للشجن حقا، ليس فقط لكونه شخصية نادرة في التاريخ البشري، لتعقيد تركيبتها وتعدد قدراتها العسكرية والفكرية والإنسانية، داخل الجزائر حتى أقاصي الأرض، وإنما لأنه بات رأسا كبيرا يتم استهدافه من منطلق استهداف المشروع الحضاري الذي يمثله، بدليل أن المستهدفين كلهم تقريبا هم من على شاكلة الأمير من حيث الوعاء الحضاري، على غرار رائد النهضة الوطنية الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس، أو أب الوطنية الجزائرية مصالي الحاج، أو حتى الرئيس هواري بومدين، وكل هؤلاء نالوا نصيبهم من القدح والاستنقاص في ظرف زمني وجيز.
وما يحدث أن الجدالات المستحدثة اليوم حول الرموز وعمليات الطعن فيها، لا تعكس بالمطلق رغبة في البحث عن الحقيقة التاريخية، بدليل افتقادها منطق الحجة والقرائن الثابتة التي يصيغها مؤرخون حقيقيون، وإنما يتحكم فيها خاصة عامل تغير معادلات القوة وانتقالها إلى أطراف معادية للرمزية السابقة، لصالح رمزيات مختلقة في الكهوف والمغارات أو اللجوء إلى الخرافة، ولعل في جدلية رمزية شيشناق ما يثبت ذلك.
وعليه تظهر القراءات التاريخية المتطفلة الحالية للأحداث والشخصيات التاريخية خارج سياقاتاها وبيئتها وظروفها، وانطلاقا من أحكام مسبقة مدفوعة بالأيدولوجيا أو "العرقية الكريهة"، عملية مقصودة تساهم فيها قوى أجنبية معادية، ترصد أموالا ضخمة وإمكانيات هائلة لتحطيم "المؤسسة الرمزية المشتركة" التي تقوم على الذاكرة والإنجاز المجتمعي الواحد والتضامني، ما يشكل ضربة أخطر بكثير من تلك التي توجه عادة للجيوش الوطنية ومؤسسات الدولة القائمة.
الهدف جعل الفتح الإسلامي محل تنازع وتشويه
ويجيب الدكتور "جمال ضو"، الباحث في الفيزياء النظرية بجامعة وادي سوف، حول ما يكون الهدف من ضرب الرموز التاريخية للأمة على غرار ما حصل مع الأمير عبد القادر بالتأكيد على أنه من الصعب معرفة الهدف أو الأهداف التي جعلت مثلا قناة إعلامية تختار شخصا معينا في هذا التوقيت الحساس بالذات.. فكثيرون مثلا يتحدثون عن فكرة الإلهاء عبر رمي هذا النوع من الصراعات إلى الشارع.
ولكن إذا تأملنا جيدا نلاحظ أن هذا النوع من الصراعات أو التصريحات التي تنال من رموز تاريخية معينة وتستهدف جزءا محددا من الذاكرة الجماعية والميراث التاريخي المشترك للشعب الجزائري تأتي ضمن نسق متصاعد لخطاب بنغمة محددة منذ سنوات.. مع الإشارة إلى أنه لا يستبعد نية تعفين الوضع في الجزائر في هذا الوقت الحساس.
جمال ضو.. باحث جزائري
ويستدرك الدكتور جمال ضو في سياق حديثه لـ "عربي21": "إذا نظرنا إلى المشهد بشكل عام ومن مستوى أعلى وتتبعنا مسار هذه الخرجات والتصريحات ومحاولات تصحيح التاريخ، بحسب مصادر هذه التصريحات، سنجد أن مصدرها ليسوا أفرادا معزولين كما قد يتصور البعض، بل إن محاولات إعادة قراءة تاريخ الجزائر منذ الفتح الإسلامي أصبحت ضمن الرواية الرسمية للتاريخ الذي يدرس في المناهج التربوية، حيث تم استحضار رموز، أو لنقل استعارة شخصيات من التاريخ لا تمت بصلة لتاريخ هذه الأرض، ورفعها إلى مكانة الرموز التاريخية الجزائرية".
وأضاف: "إن ما يحدث في الحقيقة يبدو ضمن نسق عام ورسمي، وربما بداية إسقاط الرموز ومشروع إعادة كتابة التاريخ كانت انطلاقتها بوضع صور الحيوانات في العملة الجزائرية في التسعينيات وطباعة رسومات لأحداث تاريخية معينة يعلم كل مهتم بالتاريخ رمزيتها. وربما آخر الخرجات كانت في بيان رسمي من مؤسسة الرئاسة وُصف فيه التواجد الإسلامي بهذه الأرض بأنه احتلال.. وقناعتي أن هذا هو الهدف الأبعد والاستراتيجي لهذا المشروع. وإذا ما أصبح الفتح الإسلامي محل تنازع وتشويه فإننا نكون قد بلغنا مرحلة ضرب الأسس التي تقوم عليها لحمة هذا الشعب وأسمنته وليصبح السلم الأهلي برمته على المحك. ومع كل أسف، يبدو أن كثيرين من هذا الطرف أو ذاك لا يدركون خطورة الاقتراب من هذه القضايا التاريخية وصناعة رموز جديدة على أنقاض رموز أخرى، لأن الهدم قد يبدو سهلا... بينما إعادة البناء قد تكون مستحيلة".
ولا يعتقد الدكتور جمال ضو أن عاقلا ومدركا للأحداث التاريخية وسيرورتها يقبل بأن تقرأ الأحداث التاريخية خارج سياقها وبيئتها وكذلك ممارسات الشخصيات التاريخية، ولكن مع الأسف بعض المؤرخين المتحاملين وغير المنصفين كثيرا ما يقعون في هذه القراءة إما عن جهل أو بشكل متعمد.
ويشير الدكتور جمال ضو إلى أن حالة تخوين الأمير عبد القادر ليست حالة فريدة، موضحا: "يمكنني أن أعدد قصصا كثيرة من دول عربية أخرى، حيث تم تشويه وتخوين واتهام بالعلاقة بالماسونية مثلا لشخصيات ومصلحين.. وسأتجنب ذكر هذه الشخصيات حتى لا أجعل الجاهل بها يعلم"..
تشويه الرموز التاريخية ضرب لكيان الدولة
إن الرموز التاريخية يقول الدكتور جمال ضو مهمة في المخيال الشعبي وهي بمثابة الذاكرة المشتركة والمرجعية التاريخية للأمة، وشعرنا أو لم نشعر فإن الشخصيات التاريخية الرمزية تعتبر جزءا من كيان الدول والأمم. ولهذا نجد أن أمما ودولا عظيمة تتجنب الاقتراب من هذه الرموز التاريخية وتتغاضى عن أخطائها وحتى جرائمها تفاديا لضرب التماسك الاجتماعي وضرب كيان الدولة. فلو أخذنا الولايات المتحدة، وهي أعظم وأقوى دولة اليوم، نجد نصبا وتماثيل لا تزال قائمة إلى اليوم لما يعرف بالآباء المؤسسين وشخصيات سياسية في ولايات أمريكية مختلفة، ولكن هؤلاء المؤسسين والشخصيات في الحقيقة حولهم ملاحظات كثيرة، ولكن ثقل التاريخ وسيرورته أعطاهم مكانة رمزية خاصة تجعل ممارساتهم تقرأ في سياق تاريخي وسياسي مخرجاته كانت تأسيس أعظم دولة عرفها التاريخ. بينما في الضفة المقابلة وفي عالمنا العربي والإسلامي يتم تشويه تاريخ شخصيات تاريخية يمكن أن ترفع إلى درجة القداسة إذا ما قارنا ممارساتها وإنجازاتها بالرموز التاريخية في الغرب.
ويعتقد الدكتور جمال ضو أن التصور السائد بأن إحالة هذه الإشكالية إلى المؤرخين سيفك الاشتباك وينقص من حدة الصراع تصور خاطئ.. لأننا هنا عمليا نهمل السياق التاريخي الذي نعيش فيه.. فنحن نعيش في حقبة الهزيمة الحضارية لهذه الأمة، والشعور بالهزيمة الحضارية ينعكس بأشكال مختلفة على أفراد الشعب والأمة، ولكن الشاهد أن فئة كبيرة (مؤرخون، علماء ومثقفون..) تتجه إلى قراءة التاريخ والتراث العربي الإسلامي قراءة تتميز بجلد الذات وتصيد الأخطاء وإخراج الأحداث عن سياقها في محاولة، بحسب زعمهم، لفهم سبب هذه الهزيمة الحضارية.
ويخلص الدكتور جمال ضو في النهاية إلى أن الأخطر من ذلك أن فئة من هؤلاء المنهزمين ومن شدة وطأة عقدة الهزيمة الحضارية تتقمص قيم الحضارة الغالبة وتؤمن بها كليا، ومن هذا المنطلق فإنها تتجه إلى تقديم قراءة عدوانية ومنحرفة للتاريخ، فهي شعرت أو لم تشعر تمثل العمالة الحضارية وتقدم القراءة التي تسعى إلى تسويقها الحضارة الغربية، ولهذا ليس مفاجئا أن نرى أن بدايات القراءة العدوانية والمحرفة للتاريخ والتراث الإسلامي كان روادها كتاب ومثقفون تلقوا تعليهم في المدارس الفرنسية الاستشراقية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ومن هنا ندرك أن هذا النوع من الصراعات سيبقى بيننا ما بقيت الهزيمة الحضارية وما لم نضع أرجلنا في بدايات النهضة الحضارية الثانية.
نحو خلق جيل من ذوي العاهات الفكرية
ويتهم البروفيسور موسى معيرش الباحث في فلسفة الأديان الدوائر السياسات الغربية ومجال نفوذها، بالوقوف وراء ما يجري حاليا، مشيرا إلى أن هذه الأخيرة فقدت الكثير من سطوتها وتأثيرها بسبب التغيرات التي حدثت عقب الحرب الكونية الثانية، وما رافقها من حركة تحرر كبرى، ولم تكن فرنسا بعيدة عن هذا الجانب فقد فقدت مستعمراتها تباعا، غير أن أهم مستعمرة فقدتها تبقى بدون شك الجزائر، لكن ومما زاد من خسارة العدو التاريخي للشعب الجزائري، هو تلك السياسات التي اتخذتها الدولة الجزائرية عقب استرجاع سيادتها، الأمر الذي جعل عدو الأمس يحاول العودة لقواعده التي تركها بعد خروجه بهدف تحقيق نصر سياسي وعسكري والاستيلاء على الدولة ككل، غير أن ما حدث منذ سنتين خلط أوراقها من جديد، بعد أن استعاد الشعب الجزائري دولته بحماية جيشه، فوجهت الدوائر الاستعمارية جهودها هذه المرة لرموز هذا الشعب التاريخية التي سبق وتصدت لمشاريع الاستعمار القديمة.
موسى معيريش.. مفكر جزائري
ويعتبر المفكر والفيلسوف موسى معيريش خلال حديثه لـ "عربي21"، أن ما حدث من هجومات مركزة على الرئيس السابق هواري بومدين، وعلى الزعيم مصالي الحاج، وأخيرا على الأمير عبد القادر لا يمكن أن تكون بريئة وغير موجهة، خاصة أنها تأتي من أشخاص تاريخهم السياسي معروف وتوجههم الإيديولوجي أيضا معروف. منوها إلى أن هذه الهجمات تسعى لهدف واحد هو القضاء على ذاكرة الأمة وتشكيكها في جهاد رجالاتها، تمهيدا لغرس الأباطيل والخرافات لتكوين جيل من ذوي العاهات الفكرية ليسهل فيما بعد التحكم فيه وقيادته، وإعادته تدريجيا إلى أحضان المستعمر التقليدي.
ويضيف البروفيسور موسى معيريش أن البعض ينظر للأحداث التاريخية كأحداث منفصلة بعيدة عن سياقها التاريخي، في حين أننا لا يمكن أن نفسر حدثا تاريخيا دون أن تكون لدينا المعطيات الكافية حول الموضوع، ولا يمكن فهم بعض الأحداث إلا من خلال ربطها بسياقها، وهذا ما يقوله العلماء وأهل الاختصاص والفكر وليس أهل الجهل والعصبية والعمالة.
ويذكر البروفيسور موسى معيريش بحادثة وقعت في تسعينات القرن الماضي في الجزائر، حين "خرج علينا أحدهم ليصرح بأن الرئيس أحمد بن بلة، والسياسي المخضرم عبد الحميد مهري، والمجاهد آيت أحمد خونة لمجرد أنهم عملوا على توقيف نزيف دماء الشعب الجزائري في أعقاب الانقلاب على الإرادة الشعبية. ليخلص إلى أن ظاهرة تخوين الرموز ليست جديدة، بل على العكس من ذلك، فهي ظاهرة يستخدمها من لا تاريخ لهم، رغبة في صناعة أمجاد كاذبة لهم، والكل يذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية عندما هاجمت العراق الشقيق، أول ما قامت به هو ضرب تراثه وسرقة متاحفه وتدمير كل ما يرمز لتاريخه المجيد.. والهدف واضح هو تفكيك روابط الأمة، بعزلها عن رموزها ليسهل تحطيمها.
جدل في السودان حول "سيداو" والمساواة بين المرأة والرجل
الجوانب المعتمة في نظرة "العدل والإحسان" المغربية للمرأة
قضية المرأة في مشروع جماعة العدل والإحسان المغربية (2من2)